شعار قسم ميدان

ميسي ليس الأول.. كيف خدعت الولايات المتحدة الأميركية يوهان كرويف؟

ميسي ويوهان كرويف.
ميسي ويوهان كرويف. (الجزيرة)

"لقد كان مكانا مثاليا لبدء حياة جديدة بعيدا عن صراعات الماضي، منبعٌ فكريٌ هائل، ومنه تعلمت التنظيم الذي اتبعته في مؤسستي فيما بعد، لقد كان قرار انتقالي إلى هذه الدولة من أعظم القرارات التي اتخذتها".

يوهان كرويف

أهلا بك مرة أخرى، نتوقع أنك قد اطلعت على الجزء الأول من هذا التقرير، وإن لم تفعل، فيكفيك معرفة أننا حاولنا مناقشة حال كرة القدم في الولايات المتحدة الأميركية عن طريق إعادة النظر في صفقة انتقال ليونيل ميسي إلى "إنتر ميامي"، أما هنا فسنناقشُ الأمر من وجهة نظر أخرى، من وجهة نظر "يوهان كرويف" على وجه التحديد، ولتشابهاتٍ ستظهرُ تباعا. (1)

 

"الشائعات"؛ نضعها بين علامتي تنصيص لأنها ستظل بطلةَ الحكاية، فما جنح إليه ليونيل قبل أسابيع قليلة، ذهب إليه كرويف قبل نصف قرن بالأسلوب نفسه وللدوافع نفسها، ورغم مرور الوقت ظلَّ محملا بالكم نفسه من القيل والقال. يوهان يتنفس كرة القدم لذا سيتجه للتدريب، وقد توجه نحو أياكس أمستردام كحل متاح للأزمات الإدارية، لكنه سيتراجع، رغم ذلك، عن اعتزال اللعب، ليستكمل المسيرة في أحضان الكامب نو، أحاديث متقلبة، ودوائر تتلو الدوائر، وفي النهاية إنه هنا في… حسنا، لحظة واحدة؛ سنعطيك فرصة لتوقع النهاية بما أنك تابعت ما نشرناه هنا سابقا.

 

ولتنشيط الذاكرة بصورة أكبر؛ سنستعين بأسلوب "العودة في الزمن" مجددا للوصول إلى نقطة أعقد من سابقيها، تحديدا نحو مدينة نيويورك، حيث يجلس عرابُ المدرسة الكروية التي آنسها ميسي ورفاقه على الطاولة المستطيلة ذاتها، موقِّعا على اتفاق يضمه إلى كتيبة كروية تعمل تحت قيادة اللواء الفيدرالي. وقبل أن تُبدي اندهاشك من استخدام تلك المصطلحات العسكرية التي توحي بأننا نتحدث عما هو أكبر من لعبة رياضية للترفيه، سنصدمك للمرة الثانية بأن الأمر، وفي أميركا تحديدا، سيظلُ للأبد أكبر من لعبة رياضية للترفيه.

 

في كتابه، "My turn"، يرصد يوهان كرويف تفاصيل العلاقة المتشعبة بكرة القدم في الولايات المتحدة الأميركية، بداية من انتقاله إلى نادي لوس أنجلوس أزتكس عام 1978، ومرورا باختياره عضوا فخريا في الأولمبياد الخاصة بأميركا الشمالية، الأمر الذي أدى إلى تقارب العلاقة بين الهولندي ودولة تأبى أن ترى في كرة القدم لعبة شعبية أولى من الأساس، بل وتحصر نفسها في قوقعة خاصة تسمى كرة القدم الأميركية، التعبير الأعظم عن الحلم الأميركي المزعوم. (3) (2)

تشتهر الولايات المتحدة، إعلاميا على الأقل، بعدد من السمات، أهمها الحرية والاستقلال. شعور زائف بالاستحقاق والتميز كان سببا في ولادة كرة القدم الأميركية، ومن هنا يقع الارتباط؛ فكلما زادت مكانة الولايات المتحدة على المستوى الدولي، زاد معها تمسك الأميركيين بكرة القدم الخاصة بهم؛ الدفاع المستميت عن المرمى سيصبحُ بديلا للدفاع عن الأرض التي ناشدوها لسنوات، والذكاء الخططي الشديد قد يُذكّرنا بعبقرية تمتع بها الآباء المؤسسون، أما التدخلات الوحشية التي تغير من مصير اللعبة في أقل من ثانية، يمكن اعتبارها نموذجا مصغرا من ضربات الجيش الأميركي المُتحكمة في أحداث العالم، بداية من هيروشيما ووصولا إلى العراق. (2)

 

تضح بالبحث والمقاربة أن النزعة التي انتقل من خلالها كرويف إلى الولايات المتحدة ظلت معلقة في حناجر الأميركيين حتى انتقل من خلالها ليونيل بعد ذلك، ومنها صنعوا ما يشبه "الغيتو" متمثلا في لعبة لا يلعبها غيرهم، ولكنهم أيضا لم ينسوا أن يطبقوها على باقي الرياضات الشعبية في العالم، وأولها كرة القدم، حتى تصبح الدولة متفوقة في كل شيء، وتظل ممسكة بزمام الأمور، ورغم عبثية المشروع؛ اقتنع به كرويف قديما، وفي خضم أحداث الحرب الباردة، وللمصادفة، اقتنع به ليونيل هو الآخر في عالم ما بعد الحرب الباردة، في دلالة واضحة على أن السياسة الأميركية لا يغيرها الزمن.

 

وقبل استكمال الصورة والغرق في التفاصيل قد يظهر تساؤل مهم: ما آلية عمل الرياضة نفسها حتى تصبح متصدرة في كل مشهد سياسي أو اجتماعي؟ حسنا، لا داعي للقلق، لأن كرويف يحمل في جعبته تلك الإجابة.

 

بدايات التجربة

في هوليوود، وعندما تقرر إحدى شركات الإنتاج صنع فيلم يدور في فلك مدرسة ثانوية أو حرم جامعي، تصبح الرياضة -تلقائيا- أهم لاعب في المشهد الاجتماعي للفيلم، وهذا أمر ليس دخيلا على الحقيقة، حيث فرض القانون الأميركي الرياضة على الجميع، وخاصة الشباب في سن المراهقة، كما وفرت الرياضة، المنظمة غير الرسمية، فرصة للشباب لبذل طاقاتهم المكبوتة.

 

تقدم الجامعات منحا دراسية رياضية للطلاب المؤهلين أكاديميا والمهرة في رياضة معينة، وتمتد لكل الألعاب من الرماية إلى المصارعة إلى كرة القدم، مع التركيز على المساواة بين الجنسين وتحقيق التوازن بين الرجال والنساء، كما يُصرف نحو مليار دولار من المنح الدراسية الرياضية خلال العام من قِبل الرابطة الوطنية لألعاب القوى (NCAA)، على سبيل المثال، ويحصل أكثر من 126000 طالب على منحة رياضية جزئية أو كاملة. (4)

كانت تلك الفلسفة أول أسباب انبهار كرويف، فعلى حد تعبيره، كانت ممارسة الرياضة في أوروبا مثالا للرفاهية غير الضرورية للأطفال. التعليم في أوروبا هو التعليم الحكومي الذي يضمن لصاحبه عملا مكتبيا متداولا ومعروفا، أما الرياضة فلا تتعدى كونها نشاطا ترفيهيا يقتطع من وقت الدراسة، وهي الرؤية التي تعامل كرويف مع نقيضها في التجربة الأميركية، التي تعتبر الرياضة تعليما حقيقيا يؤسس لمسلك وظيفي يجلب الرزق، وهذا فارق ضخم في الوعي والأهلية. (2)

 

في عام 2003، نشط 58% من الأولاد و51% من الفتيات في المدرسة الثانوية في فريق رياضي، أكثر الرياضات شعبية بالنسبة للأولاد كانت كرة القدم الأميركية، وكرة السلة، والبيسبول، وللفتيات كانت كرة السلة والكرة الطائرة، ونتيجة للقانون الذي يشجع النساء على المشاركة في ألعاب القوى، زادت مشاركة الفتيات في ألعاب القوى في المدارس الثانوية بنسبة 800% خلال الثلاثين عاما الماضية، أما عن كرة القدم فقد احتلت عام 2021 المرتبة الرابعة من حيث نسبة مشاركة الطلاب، حيث لعب أكثر من 800 ألف طالب في فرق المدارس الثانوية، بعد أن كانوا لا يتعدون 50 ألفا بداية الألفية. (4)

 

وعند هذه المرحلة، وبناء على تلك المنهجية، تبدأ علاقة الأميركيين بالرياضة في التبلور داخل عقل كرويف، وبمد الخط على استقامته وإسقاطه على كرة القدم، يأخذ توقعه بحصدهم لكأس العالم خلال سنوات قليلة أبعادا أخرى.

 

مواهب مدفونة

FBL-USA-MLS-MIAMI-MESSI
لا تضيف الصفقات الكبيرة من طينة كرويف وميسي أهمية خاصة، لأن استقدامهما لم يكن يهدف إلى تطوير اللعبة في الأساس. (الفرنسية)

عند سؤاله في أحد اللقاءات عن سر تخلف بلاده في كرة القدم، أجاب بوب برادلي، المدرب الأميركي الذي قاد المنتخب المصري في تلك الليلة المأساوية أمام غانا، بطرح يرتكز على محورين: الأول هو عدم توفر المدربين أصحاب الكفاءة، والثاني هو غياب التنافسية بين قطاعات الشباب في سن الدراسة. (5) مفاجأة، أليس كذلك؟

 

إيرني ستيوارت، المدير الفني السابق للمنتخب الأميركي، أقر أيضا في تصريحات سابقة أن النظام الأميركي لا يخصص وقتا كافيا لتطوير اللاعبين، فالمواهب موجودة بالفعل، لكن النظام الدراسي لا يساعد على تقوية تلك المواهب نظرا لانعدام النزعة التنافسية، رغم أن سن المراهقة عادة ما يكون فرصة لاقتحام الفريق الأول بعد التدرج في الفئات السنية بالأكاديمية والاختلاط بأنظمة خططية أكثر تعقيدا، تتم بناء على حساب منافسات الدوري الذي يقبع فيه الفريق، وبالتالي تزداد فرص صقل المواهب مع التجربة. (5)

 

هذا ما تؤكده نتائج نظرية "التجربة والخطأ" لعالم النفس الاجتماعي "إدوارد ثوراندايك"، حيث إن استجابة المرء للمؤثرات تكون أقوى بالاستعمال، وأضعف بالإهمال والترك، هذا يعني أن وضع اللاعب في سياق المباريات ذات الضغط التنافسي، وما يصاحبها من تجهيزات بدنية ونفسية، ستزيد من استجابة التعلم، التي يكون هدفها في تلك الحالة هو الفوز بالمباراة أو البطولة، وليس مجرد الشعور بالمتعة. (6)

 

لكن ما حدث فعلا أنهم تخلصوا من ذلك الشعور، وحشدوا جميع المباريات في 4 أشهر تقريبا من العام الدراسي بمعدل 3 مباريات أسبوعيا، مع معدل جري من 6 إلى 9 أميال كل ثلاثة أيام؛ ضغط بدني رهيب، وهامش أقل للتطور، وفترة راحة كبيرة تُقدَّر بثمانية أشهر دون تدريب حقيقي أو عمل، ما يعني إصابات عضلية وذهنية أكبر. في تقريرها السنوي، أشارت الرابطة الوطنية لألعاب القوى الجماعية إلى أن معدل إصابة لاعبي كرة القدم يزيد بنسبة ست مرات عندما يلعب اللاعب مباراتين في الأسبوع مقابل اللعب لمرة واحدة في الأسبوع، فما بالك بمَن يلعب ثلاث مباريات أسبوعيا، ولأربعة أشهر كاملة. (12)

 

"تحطيم كامل لآمال الشباب في سن صغيرة" كما عبر جورج كامبل، أحد اللاعبين الذين اضطروا للاعتزال مبكرا في الجامعة، بعد إصابته بتمزق في الأربطة في السنة الأولى، وخلع في المرفق في السنة الثانية، وبحلول سنته الثالثة، كانت ركبتاه تؤلمانه حتى همس أحد الأطباء في أذنه: "جورج.. لن تتمكن من الركض بعد اليوم".

 

أما كارلوس سوموانو، مدرب فريق جامعة "نورث كارولينا"، فقد صرح أنه يخسر من اثنين إلى ثلاثة لاعبين كل عام، حين يتخلى اللاعبون عن المنح الدراسية الكاملة لأنهم قلقون بشأن الإصابات، والقليل منهم فقط يرضى بدور هامشي في لعبة أخرى، لأنه لن يكون مضطرا للعب أيام الجمعة والأحد ثم الثلاثاء من كل أسبوع دون فرصة واحدة للتعافي. (7)

 

وهنا تظهر السقطة الأولى، ويبدأ الحلم الأميركي المنقوص في التكشُّف تباعا، فلا جدوى حقيقية من تدريب الناشئين، ولا تضيف الصفقات الكبيرة من طينة كرويف وميسي أهمية خاصة، لأن استقدامهما لم يكن يهدف إلى تطوير اللعبة في الأساس، وكما ناقشنا أن كواليس انتقال ليونيل انطوت على منافسة أميركية سعودية، يبدو أيضا أن انتقال كرويف كان متعلقا بمناوشات أميركية أرجنتينية.

 

في عام 1976 وقع انقلاب عسكري في الأرجنتين أطاح بالحكومة المنتخبة، وأيده الرئيس الأميركي جيرالد فورد، لدرجة إرسال رسالة للسفارة الأرجنتينية مفادها أن الاتحاد الفيدرالي على أتم الاستعداد لدعم الأرجنتين في رحلة الفوز بكأس العالم المقبل، من أجل المزيد من السيطرة على المنطقة اللاتينية بالطبع وليس من أجل إعجابهم بالجمال اللاتيني. تولى جيمي كارتر رئاسة أميركا بعد عام واحد، ومعه تحول موقف أميركا التي رفضت دعم الحكومة الانقلابية بشكل قاطع، ليبعثر بذلك أوراق الجميع. (13) (14)

 

وبالتزامن مع تلك الأحداث كان هناك رجل يراقب المشهد من بعيد وينتظر فرصة واحدة للانقضاض؛ إنه يوهان كرويف، وفور إعلانه رفضا قاطعا للعب كأس العالم وسط هذا الضجيج وتلك المشاحنات، بدأت عملية التقارب بينه وبين الإدارة الأميركية على الفور.

 

ومثلما حقق فورد ما تمناه بالفعل بعد حصول الأرجنتين على اللقب في النهاية، وبعد التأكد من فاعلية أساليب الضغط الملتوية لوزير خارجيته هنري كيسنجر، فإن ما تمناه كارتر من محاولة تصدير الهولندي بوصفه محاربا رأسماليا صلدا واجه الديكتاتورية الشيوعية في الأرجنتين من قبل، وآن له أن يحاربها في العالم أجمع، قد تحقق له في النهاية أيضا، وهو نمط امتد عبر الزمان وصولا إلى لحظتنا الراهنة.

 

لم تزل أميركا

circa 1978: Footballers Franz Beckenbauer and Johan Cruyff, wearing Cosmos strips. (Photo by Evening Standard/Getty Images)
لاعبا كرة القدم "فرانز بيكنباور" و"يوهان كرويف" يرتديان قميص "نيويورك كوزموس". (غيتي)

فور وصول كرويف للولايات المتحدة، لفت انتباهه أمران في غاية الأهمية: أولهما هي أرضية ملعب "جاينتس" ذات العشب الصناعي، التي كانت، على حد تعبيره، تملأ قدمه بالبثور (2)، وهنا لك أن تتخيل مدى رداءة البنية التحتية في تلك الفترة، وأن ذلك على العكس تماما من المرحلة الحالية وصفقة ليونيل التي أظهرت التقارير من خلالها تطورا واضحا في منشآت نادي "إنتر ميامي"، مثل ملعب "لوكهارت" الحالي وملعب "Miami Freedom Park" المزمع افتتاحه قريبا، الذي أسلفنا فقرة كاملة للحديث عنه قبل ذلك.

 

الأمر الثاني -وهو القول الفصل- كان في أسلوب التفاوض. لقد جرت المفاوضات بطريقة سريعة وسلسة، وبنظام استخدمه كرويف فيما بعد للتفاوض مع لاعبيه عندما أصبح مديرا فنيا، حيث كانت الخطوط الجوية الأميركية على استعداد للتحليق بالرجل من إسبانيا بعد خمس ساعات فقط من أول اتصال به، قبل أن يلامس العشب الأميركي لأول مرة بعد 12 ساعة، وينهي التعاقد بعد دقائق من اجتماعه بالمدير الرياضي. يومان فقط كانا كفيلين بجعل يوهان لاعبا في الدوري الأميركي، وتلك هي الطريقة الأميركية الرأسمالية بحذافيرها؛ السرعة القصوى مع الجدية والاحترافية منقطعة النظير، والعدد اللا نهائي من أساليب الراحة والجذب. حسنا، أنت تعرف أن هذا هو ما حدث مع بيكهام ومع ليونيل بعد ذلك. (2)

 

ما لم يفطن له يوهان أن النادي كان في طريقه للبيع لمُلاك مكسيكيين يريدون تحقيق استفادة مادية في أسرع وقت، وبالتالي جاءت تلك السرعة والاحترافية في التعاقد نتيجة للتعاون المثمر بين الإدارة الموجودة بالفعل والإدارة المستقبلية لرفع أسهم النادي. كما اكتشف بعد ذلك أن تقديمه للجمهور عبر برنامج تلفزيوني، والمعاملة اللطيفة التي كان يلقاها من جاره في السكن "روبرت ماكنمارا"، وزير الدفاع في عهد كينيدي، ومع افتراض صدق النيات في مشاعر الصداقة بين الطرفين، لم تكن إلا ضربة سياسية. (3)

 

هل لاحظت أننا نتحدث عن "الضربات السياسية" مرة أخرى كلما تعلق الأمر بصفقة شعبوية؟ ببساطة لأن هذا ما يحدث فعلا، وسواء كنا في منتصف القرن العشرين، أو في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، أو حتى في آخر الزمان، فسيظل الربط بين الألاعيب السياسية وكرة القدم، بوصفها منتجا جماهيريا وجدلية شعبية، شيئا واردا.

 

قبل وصول الهولندي بأعوام بسيطة، وأثناء حكم "جيرالد فورد" على وجه التحديد، تم إغواء بيليه كي يلعب لفترة وجيزة بقميص "نيويورك كوزموس". كان فورد من المناهضين للعنصرية، ومن الداعمين لحقوق السود، حتى إنه جعل من شهر فبراير/شباط عيدا وطنيا للاحتفاء بتاريخ السود في أميركا ودورهم المحوري في نهضة الدولة، وبالتالي كان من المنطقي أن تُستقطب الجوهرة "السمراء" بوصفها صفقة شعبية تؤكد أفكاره.

 

لكن ردة فعل الجماهير كانت مختلفة تماما، وبدلا من أن يُصبح البرازيلي رمزا للتخلص من بقايا العنصرية، مورست عليه العنصرية شخصيا، وتعامل الناس مع كرة القدم في تلك الفترة باعتبارها لعبة حقيرة تستحقها النساء و"الزنوج" و"الاشتراكيون" من أنصار الاتحاد السوفيتي، لتصبح في نهاية الأمر مسخا مشوها من تجارب كروية أخرى في العالم. (8)

ذلك الفارق في الاستقبال الشعبي بين كرويف وبيليه يرجع إلى سبب وحيد؛ إنها "السياسة" التي تخرج من قمقمها في كل الأحداث، وتكون دوافعها محركا لكل الأحداث، فلا يهم إن كان التعاقد مع أرجنتيني أنيق أو هولندي ذي شعر أصفر وعيون عسلية، أو حتى برازيلي ذي شعر مجعد وعيون منتفخة، ما دام سيعمل على حسم مسألة تقع في لُب السياسة الأميركية.

 

ممنوع اللمس

يبدو أن الولايات المتحدة الأميركية هي أرض البدايات الجديدة؛ بدأ فيها يوهان كرويف، على حد تعبيره، حياة جديدة بعيدة عن الماضي البغيض، وبدأ فيها مهاجرو الجنوب الإيطالي حياة مثالية بعيدة عن مآسي دولتهم العنصرية، إلى غير ذلك من النماذج التي مثلت في داخلها الحلم الأميركي بحذافيره، وها نحن الآن على بُعد سنين قليلة من استقبال "كأس العالم" في حلية مختلفة تتمثل في زيادة عدد الفرق المشاركة إلى 48 فريقا. (15) (16)

 

هو كأس العالم ذاته الذي سعت الولايات المتحدة لتحقيقه منذ القدم استكمالا للهيمنة على مقدرات العالم، في حلم آمن به كرويف منذ اللحظة الأولى، ولم يخطر على بال ليونيل لمرة واحدة غالب الظن. ربما لأن الهولندي يهتم بمَن يحكم العالم فعلا ولديه أدواته السياسية والفلسفية التي استخدمها مرارا في مواضع مختلفة، بينما يبدو لنا "البولغا" إعلاميا شخصا لا يهتم إلا بكرة القدم، وكرة القدم بمعناها الحقيقي في أروقة الملاعب. المهم أن أضغاث كرويف جعلته يزعم أن إعلان الولايات المتحدة بطلا جديدا للعالم لن تفصلنا عنه إلا سنوات قليلة، ومستدلا على ذلك بحصدهم للمركز الثالث في مونديال 1930. (9)

هنا يتملص كرويف من الحقيقة مرة أخرى، لعدم وعيه بأن الأزمة تُعد أزمة هوية في المقام الأول، بدءا بانسلاخ أفضل الرياضيين من اللعبة، مفضلين الحصول على وظيفة في الرياضات الأكثر جماهيرية، وانتهاء بحقيقة أن الكثير من الآباء لا يعرفون عن اللعبة إلا أنها جلد منفوخ مدور، ولا يعلمون عن الدوري الأميركي إلا أن زلاتان إبراهيموفيتش، ذلك الرجل ضخم الجثة عريض المنكبين، قد مرّ عليه ليُلقي بعضا من نكاته التهكمية في أجواء يسودها المرح والغرور المزيف؛ وهذا هو الشيء الوحيد الذي قد يهم المواطن الأميركي في هذا الشأن. (10)

 

تلك الأزمة تغلغلت في الفريق الوطني، الذي يعد بدوره انعكاسا لثقافة الأمة، فبينما تحمل الكرة الألمانية في داخلها ذلك الحزم والعبوس، وتحمل كرة القدم البرازيلية أجواء الكرنفال والرقص، وبينما ظلت إيطاليا مهووسة بوحدة الدولة التي قسمها التاريخ عدة مرات، لتطور أسلوبا دفاعيا صارما متراصا كأنه بنيان واحد عُرف بالـ"كاتيناتشو"، وبينما أنتجت عقلية إنجلترا الباردة المتحفظة الفعّالة نمطا يعتمد على ضرب الكرة عاليا وكأنها تحلق في الفضاء، ثم الركض السريع تجاهها بأكبر عدد من اللاعبين، ظلت الولايات المتحدة منخرطة في سلسلة من التقليد الأعمى لطرق اللعب الأخرى، ودون الانفتاح على تكوين أسلوب وهوية خاصة، كما أن بعض اللاعبين الذين تم تطويرهم لم يحصلوا بسهولةٍ على فرص مع الأندية الكبيرة في أوروبا، بل انتشروا في بقاع الأرض رفقة أندية تلعب في الدرجات الأدنى، وهذا بالطبع لن ينتج فائزا بكأس العالم ولو بعد حين.

 

يعتقد آدم إلدر من "ذا نيو يوركر" (The New Yorker) الأميركية أن الشيء الوحيد الذي يحبه معظم الأميركيين في كرة القدم -وركز في هذا الأمر- هو فرصة تجاهلها، وبالتالي فإنهم يستطيعون تنظيم كأس العالم، لكن الجماهير على الأغلب ستتجاهل الأمر لمشاهدة مباراة حامية الوطيس بين اليانكيز وبوسطن ريد سوكس في دوري البيسبول، ودون الاهتمام بملايين البشر المحتشدين في أراضيهم. (7)

 

حدث سيُستخدم بوصفه مناورة سياسية لإثبات التفوق الأميركي كما جرت العادة. ورغم التوقعات بتنظيم مهم وحافل، فالمتوقع أيضا أن الأميركيين لن يستطيعوا ملامسة ذهب كأس العالم ولو لمرة واحدة، لمرة واحدة فقط يا كرويف، قبل العمل على تغيير منهجية العمل كاملة، والتخلي عن تلك الدوافع التي كانت وما زالت تدفع التاريخ الأميركي إلى اليوم.

—————————————————————————————————–

المصادر:

1- أكثر من مجرد صفقة.. البحث عن ليونيل ميسي في ميامي – الجزيرة.

2- My Turn, The Autobiography, Johan Cruyff – Amazon.

3- American Culture 101: Why Is Football so Popular? – show allegiance.

4- Sports in America > School & College Sports – USA Embassy. 

5- Soccer development in the U.S. shows progress and room for improvement – ESPN.

6- Thorndike’s Trial and Error Theory – psychology discussion.

7- Is college soccer too much of a risk for rising U.S. talent? – ESPN.

8- Has the U.S. Become a Soccer Nation? – the New yorker.

9- Why the U.S. Men Will Never Win the World Cup: A Historical and Cultural Reality Check, Beau Dure – Amazon.

10- Effect of 2 Soccer Matches in a Week on Physical Performance and Injury Rate – research gate.

11- KISSINGER TO THE ARGENTINE GENERALS IN 1976: "IF THERE ARE THINGS THAT HAVE TO BE DONE, YOU SHOULD DO THEM QUICKLY" – The National security Archive.

12- La Cosa Nostra – American Mafia – Legends of America.

13- Three hosts, 48 teams: how the 2026 World Cup will work – The Guardian. 

المصدر : الجزيرة