شعار قسم ميدان

كدح وجد وجاذبية.. وتناقض؟ دليلك الشامل لحل لغز يورغن كلوب

يورغن كلوب سيرحل عن ليفربول في نهاية الموسم
يورغن كلوب. (رويترز)

دعنا نقص عليك قصة ربما تسمعها للمرة الألف؛ يُحكى أن أحد الأندية قدم عرضا لشراء أحد اللاعبين من ناد آخر، وتفاوضوا على السعر، ودفع النادي المشتري ثمنا باهظا مقابل اللاعب. وفي أحد المؤتمرات الصحفية، هلَّ علينا يورغن كلوب شاكيا باكيا من الإنفاق الأهوج الذي أفسد سوق الانتقالات. المفارقة هنا أن كلوب قد يتحدث إلى نفسه في المرآة هذه المرة.

 

يعلم الجميع ما حدث؛ فاوض ليفربول برايتون للظفر بخدمات مويسيس كايسيدو، مقابل 110 ملايين باوند، واتفق الناديان على كل شيء، حتى أعلن الإكوادوري رغبته في اللعب فقط لتشيلسي، وأبلغ ممثلي الريدز بذلك، واضعا كلوب بموقف حرج بعد أن أعلن الأخير عن توصل الناديين لاتفاق بالفعل في المؤتمر الصحفي لمباراة تشيلسي. لكن الأمر لا يتعلق بكايسيدو، بل بكارل ماركس اللعبة، الذي تعهد يوما ما بأنه سيترك عالم التدريب إذا أُنفقت 100 مليون على لاعب واحد، ليعترف بخطئه بعد 7 سنوات كاملة عندما قرر ناديه مطاردة كايسيدو قبل أن يظفر تشيلسي بخدماته. لا تخلو الحياة من المفارقات، أليس كذلك؟ (1) (2)

 

نعلم ما قد يجول بخاطرك أيضا عندما تستمع إلى الرجل وهو يتحدث عن بذخ مَن حوله، دون التحدث عن البذخ ذاته بصفقة داروين نونيز مثالا، ونعلم أنك قد تتعجب، وتقول لنفسك كم يبدو ذلك الرجل منافقا أو كاذبا حتى. تمهل، ودعنا نخبرك أن هناك سياقا لكل شيء، ولن يكون القرار الأفضل إن اقتطعنا الأمر من هذا السياق.

 

المشجع.. والمالك.. والمنبوذ

مالك ليفربول ديفيد موريس
مالك ليفربول "ديفيد موريس". (شترستوك)

قد تظن لبرهة أن هذا التعبير على غرار فيلم "الطيب والشرس والقبيح". إن ظننت ذلك، فلقد نجحنا في خداعك. ربما اعتقدت أن المشجع في قصتنا هو الطيب، والمالك هو الشرس أو الشرير. يبدو الأمر منطقيا بطريقة ما، لكن مَن هو المنبوذ؟ ربما علينا إخبارك هنا أننا لا نتحدث عن ثلاثة أشخاص كما بالفيلم، بل عن شخص واحد. (3)

 

تولى "المشجع" ديفيد موريس زمام الأمور في ليفربول منذ 1991 وحتى 2007 تقريبا، عندما حاز على 51% من أسهم النادي حينها، متخذا طريقا مغايرا لعمه، جون موريس، الذي كان رئيسا للجار إيفرتون. كانت عائلة موريس ثرية، ويعود ذلك إلى شركة المراهنات "Littlewoods football pools"، التي تأسست في 1923 على يد جون موريس، وكانت إحدى شركات المراهنات الكبرى، حتى بيعت عام 2002 مقابل 750 مليون دولار. (4)

 

كان امتلاك ليفربول حلما يتحقق بالنسبة لديفيد، الذي كان مشجعا للفريق منذ الصغر. حلم مثالي؛ مشجع، ومالك في الوقت ذاته. لا يمكن تخيل أنه سيقود النادي إلى الهاوية مثلا، أو أنه سوف يبخل على النادي بأمواله، لكن لا يدرك المرء كل ما يتمناه، ولا تجري الرياح بما تشتهي السفن، وغالبا ما يكون الواقع مخالفا للخيال والأحلام.

 

نحن لا نقول إن "المالك" موريس كان سيئا، لكنه لم يكن حريصا بما يكفي على الإنفاق بالبذخ ذاته الذي بدأ في التسعينيات واستمر بعد صعود مانشستر يونايتد إلى القمة واستحواذ أبراموفيتش على تشيلسي. السبب في ذلك كان تحلّيه بما سمّاه "روح المدينة". فضلا، احتفظ بتلك الفكرة لوقت لاحق.

 

هذا لا يعني بالضرورة أنه لم يدعم مدربيه، ولكنه ارتأى أن يدعمهم بما يراه مناسبا في ذلك الوقت، وسرعان ما اكتشف أنه لم يكن كافيا، وكان ذلك في الوقت ذاته الذي كان يفكر به ببناء ملعب جديد في ستانلي بارك من أجل زيادة العوائد، لسد الثغرة المالية بين فريقه وبين اليونايتد وتشيلسي، لكنه أراد أولا أن يضع النادي بين أيدٍ أمينة على حد تعبيره، لهذا رفض أن يبيع النادي لصندوق استثمارات دبي، الذين حاولوا شراءه بعد نهائي إسطنبول عام 2005، عندما علم أن هناك شرطا يسمح لهم بمغادرة النادي بعد 7 سنوات من عملية الشراء. (5)

"لم يردني أحد هناك، لذلك قررت الابتعاد".
ديفيد موريس

عوضا عن ذلك، قرر موريس أن يبيع النادي لمَن توسم بهم خيرا، نتحدث عن توم هيكس وجورج جيليت. وحينها، لم يعلم موريس أنه يعقد صفقة مع الشيطان، حيث اشترى الثنائي النادي عن طريق قروض لم تُسدد من البنك الملكي الاسكتلندي، بل تراكمت الفوائد الناتجة عن هذه القروض، التي أغرقت ليفربول في الديون وكادت تتسبب بإفلاسه. أدى ذلك في النهاية إلى رحيل موريس عن النادي بشكل دائم في 2009، ليتحول أمام نفسه من مشجع، ومالك، إلى "منبوذ" من الجميع، ولم يعد للأنفيلد حتى عام 2019، حينما هزم ليفربول إيفرتون بنتيجة 5-2، وكانت هذه آخر زيارة لموريس للملعب قبل وفاته. (6)

 

الخير والشر بعيون بيتر دي بوديستا

ربما تعلم مَن هو دي بوديستا، وربما لا. على أية حال، يكفيك أن تعلم أنه قاد ثورة في كيفية انتداب اللاعبين في عالم كرة القاعدة؛ اعتمادا على التحليلات الإحصائية لعدد مرات الفوز وعدد مرات الركض المسجلة، التي تجلب النقاط للفريق على مدار المباراة. نعلم أنك تتساءل؛ ما المقصود بـ"الركض"؟ (7)

 

الركض (Runs) هو ما يماثل الأهداف المسجلة في كرة القدم، وكما رأينا في العديد من الأفلام من قبل، عندما يضرب اللاعب الكرة بالمضرب، ويركض حول القواعد الصغيرة الموضوعة عند كل ركن من أركان الملعب قبل أن يلمس الخصم القاعدة الرئيسية، فكأنما سجل هدفا، وبالنسبة لدي بوديستا، إذا أردت الفوز في لعبة كرة القاعدة، فعليك أن تصب تركيزك على عدد مرات الركض، وليس على اللاعبين. (7) (8)

 

ربما إن شاهدت فيلم "Moneyball"، فسيتبادر إلى ذهنك الممثل جوناه هيل (بيتر براند) وهو يحدث براد بيت (بيلي بين) في موقف السيارات عن جوني دايمون؛ اللاعب الذي بلغ راتبه السنوي 7.5 ملايين دولار، دون أن يكون ذا فائدة تجعله يستحق هذا الرقم، وحينها، ستعلم أن بيتر دي بوديستا هو بيتر براند في الفيلم ذاته. (7) (9)

 

بالنسبة لبيلي بين، المدير الرياضي بنادي أوكلاند أثليتيكس (Oakland Athletics) لكرة القاعدة، لا تعبر الـ"Moneyball" مطلقا -مفاجأة- عن قلة الإنفاق قدر الإمكان، بل يتعلق الأمر بإيجاد الموارد المناسبة والواعدة، أملا أن تنفجر وتزداد قيمتها مع الوقت. هذا هو النهج الفعلي لملاك وإدارة ليفربول، حرصا منهم ربما على عدم الوقوع في الخطأ ذاته الذي وقع فيه هيكس وجيليت. وبالتأكيد، لم يجد بيلي بين أفضل من محمد صلاح ليتخذه مثالا على تلك الحالة:

Mohamed Salah of Liverpool
لا عب ليفربول "محمد صلاح". (شترستوك)

"هناك مثال رائع في ليفربول في صلاح. لقد أنفقوا 40 مليونا لجلبه، وهو مبلغ كبير. هذا مثال رائع على كيفية استغلال البيانات في رأيي؛ إنفاق الكثير من الأموال مع الحصول منها على قيمة أكبر مما قد يتوقعه أحد".

بيلي بين (10)

استغرق الأمر وقتا كبيرا نوعا ما، لكن النادي الذي أدخل 233 مليونا في عام 2013 دون احتساب المصروفات، تمكن من إدخال 594 مليونا هذا العام. إذن، نستطيع القول إن "FSG" قد قاموا بعمل كبير فيما يتعلق باستقرار النادي الاقتصادي، ورغم قلة الدعم في بعض المواسم التي احتاج الفريق فيها إلى أسماء ذات جودة، لا يمكن القول إن قائمة الفريق الحالية ينقصها الكثير من حيث الأفراد. (11) (12)

 

نجحت تلك الطريقة بشكل ما، وصلاح دليل على ذلك، بعكس جوني دايمون، في عيون بيتر دي بوديستا على الأقل، لكن إذا دققنا بحديث بيلي بين، فسنجد أنه نفى السردية المتعلقة بقلة الإنفاق، وعندما نضع استعداد الملاك الحاليين لإنفاق 100 مليون على كايسيدو في الصورة، فسيُطرح سؤال مهم؛ ألا يتناقض ذلك مع مبادئ كلوب -سابقا- في الإنفاق؟

 

"شيء جلل أن تكون بطلا للطبقة العاملة"

لنعد بالزمن بضعة وستين عاما، في رحلة إلى شمال غرب بلاد الإنجليز؛ مدينة ليفربول. من ملعب الأنفيلد، مرورا بالمتحف العالمي، وقريبا من قاعة سانت جورج. ها نحن ذا، في شارع سانت ماثيوز، حيث يقبع نادٍ صغير، يتجمع فيه أبناء المدينة لسماع موسيقى البوب. نادٍ سيكون له شأن كبير مستقبلا. نعتذر عن الغموض، نحن نتحدث عن "The Cavern club"، الذي شهد انطلاقة أحد أعظم فرق البوب في التاريخ؛ البيتلز. (13)

 

نريد منك أن تتعرف على المغني الرئيسي، جون لينون؛ لأنه محور حديثنا معك للوقت الحالي. في عام 1970، أصدر جون أغنية تدعى "بطل الطبقة العاملة" (Working class hero)؛ تقديرا منه لتلك الطبقة الكادحة التي لطالما اعتبر نفسه ينتمي إليها، على الرغم من ثرائه النسبي، الذي لم يكن بسبب مسيرته الغنائية فحسب. (13)

 

كانت الأغنية امتدادا لمدينة بأكملها، ففي تقريره على سبورتسكيدا (Sportskeeda)، تحدث ماهنيش كاشياب، الباحث الهندي، عن أوجه التشابه بين السياسة والرياضة في مدينة ذات تقاليد عظيمة كليفربول؛ يرى كاشياب أن الرياضة والسياسة تحتاجان إلى الدعم الشعبي، ولكي يحدث ذلك، على كلٍّ منهما أن يعبّر عما يريده الشعب بالفعل. (14)

 

حينما يتعلق الأمر بليفربول، ترتبط الطبقة العاملة ارتباطا جوهريا بالمدينة -وبالتالي بالنادي أيضا- فهنا علينا تذكيرك بأن ديفيد موريس كان رجلا يتحلى بـ"روح المدينة"، وأن هذا هو سبب عدم إنفاقه ببذخ. كان موريس رجلا تقليديا، مرتبطا بالطبقة العاملة، وكان يؤمن أن الفريق عليه أن يرتبط بالروح ذاتها بدوره، وفي رأي كاشياب، فقد مثل النادي تلك المبادئ منذ قديم الأزل. (4) (14)

 

نعلم كم تبلغ رومانسية تلك الكلمات في وقتنا الحالي؛ حيث العقود طويلة الأمد، والرواتب الباهظة، وأسعار الانتقالات القياسية التي تُكسر كل موسم، وكأنما تحول الأمر إلى استعراض عضلات لصاحب أضخم حساب بنكي. هنا نعود إلى تساؤلنا السابق عن كلوب، ونطرح آخر معاكسا؛ ألا تتوافق تلك الرومانسية مع مبادئه التي تخلى عنها؟

 

اعمل بجد حتى تبني إرثا

يورغن كلوب
عندما نستمع إلى حديث يورغن المستمر عن العمل المُضني، نفهم من أين يأتي ذلك، فلدى الرجل قيم عمل باهرة حقا، وينعكس ذلك على ما يطالب به لاعبيه دائما. (شترستوك)

دعنا نقص عليك قصة أخرى، لنوع متطرف من الألمان، اجتهادهم يفوق الحد، ولا يعرفون معنى الراحة. ربما تظن أننا نبالغ، لكن لم يكن هذا سوى رأي رافائيل هونغستين، حول أهل غلاتن بجنوب غرب ألمانيا؛ البلدية التي ينحدر منها يورغن كلوب.

 

ورث يورغن عن والده شغفه بالكرة، كما تقيَّد كلاهما بتقاليد العمل المضني التي توارثتها أجيال تلك البلدة الصغيرة. كانوا يأخذون كل شيء بجدية حسب هونغستين في كتابه عن يورغن، "Bring the noise: The Jurgen Klopp story"، فكان يقول المثل الشعبي هناك: "اعمل بجد حتى تبني منزلا". (15)

 

قد تشعر وكأنها بقعة من الماضي ووجدت طريقها إلى عالمنا بطريقة ما. هكذا رأى ديريك فايفر الأمر، وهو عمدة البلدية في الوقت الحالي. كان الرجل يظن أنه عاد بالزمن لحقبة الثمانينيات عندما حط الرحال فيها لأول مرة؛ بلدة صغيرة، ولا يعيش بها سوى ألفي شخص، أغلبهم يهتم بري النباتات والأشجار، وبعيدة كل البعد عن صخب المدينة.

 

اختلفت الأمور في وقتنا الحاضر بالطبع، فقد شهدت غلاتن ثورة صناعية، وأصبحت موطنا لشركة رائدة عالميا في تكنولوجيا التفريغ، ولديها مصنع إنتاج لإحدى الشركات المصنعة لأنظمة الحقن لمحركات الديزل الكبرى. (16)

"لا يصبح الركض أسهل عندما تستيقظ في فندق خمسة نجوم. المبالغة في الرفاهية تقودك إلى الراحة".
يورغن كلوب (17)

لطالما وجد سكان غلاتن الألفة والوحدة من خلال قيم العمل الجاد، وعندما نستمع إلى حديث يورغن المستمر عن العمل المُضني، الذي لم يقتصر على الاقتباس أعلاه طبعا، نفهم من أين يأتي ذلك، فلدى الرجل قيم عمل باهرة حقا، وينعكس ذلك على ما يطالب به لاعبيه دائما؛ كالاستمرار بالركض، والضغط بحدة في الملعب بأكمله، والالتزام بروح الجماعة، فمثل سكان غلاتن، توجد تلك الروح وذلك الشغف شعورا عاما بالألفة والاتحاد بين لاعبي الفريق وبعضهم.

 

لا يقتصر ذلك على اللاعبين فحسب، بل يتضمن أفراد النادي أيضا، بداية من المدرب المساعد والمحللين، حتى العاملين الأقل رتبة، ويصبح النادي كيانا واحدا، يهتم أعضاؤه ببعضهم؛ بأمور حياتهم ومستجداتها، فمثلا عندما انضم آندرو روبرتسون إلى الفريق بصيف 2017، كان على وشك أن يصبح أبا للمرة الأولى، ويقال إن أحد أعضاء النادي لم يكن يدري ذلك حينها، فخاطبه كلوب قائلا: "كيف لا تعلم ذلك؟ إنه أهم يوم في حياة الرجل!". (18)

 

أصبحت تلك القيم فلسفة يورغن في الحياة، ويتّبعها بكل فريق يعمل به، وربما يؤثر هذا على اختياره للأندية التي يدربها؛ فلدى جماهيرها علاقة وثيقة بها، ولا نتحدث هنا عن التشجيع فحسب، إذ يمكن لأي أحد تشجيع أي فريق بسبب جودة الكرة التي يلعبها، أو بسبب لاعب بعينه. نحن نتحدث عن الجذور التي ربطت طفلا منذ نعومة أظفاره بحب تلك الفرق.

"إنه نادٍ مميز حقا، إنه نادي الكادحين".
يورغن كلوب متحدثا عن بوروسيا دورتموند (19)

ربما هذا ما يجعله يفضل أندية كليفربول ودورتموند، بسبب شعور الجماهير بالانتماء إلى النادي. كل ما عليك هو النظر إلى مدرج الكوب، أو جدار دورتموند الأصفر، الذي جعل الرجل يتشرف بتدريبهم على حد تعبيره، ثم استمع إلى أهازيج "لن تسير وحدك أبدا"، وانسَ كل شيء آخر للحظة، وانظر إليهم بآذان وعيون يورغن كلوب، ربما حينها ستفهم فلسفة الرجل في الحياة.

"أعتقد أن الطريقة الوحيدة للعيش والنجاح حقا هي من خلال الجهد الجماعي، حيث يعمل الجميع من أجل بعضهم بعضا، ويساعدون بعضهم بعضا، ويحصل الجميع على ما يستحقه في النهاية. قد يتطلب ذلك الكثير، لكن هذه هي الطريقة التي أرى بها كرة القدم وأرى بها الحياة".
يورغن كلوب (20)

الفتنة والتفاني

Liverpool's manager Jurgen Klopp applauds fans after the Friendly match between Liverpool and Athletic Bilbao at Anfield, Liverpool
الذكاء الاجتماعي هو ما يمكن كلوب من استمالة الجماهير للإيمان برؤيته وفكرته عن اللعبة، لأنه يؤمن بدعم الجماهير وآثاره على اللاعبين على أرض الملعب، ويظهر ذلك في مطالبته الدائمة للجماهير بذلك الدعم. (شترستوك)

الفتنة والعمل الجاد وجهان لعملة واحدة منقوش عليها وجه يورغن، فهو ليس جادا في عمله فحسب، بل يملك قدرا هائلا من الجاذبية كذلك. فقط اسأل كريستيان هايدل، المدير الرياضي لماينز ببداية الألفية، حينما قرر أن يتخذ قرارا ثوريا بتعيين كلوب مديرا فنيا، بدلا من إيكهارت كرواتسوم الذي ساءت نتائج الفريق معه، ولم يتطلب الأمر سوى جلسة واحدة مع الفريق لكي يُفتن الجميع به. (15)

"ما زلت أتذكر كيف كان يبدو الأشخاص بتلك الغرفة، لم يسبق لهذا الرجل مخاطبة أي فريق قط، كنت أكثر رشاقة ولياقة حينها، وإذا أعطاني أحدهم زوجا من الأحذية (بعد حديثه) حينها، لكنت تحمست للعب مباراة دويسبورغ! لقد شاهدت 10 أو 11 مدربا سابقا، لكن لم أسمع شيئا كهذا".
كريستيان هايدل متحدثا عن يورغن كلوب

يمكنك أيضا سؤال هانز يواكيم فاتسكه، المدير التنفيذي لبوروسيا دورتموند، الذي لم يحتج سوى إلى رؤية يورغن مرة واحدة في الاستوديو التحليلي لنهائي كأس ألمانيا في 2005، حينما واجه دورتموند بايرن ميونخ، وخسر الأول بنتيجة 2-1، لتتضح الرؤية لفاتسكه؛ علم في تلك اللحظة أن كلوب هو الرجل المنشود، الذي سينتشل دورتموند من الضياع آنذاك. (15)

 

إنها عملة نادرة حقا؛ أن تستطيع التواصل مع مَن حولك، خاصة إن كان ذلك على مستوى عاطفي، وهذا ما يتقنه يورغن. لا شيء خارج عن المألوف هنا؛ لأنك تستطيع استنباط ذلك من تواصله مع جمهور ليفربول، واحتفالاته العاطفية بالأهداف، والقبضات الهوائية التي يوجهها نحو مدرج الكوب بعد انتصارات الريدز.

 

في رأي كاثرين بريغز وإيزابيل مايرز، الكاتبتين الأميركيتين، هناك أربع صفات مهمة يتحلى بها هذا الطراز من الشخصيات؛ الانفتاح، والحدسية، والتفكير، والتفاعل. الـ"ENTP"؛ أحد الأنواع الـ16 للشخصيات حسب المؤشر الذي ابتدعته الكاتبتان، الذي يُدعى بـ"Myers-Briggs type indicator"، وهو استبانة ذاتية تحدد نوع كل شخص بناء على الأفكار التي استنبطتها بريغز من قراءة كتاب "أنواع الشخصية" (Psychological types) ومن الملاحظات التي أعطاها إياها الكاتب، كارل يونغ، وهو مؤسس علم النفس التحليلي، وحسب هذه الاستبانة، ينتمي كلوب إلى فئة الـ"ENTP"؛ فهو شخص منبسط ومنفتح على الناس، ولديه مجموعة مبادئ وأفكار محددة، ويتخذ قراراته بناء على تفكير منطقي، ويمكنك القول إنه مرن وعفوي إلى حدٍّ كبير. (21) (22)

 

تتسم تلك النوعية من الشخصيات بالفضول والذكاء، الذي يجعلهم أشخاصا مبتكرين وملهمين، ويسعون دائما لفهم الأشخاص من حولهم والتفاعل معهم. ليسوا تقليديين، وباختصار مخل؛ لديهم ذكاء اجتماعي باهر، يُمَكِّنهم من التصادق مع مَن حولهم واستمالتهم، وجعلهم يؤمنون بالأفكار ذاتها التي يؤمنون بها. ألا تشعر وكأننا نتحدث عن كلوب خاصة، وليس عن نوع معين من الأشخاص بوجه عام؟ (22)

 

هذا الذكاء الاجتماعي هو ما يمكن كلوب من استمالة الجماهير للإيمان برؤيته وفكرته عن اللعبة، لأنه يؤمن بدعم الجماهير وآثاره على اللاعبين على أرض الملعب، ويظهر ذلك في مطالبته الدائمة للجماهير بذلك الدعم، سواء كان من على خط التماس أو بمؤتمراته الصحفية. لكن ماذا لو تخيلنا هذا الأثر خارج الملعب؟ ماذا لو كانت جاذبية الجماهير ليورغن سببا في تكراره للجملة ذاتها؟ الجملة التي تعد سبب حديثنا هذا من الأساس؛ "نحن لسنا مثل الفرق الأخرى. لا نستطيع الإنفاق مثلهم!".

 

هذا لا يعني أن الفريق عاجز عن الإنفاق بشكل مطلق، لم يقل كلوب هذا يوما إن تحرينا الصدق، ولكن هناك سقف لطموحاته في الإنفاق، فكما ذكر الرجل مرارا؛ فلا يستطيع ليفربول إنفاق ما يقارب الـ550 مليونا في موسم واحد مثل تشيلسي، ولا يملك الرفاهية المالية لإحلال وتجديد خط دفاعه أكثر من مرة في فترة قصيرة مثل سيتي بيب. (23)

لكن إن وضعنا نشأة كلوب وشخصيته في الحسبان، وموقفه من الرفاهية، بجانب تقاليد ليفربول مدينة وناديا، ناهيك بالنموذج الاقتصادي لـ"FSG"، وأخيرا وليس آخرا؛ إيمانه بأن الجمهور جزء لا يتجزأ من المعادلة، فربما يكتسب حديث كلوب معنى.

 

في أحد مقالاته، تحدث غافين كوني عن توجهات كلوب السياسية والحياتية، وذكر أن كلوب حريص دائما على تذكير لاعبيه بمسؤوليتهم تجاه الجماهير، ناهيك باعتقاده الدائم بأن هذه اللعبة تُمارس من أجل الطبقات العاملة. ربما يستهدف تلك الطبقات بحديثه عن محدودية إنفاق هؤلاء الذين يمثلهم هذا النادي منذ زمن. ربما تكون تلك طريقته ليجعل النادي برمته، لاعبين وجماهير، كيانا واحدا. (20)

 

لكن رغم كل ذلك؛ رغم حديثنا عن مبادئ الرجل، وقيم بلدته الأم التي غُرزت فيه، هل شعرت حقا أننا أجبناك عن السؤالين المتناقضين آنفا؟ هل شعرت أنك علمت سبب تخلي كلوب عن مبادئه في "تبذير المال" كما يوحي حديثه عن صفقة بوغبا، في الوقت ذاته الذي يختار فيه فرقا لها إرث تاريخي في الكدح والشعبوية؟ سنفترض أنك لم تعلم بعد.

 

العتمة -الصادمة- وسط النور

Liverpool manager Jurgen Klopp
كلوب وضع الفريق الذي لم ينفق أكثر من 50 مليون يورو طوال تاريخه إلا على صفقتين فقط، في المصاف ذاته بوصفها فرقا لديها نصيبها من المبالغة في الإنفاق والصفقات الفاشلة. (شترستوك)

بالعودة إلى اعتذار كلوب مؤخرا عما قاله في 2016 عن صفقة بوغبا إلى مانشستر يونايتد، فلم يكن هذا الاعتذار الأول، ولا نظن أنه سيكون الأخير، بافتراض أن ليفربول سيستمر في السير على النهج الاقتصادي ذاته بالتأكيد، لأن النادي سيكون أكثر استقرارا حينها، وأكثر استعدادا للإنفاق حين الحاجة والفرصة، قياسا على نموذج النادي اقتصاديا.

 

لكن دعنا نتذكر تلك اللحظة التي قرر فيها جون هنري شراء ليفربول مقابل 300 مليون يورو، ولنتخيل أنه لم يقرر انتهاج أسلوب الـ"Moneyball"، بل استغل ثروته في الإنفاق المجنون باستمرار على سوق الانتقالات عوضا عن ذلك. هل تؤمن بالعوالم الموازية؟ ربما لقَبِل كلوب عرض مانشستر يونايتد عام 2014، واستمر بالشكوى من إنفاق ليفربول الذي لا يتوقف، ولربما لم يكن ليتغير شيء على الإطلاق سوى تبريرات كلوب حينها لإنفاق فريقه وبذخه في سوق الانتقالات.

"بعض الأندية لا تأبه لضبابية المستقبل، سواء كانوا مملوكين لدول، أو لأوليغارشي، هذه هي الحقيقة. نحن نادٍ مختلف".
يورغن كلوب (24)

يبدو أن كلوب نسي أن ناديه مملوك لأوليغارشي (Oligarch) أيضا، وهو الاصطلاح اليوناني لرجال الأعمال فاحشي الثراء. الفارق أنه لم يقرر تبذير المال فحسب، وقرر اتباع نهج مغاير. لكن هل يمنح ذلك كلوب الحق للحكم على الآخرين؟ هل يضعه ذلك في منصة أعلى أخلاقيا؟ هل يسمح له بالتعامل مع الجميع من هذا المنطلق؟ إذن لِمَ يتغافل عن توحش "FSG" الاقتصادي؟ نعلم أن الأخير لا يبذر المال يمينا ويسارا، بعيدا عن الأسباب الاقتصادية لذلك، وينفق بحكمة مقارنة بأندية أخرى، لكن تخبط الرجل في حكمه على الأمور جعله يضع نيوكاسل في مصاف الأندية التي يذكرها باستمرار من حيث البذخ!

 

كلوب وضع الفريق الذي لم ينفق أكثر من 50 مليون يورو طوال تاريخه إلا على صفقتين فقط؛ ألكساندر إسحاق من ريال سوسيداد (70 مليونا)، وساندرو تونالي من ميلان (64 مليونا)، في المصاف ذاته بوصفها فرقا لديها نصيبها من المبالغة في الإنفاق والصفقات الفاشلة ولمختلف الأسباب، لمجرد أنهم "مدعومون من إحدى الدول" على حد تعبيره. الرجل ذاته الذي يتحدث عن مدى تميز ليفربول لأنه يتولى أموره بشكل مختلف وأكثر حرصا، يتحدث بالسلب عن رفاهية النادي الذي يتبع نهجا شبيها! (25) (26)

 

هذا ليس انتقاصا من الرجل أو من عمله، أو من القيم التي يمثلها، لكنها تذكرة بأننا بشر، وأن كلوب ليس مختلفا؛ فهو ليس مثاليا، لأن هناك صراعا بداخله، أدخله في موجة من التخبطات لم يتخطَّ تأثيرها عليه سوى ردود الأفعال الغاضبة تجاهه؛ فلِمَ يعتذر عن الأمر ذاته في مناسبتين؟ هكذا هي المفارقات؛ صادمة، وقوية، وتغير قناعاتك.

 

لم يتعلق الأمر يوما بالتناقض أو الكذب، بل يتعلق بما نمر به من اختبارات لمبادئنا، التي تضعنا في موقف حرج أمام أنفسنا أحيانا، لأننا نكتشف أننا لسنا مثاليين، وأننا معرضون للخطأ، ويضعنا هذا في الصراع ذاته الذي يمر به شخص مثل يورغن كلوب؛ أنحن مُدّعون؟ هل ننافق مَن حولنا؟ هل جعلتنا الحياة مسوخا؟ والحقيقة أن حل لغز يورغن يقبع بداخل كل شخص فينا؛ فقط تذكر آخر مرة خيّرتك الحياة بين مبادئك وبين متطلبات العصر، وتذكر خيارك، وضع نفسك مكان يورغن كلوب.

———————————————————————

المصادر:

1- كايسيدو يبلغ ليفربول برغبته في الانتقال إلى تشيلسي وقرب الأخير من انتدابه – Eurosport

2- كلوب يعتذر عما قاله عن صفقة بوغبا في 2016 – Yahoo

3- فيلم "الطيب والشرس والقبيح" – IMDB

4- إحياء لذكرى ديفيد موريس..الرئيس الذي أحب ليفربول – This is Anfield

5- الليلة التي عاد فيها ديفيد موريس إلى أنفيلد – The Atletic

6- أبرز ما حدث في عصر هيكس وجيليت – Bleacher Report

7- علم الـMoneyball – Samford University

8- معنى الركض في كرة القاعدة – Baseball Bible

9- فيلم Moneyball – IMDB

10- بيلي بين يشيد بصفقة صلاح – Tribuna

11- ليفربول يتخطى مانشستر يونايتد في المدخلات المالية لموسم 21/22 – Sky sports

12- قيم مدخلات الفرق لموسم 2011/2012 – Deloitte FML

13- معنى كلمات أغنية جون لينون "Working class hero" – Songs meanings and facts

14- مدينة ليفربول وتقاليدها العظيمة – Sportskeeda

15- قصة يورغن كلوب "Bring the noise" – Amazon

16- من مدينة توخيل إلى قرية كلوب – The Athletic

17- 13اقتباسا عن يورغن كلوب – Planet football

18- كيف ساعدت مهارات كلوب القيادية ليفربول للوصول للقمة – The conversation

19- كلوب يحث المشجعين على دعم بروسيا دورتموند – The Guardian

20- "لن أعطي صوتي لليمين أبدا!" –يورغن كلوب – Balls.ie

21- نوع شخصية يورغن كلوب – Personality at work

22- الشخصيات الـENTP – Truity

23- سوق انتقالات تشيلسي 22/23 – Transfermarkt

24-"نحن نوع مختلف من الأندية" – يورغن كلوب – Extra.ie

25-صفقات انتقال نيوكاسل تاريخيا – Transfermarkt

26- كلوب يذكر 3 أندية لا يستطيع مجاراتهم ماليا – This is Anfield

المصدر : الجزيرة