شعار قسم ميدان

بدأتا كحرب مؤقتة وانتهتا كمقبرة.. ما أوجه الشبه بين حربيّ أميركا في أفغانستان وفيتنام؟

"لقد تبيَّن أن التحذيرات الأوّلية حول تاريخ أفغانستان بوصفها مقبرة الإمبراطوريات بلا أساس".

(هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي الأميركي السابق) (1)

"ما نراه الآن يُثبت أن ما من قوة عسكرية يمكنها تغيير مجرى الأحداث في أفغانستان المعروفة بأنها مقبرة الغزاة".

(جو بايدن، الرئيس الأميركي) (2)

نحن الآن ننظر إلى اقتباسين يتحدَّثان عن البقعة نفسها من الأرض، صدرا عن مسؤولين بارزين في دولة واحدة هي الولايات المتحدة، لكنَّ الفارق بين أحداثهما 20 عاما. ورد الاقتباس الأول على لسان وزير الخارجية الأميركي ومستشار الأمن القومي الأسبق، هنري كيسنجر، في تحليله للوضع الأفغاني في كتابه الشهير "النظام العالمي"، في سعي واضح منه لشرعَنة ودعم قرار الرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش الابن، بغزو أفغانستان وإسقاط حكم طالبان. وصل زهو كيسنجر بالإنجاز الأميركي إلى درجة وصفه ما جرى بأنه يُعَدُّ "اختراعا جذريا للتاريخ الأفغاني"، مُعتبِرا أن التدخُّل الأميركي أسفر عن حكومة أفغانية ديمقراطية تعدُّدية شفافة ذات سيطرة على مُجمل البلاد، مع جيش وطني أفغاني قادر على الاضطلاع بمسؤولية الأمن على أساس قومي – وطني، وأن ذلك كله حدث "بقدر مُدهِش من المثالية" (3).

بعد 20 عاما، وتحديدا في السادس عشر من أغسطس/آب، أورد الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن في خطاب الانسحاب الكامل ما ذكرناه في الاقتباس الثاني أعلاه. وحتى تكتمل المفارقة، لم يغفل جو بايدن أن يُلقي باللوم على الجيش الأفغاني الذي أنفقت عليه الولايات المتحدة أكثر من تريليونَيْ دولار، لكنه فرَّ هاربا، حدّ وصفه.

بين طيات التناقض بين المقولتين، تبرز العديد من المفارقات والتحليلات. نعم، تغيَّرت الكثير من المعطيات والأولويات خلال 20 عاما بات تركيز الولايات المتحدة فيها مُنصبًّا تجاه ملفات أكثر أهمية بالنسبة لها، داخليا وخارجيا. لكن هذا التضارب الواسع يجعل من المشروع التساؤل حول الأسباب الحقيقية للحروب الخارجية التي تقودها الولايات المتحدة، وعن المُبرِّرات التي يسوقها الرؤساء الأميركيون للدخول في حرب ما، وتلك التي يسوقونها أيضا لتبرير انسحابهم. حدث هذا في أفغانستان اليوم، كما حدث بصورة شبيهة في فيتنام قبل أكثر من سبعة عقود.

تبدأ الحروب عادة بجُموع شعبية مُتحمِّسة، وقيادات حالمة بحرب قصيرة، وخطابات سياسية تُعقلِن الحرب وتجعلها "ضرورة"، لكنها سرعان ما تتحوَّل إلى "غول" يتضخَّم مُبتلِعا قدرا هائلا من المال والسلاح والبشر. وعلى خلاف أنغام الحماسة الأولى، يُعاد ترتيب الأوراق، وتتَّخذ الأحداث منعطفات أخرى. يذكر النقيب السابق في البحرية الأميركية الذي خدم في كلٍّ من العراق وأفغانستان، تيموثي كودو، في مقالة له على نيويورك تايمز أنه يستحضر اليوم أصواتا من العشرين عاما الماضية التي حفَّزته وجنوده لدخول المعركة، وكذا من نشرة الأخبار المسائية التي كانت تُقنعهم بالبقاء، ويُضيف: "هناك ما يكفي من اللوم ليشمل الجميع، الجمهوريين والديمقراطيين والمستقلين على حدٍّ سواء، الذين صوَّتوا دائما وعلى مدار 20 عاما لهؤلاء الرؤساء وأعضاء الكونغرس لتضليلنا وإساءة إدارتنا".

ثمّة أوجه شبه عديدة بين حربَيْ فيتنام وأفغانستان، وتُلخِّص الحربان حقبتين؛ الأولى هي حقبة "الحرب على الشيوعيين" أو ما عُرفت بالحرب الباردة في مواجهة الاتحاد السوفيتي، وأفرزت حرب فيتنام مع حروب وتدخُّلات عسكرية عديدة، مباشرة وغير مباشرة، وصولا إلى حقبة "الحرب على الإرهاب" التي أنتجت الحرب على أفغانستان والعراق.

خلال الحقبة الأولى، غَزَت أميركا فيتنام بدعوى القضاء على الشيوعية، في حرب امتدت 20 عاما مع خسائر اقتصادية وعسكرية وبشرية فادحة، اضطرت معها الولايات المتحدة للانسحاب مُخلِّفة وراءها الكابوس ذاته الذي جاءت من أجله، فسرعان ما سيطرت "القوات الشيوعية" على فيتنام كاملة. وعقب الانسحاب، جاءت برقية للرئيس الأميركي حينها، جيرالد فورد، تقول إن سايغون، العاصمة السابقة لجمهورية فيتنام الجنوبية، سقطت، وإن ذلك "حدث أسرع مما نتوقَّع".

اليوم، وبعد 20 عاما أخرى قضتها القوات الأميركية في أفغانستان منذ عام 2001 بدعوى الحرب على الإرهاب وإزاحة طالبان من حكم أفغانستان، تنسحب الولايات المتحدة لتفتح الباب على مصراعيه لطالبان للسيطرة من جديد على البلاد، وقد سقطت "كابول" أيضا، عاصمة أفغانستان، بصورة أسرع مما كان يتوقَّع الأميركيون.

للحرب رائحة تسبق اندلاعها، هي رائحة ممزوجة بعدو يُجيَّش الشعب حوله، وطموح عسكري للتوسُّع يختلط دوما بمزيج من الخوف والقوة؛ الخوف من تمدُّد "العدو"، مع قوة تسمح لك بتبديد هذا الخوف. وقد كانت أميركا دائمة تمتلك هذا المزيج.

فعلى مدار القرن الفائت، وتحديدا عقب الحرب العالمية الثانية، ومع تصاعد وتيرة الحرب الباردة والمنافسة مع الاتحاد السوفيتي؛ غَزَت الولايات المتحدة دولا عدّة، بالتوازي مع تدخُّلات غير مباشرة لقلب موازين الحكم في عدد من دول العالم. لكن الغزو المباشر تحديدا رافقه عدد من التجارب التي كانت لها تأثيراتها الحادة على السياسة الأميركية. أشهر تلك الحوادث وأكثرها فداحة على الداخل الأميركي هي حرب فيتنام التي امتدَّت بين عامَيْ 1954-1975، علما أن التدخُّل الأميركي الواسع بدأ عام 1964 واستمر حتى 1975، وخلَّف خسائر عسكرية واقتصادية وبشرية فادحة ما زالت آثارها الداخلية قائمة حتى اليوم.

كان السبب الرئيس في دخول الولايات المتحدة للحرب هناك هو دعم حليفها في جنوب فيتنام، والأهم هو منع الشيوعيين الذين يستوطنون شرق فيتنام من التمدُّد والسيطرة على البلاد كاملة، ومن ثم الانتشار في آسيا. كان هذا التدخُّل جزءا من حرب أوسع ضد الاتحاد السوفيتي والشيوعية. بدأ الأمر بدعم مالي وعسكري محدود للفيتناميين الجنوبيين، توسَّع عام 1961 ليصل إلى 3 آلاف مستشار عسكري بقرار من الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي، وتصاعد بشكل حاد بحلول عام 1968 ليصل إلى أكثر من نصف مليون جندي أميركي على الأرض، مع تكلفة سنوية بلغت 77 مليار دولار في العام الواحد فقط. وبحسب وزارة شؤون المحاربين القدامى الأميركية، فإن مجموع مَن خدموا في تلك الحرب بلغ مليونين و700 ألف مقاتل ومقاتلة.

خلال سنوات الحرب، أصرَّ قادة الولايات المتحدة على أن القوة العسكرية ضرورية للدفاع عن دولة ذات سيادة -فيتنام الجنوبية- من العدوان الشيوعي الخارجي، وجاء ذلك في أكثر من مرة على لسان الرئيس الأميركي ليندون جونسون عام 1965. ولكن مع استمرار القتال، وتزايد عدد القتلى الأميركيين الذي وصل في المحصلة إلى ما يقرب من 50 ألف قتيل؛ تَشكَّل مناخ محليّ أميركي ضاغط لإنهاء هذه الحرب.

في نهاية المطاف، أدَّى هذا الضغط الداخلي الهائل إلى إعادة طرح الأسئلة الصعبة، ليتحوَّل خطاب "ضرورة الحرب" إلى خطاب أن فيتنام "لم تَعُد تُشكِّل خطرا على الولايات المتحدة". وفي عام 1975، انسحبت القوات العسكرية الأميركية بعدما تكبَّدت خسائر اقتصادية وعسكرية وبشرية فادحة. أما عن سبب سقوط سايغون السريع، فهو أن الحكومة هناك كانت تعتمد كليا على الدعم العسكري والاقتصادي الأميركي للبقاء على قيد الحياة ضد أعدائها، بما في ذلك العديد من الأحزاب والفصائل غير الشيوعية في الجنوب.

(خطاب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الذي أعلن معه إنهاء حرب فيتنام)

تركت هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام ندبة غائرة في الجسد الأميركي، حتى إن هنري كيسنجر ذاته، مَن كان مستشارا للأمن القومي الأميركي في نهاية حرب فيتنام، وصف الحرب قائلا: "لقد أثبت الجدل الداخلي حول الحرب الفيتنامية أنه أحد أكثر الجراح عُمقا في التاريخ الأميركي" (4)، وتلا هذه الهزيمة آلاف المقالات وعشرات الأفلام القصيرة والوثائقية والسينمائية التي تناولت الحرب هناك، وسلَّطت الضوء على أسباب الفشل، وسوء التقدير الذي رافق الرؤساء الأميركيين الذين لم يُصيبوا الوقت الأمثل للانسحاب، وأدَّى انسحابهم السريع إلى متتالية من الأزمات.

"الدول تهتم فقط بتوازن تميل فيه الكفة إلى مصلحتها".

(نيكولاس سبايكمان، عالم سياسة أميركي) (5)

كانت حرب فيتنام هي الأشد وقعا على الداخل الأميركي، لكن غزو أفغانستان عام 2001، ومن ثم سقوط بغداد عام 2003، كانا من أعمق الحوادث أثرا على محيطنا العربي والإسلامي، وقد جاءا نتيجة للتدخُّل الأميركي في المنطقة خلال العقد الأول من الألفية الجديدة. وكما أن كيسنجر اندهش من "التدخُّل المثالي" في أفغانستان، فهو ذاته الذي وصف التدخُّل الأميركي في العراق بأنه "حوَّل العراق من إحدى أكثر دول الشرق الأوسط قمعا إلى دولة ديمقراطية تعدُّدية من شأنها أن تغدو مصدر إلهام لعملية تحوُّل ديمقراطي في المنطقة" (5)، وأن هذا النجاح "سيبعث برسائل إلى طهران ودمشق بأن الحرية قابلة لأن تكون مستقبل جميع الأمم والشعوب".

وعلى غرار الخطر الشيوعي الذي قاد الولايات المتحدة للتدخُّل في فيتنام إبان الحرب الباردة، مَثَّلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الحلقة الأولى من مسلسل "صناعة العدو الجديد"، وقاطرة التدخُّل الأميركي المباشر في المنطقة. فبعد أيام قليلة من الأحداث الشهيرة، قرَّرت إدارة جورج دبليو بوش غزوَ أفغانستان، وكان الهدف حينها أن تكون الهجمات مركَّزة وفعالة ومحدودة، حيث جاء في خطاب بوش أمام الكونغرس قوله: "هذه الأفعال ذات الأهداف المحددة بعناية مخططة لإحباط استخدام أفغانستان قاعدة عمليات إرهابية، والهجوم على قدرة نظام طالبان". (6)

الاختلاف هنا عن فيتنام أن أميركا لم تتوغَّل في أفغانستان بعمق يُكبِّدها خسائر فادحة كما فيتنام، بل كانت السياسة الأميركية وقتها تستهدف الإبقاء على عدد كافٍ من القوات لمنع طالبان من العودة للحكم، بالإضافة إلى منع "الجماعات الإرهابية" من استخدام البلاد قاعدة لعملياتهم مجددا. ومع هذه السياسة "المحدودة"، فإن عدد الجنود المقاتلين هناك بلغ في مُحصِّلته الإجمالية خلال 20 عاما ما يقرب من 775.000 ألف جندي بتكلفة تخطَّت حاجز تريليونَيْ دولار. لكن أوجه الشبه أكثر من تُحصى، ففي النهاية استغرقت الحرب الخاطفة 20 عاما، ولم تصمد الحكومة والجيش في أفغانستان بعد الانسحاب الأميركي، تماما كما لم تصمد حكومة جنوب فيتنام.

كانت واشنطن قد توصَّلت، بمرور الزمن، إلى قناعة مفادها أن استئصال طالبان ذات الجذور الراسخة في المجتمع الأفغاني يُعَدُّ أمرا مستحيلا، وهو ما دفع إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى الجلوس على طاولة واحدة مع أعداء الأمس لعقد تفاهمات تُفضي في نهاية المطاف إلى انسحاب الولايات المتحدة، مع تقديم طالبان ضمانات بعدم شن طالبان أية عمليات عسكرية ضد القوات الأميركية وحلفائها في أفغانستان، وعدم سماحها لأي طرف -بما في ذلك تنظيم القاعدة- باستخدام أراضي أفغانستان لتهديد أمن الولايات المتحدة وحلفائها.

ومع انسحاب القوات الأميركية في يوليو/تموز الماضي من قاعدة باغرام العسكرية، التي تُعَدُّ آخر معاقل الولايات المتحدة في البلاد، صارت الحكومة الأفغانية هي المسؤول الفعلي عن الأمن. ومع انزياح السبب الوحيد لبقاء الحكومة الأفغانية في الحكم، دشَّنت طالبان حملة هجومية واسعة سيطرت خلالها على معظم عواصم ولايات أفغانستان الـ34 وصولا إلى العاصمة كابول.

وكما تبع هزيمة فيتنام آلاف المقالات وعشرات الأفلام القصيرة والوثائقية والسينمائية، فإن المقالات بدأت تُكتب بالفعل في الولايات المتحدة، مع انتظار الأفلام في قادم الأيام، لتتناول القضايا ذاتها: لماذا فشل الأميركيون؟ ولماذا رافقهم سوء التقدير في تحديد الوقت الأمثل للانسحاب؟ ولعل الأشهر القادمة تحمل أحداثا مُشابهة في العراق حال انسحبت القوات الأميركية المتبقية، لكن الجانب الأهم في كل ما سبق هو أن مَن يدفع الثمن الأكبر هم الضحايا المنسيون للتدخُّل الأميركي، تلك البلدان التي وُعِد أهلها بالخير والرفاه، فأفاقوا على مشاهد القتل والدمار.

________________________________________________________

المصادر:

  1. هنري كيسنجر، النظام العالمي، 311
  2. خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن بتاريخ: 16-8-2021
  3. هنري كيسنجر، المصدر نفسه، ص 313
  4. هنري كيسنجر، المصدر نفسه، ص 292
  5. اقتباس من كتاب "السياسة الخارجية الأميركية ومفكروها"، بيري أندرسون، ص24
  6. جورج دبليو بوش، خطاب رئاسي أمام جلسة مشتركة لمجلس الكونغرس 7 – 10 – 2001
المصدر : الجزيرة