شعار قسم ميدان

كيف عاد مانشستر يونايتد من الموت؟ الحقيقة خلف وجهي إيريك تن هاغ

هل هناك ما هو أروع من حماس البدايات؟ من مشاهدة فكرة تُبنى وتتكون تدريجيا، ثم تنمو وتتطور إلى واقع تعيشه؟ هل هناك ما هو أكثر إثارة من حفنة موهوبين يجتمعون على هدف واحد، ويكملون نواقص بعضهم بعضا لتحقيقه؟ من فريق يفوق حاصل مجموع أفراده بالإيثار والتفاني والوحدة؟ هل هناك ما هو أروع من رحلات الصعود ومحاولات العودة؟ لا نعتقد، على الأقل ليس في كرة القدم.

قد يكون هذا هو ما شعرت به الآلاف المعدودة التي ارتحلت من مانشستر إلى كامب نو وهي تشاهد فريقها يحرج برشلونة -أحد أفضل فرق أوروبا رقميا على الأقل هذا الموسم- بأسلوبه المباشر، وتحولاته المباغتة، وسرعة نقله للكرة، وحدته البدنية. (1)

حماس البدايات، والإحساس المُسكر بأنك تعيش لحظة ولادة شخصية جديدة، وأن وعود المستقبل المشرق لم تعد مجرد مسكنات أو خدع تسويقية، وأنك لأول مرة منذ زمن بعيد صرت تملك رفاهية الاسترخاء والاستمتاع بمشاهدة ما يُصنع أمامك. لأول مرة منذ زمن بعيد صرت تملك رفاهية الثقة والاطمئنان، وصار بإمكانك التوقف عن مطاردة جزرة النتائج بلا جدوى، لأن النتائج ذاتها عادت إلى حجمها الطبيعي؛ مجرد تعبير عن عمل جاد حقيقي يستحيل إنكاره.

عودة إلى المستقبل

المفارقة هنا أن تلك البداية تأخرت بعض الشيء؛ قبل تلك اللحظة بستة أشهر، وتحديدا في 13 أغسطس/آب 2022، كان هؤلاء الآلاف يعيشون أسوأ لحظات النادي منذ اعتزال فيرغسون في 2013.

برشلونة استقبل 9 تحولات في نصف ملعبه ضد يونايتد، أكثر مما استقبله خلال أية مباراة هذا الموسم (هوسكورد)

بعد سوق انتقالات محبط فشل فيه النادي في الحصول على أهم أهدافه، وفترة تحضير مرهقة تضمنت الانتقال بين أستراليا وتايلاند إلى جانب دول أخرى، وأطنان الهراء الإعلامي التي أنتجها رونالدو ووكيله وغطت على كل ما يحدث في مانشستر، كان الفريق ذاته يفتتح موسمه المحلي بهزيمة مستحقة تماما أمام برايتون في أولد ترافورد.

الفريق ذاته الذي هزمه سولشاير في بدايات موسم 20-21 بطريقة ما، لم يفهمها غراهام بوتر (مدرب برايتون آنذاك ومدرب تشيلي حاليا)، ولا نعتقد أن سولشاير نفسه فهمها. هذه المرة كان بوتر ينتقم، وبعدها بأسبوع أو أقل، كان برنتفورد يمطر شباك دي خيا برباعية نظيفة في نصف ساعة فقط لا غير، فيما اعتبره الكثير من المحللين "أسوأ عرض لمانشستر يونايتد منذ اعتزال فيرغسون". (2)

ما زاد الهزيمة غرابة كان الوصف ذاته. لماذا قالوا "منذ اعتزال فيرغسون"؟ هل تلقى يونايتد 4 أهداف في نصف ساعة قبل تلك اللحظة؟ بالطبع لا؛ هذا لم يحدث منذ اعتزال فيرغسون، ولا أثناء فترة فيرغسون، وربما لم يحدث حتى قبلها، على الأقل أمام فريق بحجم برنتفورد، ولكنها عبارة تلقائية تقال بلا تدقيق كلما هبط يونايتد درجة على سلم الكبار. حتى نحن وقعنا في الفخ ذاته منذ بضعة أسطر.

البداية الفعلية لتن هاغ مع هذا الفريق كانت أشبه بالجحيم؛ الحرائق تشتعل في كل مكان وكل وقت، وحتى المؤتمرات الصحفية كانت… حسنا، أنت تتذكر كيف كانت المؤتمرات الصحفية آنذاك. آخر ما كان يحتاج إليه الرجل في تلك اللحظة هو صراع مفتوح مع أسطورة النادي، وأسطورة اللعبة، وهداف الفريق قبل كل ذلك. (3)

القبضة الدامية

تن هاغ رجل هادئ متزن إلى حدٍّ بعيد، وهو شديد العقلانية والعملية، ولكن إن كان هناك مساحة واحدة لا يتهاون فيها الرجل أبدا فهي وحدة الفريق. (رويترز)

حرفيا، لم يكن هناك توقيت أسوأ للاشتباك مع رونالدو وآلته الإعلامية، ولكن في تلك اللحظة ظهر أول ملمح من شخصية الرجل؛ هذا هو أول مدرب يضع نفسه في مكانة فيرغسون، منذ اعتزال فيرغسون، وينجح.

فان خال حاول وفشل. الهولندي لم يكن يعوزه الكبرياء والإحساس بالذات، بل الأدوات والقدرة على الإقناع. فان خال كان يتحدث كثيرا، خاصة عن نفسه، وكأنه بحاجة إلى التدليل على سلطته طوال الوقت، وكما لك أن تتوقع، كان لهذا أثر عكسي.

يحكي كريس ويلر من "الديلي ميل الإنجليزية" (The Daily Mail) أن فريق العمل المساعد سأل الرجل فور وصوله عن لقبه المفضل؛ هل هو "الرئيس" (Boss)؟ أم المرادف الأكثر رواجا في يونايتد والمفضل لفيرغسون (Gaffer)؟ إجابة تن هاغ كانت بسيطة: "أنا أعلم أنني الرئيس، وأنتم تعلمون أنني الرئيس، لذا لا يهم ما تنادونني به". (4) (5)

هذا هو الدرس الأول في كتاب المهارات القيادية للمبتدئين؛ تعلقك بالألقاب يعكس تشككك في سلطتك. القوة الحقيقية تظهر عند الحاجة، ولا تستدعيها الألقاب بقدر الأفعال. لذا كان هدوء تن هاغ وثقته من جهة، وإصراره الذي لم يتزحزح على معالجة الأمر بطريقته الخاصة من جهة أخرى، عاملي الحسم في تحويل دفة الصراع لصالحه، بعد بداية قوية من البرتغالي كادت تطيح بالهولندي، إلى جانب أسباب أخرى طبعا.

تن هاغ رجل هادئ متزن إلى حدٍّ بعيد، والأهم أنه شديد العقلانية والعملية، ولكن إن كان هناك مساحة واحدة لا يتهاون فيها الرجل أبدا فهي وحدة الفريق، وهذا بدوره منطقي، لأنه قبل أن يلعب الفريق بهذه الطريقة أو تلك، وقبل أن يطبق أي نوع من المبادئ أو يشرع في رسم أسلوبه أو يختار عناصره الأساسية، عليه أن يُكوِّن فريقا قبل كل ذلك.

ظاهريا، كانت المعادلة بسيطة؛ غرفة الملابس كانت تحتاج إلى فيرغسون، وتن هاغ لم يكن ينوي السير على خطى سولشاير، ولكن التنفيذ كان من أصعب ما يمكن. نحن نتحدث عن غرفة ملابس مسممة بازدواجية المعايير وتدليل النجوم، وأفضل لاعبيها يمر بأسوأ فترات مسيرته مع الفريق، وقائدها يرتكب المصائب كلما شارك، ونجمها الأول يرغب في الرحيل للحفاظ على أرقامه القياسية.

أسدى بوغبا إلى الجميع خدمة عظيمة برحيله إلى يوفنتوس، وبدأ تن هاغ معركة عض الأصابع لفرض النظام؛ رونالدو وماغواير انتقلا للدكة لأسباب مختلفة على وجاهتها، وبدأ توزيع العقوبات على الجميع بلا استثناء. بعد الهزيمة النكراء ضد برنتفورد، أصرَّ الهولندي على جمع الفريق لمشاهدة المباراة في غرفة الاجتماعات الجديدة بكارينغتون صبيحة اليوم التالي، ثم أمرهم بالركض لتعويض الكيلومترات الثمانية التي تفوق عليهم بها لاعبو برنتفورد. المثير أن تن هاغ شارك لاعبيه الركض لإحباط أية محاولات لتأليب الفريق عليه. (6)

 

هذه اللمحات البسيطة الذكية الفعالة هي ما ميَّز بدايات حقبة الرجل، بالطبع إلى جانب حقيقة أن رغبته في فرض النظام كانت جادة تماما وصادقة لأبعد درجة. عندما تأخر راشفورد في الاستيقاظ صبيحة مواجهة الوولفز في نهاية ديسمبر/كانون الأول، وفاته اجتماع الفريق الروتيني، كان القرار حاسما بإجلاسه على الدكة رغم كونه أفضل مهاجمي الفريق على الإطلاق في تلك الفترة. (6)

الشيء ذاته تكرر مع غارناتشو رغم تسجيله هدف يونايتد الوحيد في افتتاحية الموسم؛ بمجرد تغيبه عن اجتماعين متتاليين للفريق قرر تن هاغ تجميده لثلاث مباريات، مطيحا بالشاب الأرجنتيني الواعد خارج القائمة. هذا هو ما دفع برونو فيرنانديش، أكبر مناصري سولشاير في غرفة الملابس على الإطلاق، لتغيير موقفه سريعا، بعدما شاهد -على حد تعبيره- عقلية النادي بأكمله تتغير على يد تن هاغ، لا الفريق وحسب. (6) (7)

هذا يقودنا للوجه الآخر للرجل. قلنا لك إن الالتزام والوحدة يمثلان المساحة الوحيدة التي لا يقبل فيها الهولندي أي مساومات، ولكن على الجانب الآخر، كانت قصة العودة السريعة ليونايتد تن هاغ بعد بداية عصيبة غير تقليدية بالمرة.

هذه القصص عادة ما يتوسطها بطل عنيد متمسك بأفكاره، وغالبا ما يكون إصراره على التجربة هو وعاء التغيير. الحمقى العنيدون أبطال مثاليون كما يقول كتاب الدراما، لأنهم يتحررون من الخوف ويتجرأون على كسر الحدود التي وضعها أسلافهم، وبالتالي يكتسبون المعرفة والخبرة التي لم يدن منها غيرهم.

الرجل الآخر

بعد الهزيمة الأيقونية ضد برنتفورد، تحدث تن هاغ عن "الأسلوب الصحيح للتحضير"، و"كيفية سحب الخصوم ثم ضرب المساحات المتخلفة عن اندفاعهم للضغط". (غيتي)

إيريك تن هاغ ليس هذا الرجل. في الواقع، السبب الرئيس لسرعة ارتداد مانشستر يونايتد إلى وضعية مقبولة خلال بضعة أشهر فقط هو العكس بالضبط؛ درجة قياسية من التأقلم والتكيف، تضع الفوز مرجعية وحيدة، وعلى عكس تجارب كلوب وغوارديولا مع الكرة الإنجليزية، تُعَدُّ الانتصارات وسيلة لفرض الأسلوب، لا العكس.

بعد الهزيمة الأيقونية ضد برنتفورد، التي شهدت محاولات مضحكة لبناء اللعب من الخلف بالتمريرات الأرضية، بما تضمن ذلك من كوارث مع حارس مثل دي خيا ومدافعين مثل ماغواير، تحدث تن هاغ في المؤتمر الصحفي عن "الأسلوب الصحيح للتحضير"، و"كيفية سحب الخصوم ثم ضرب المساحات المتخلفة عن اندفاعهم للضغط"، وهذا كله جميل ورائع ومنطقي، ولكن كان أهم ما أكده في هذا المؤتمر على الإطلاق هو "ضرورة الاعتماد على التمريرات الطولية العالية إن لم ننجح في ذلك".

بهذه البساطة تخلى الرجل عن أهم مبادئ كرة القدم الحديثة في التحضير، وهو بالضبط ما نفذه بعدها بأيام في أولد ترافورد ضد الخصم الذي أمطر شباك يونايتد بتسعة أهداف كاملة في مباراتي الموسم الماضي. (8)

النظام يجب أن يتكيف مع اللاعبين، لا العكس. هذه المرونة الاستثنائية ضمنت نتائج سريعة، وهذه النتائج السريعة رفعت الضغط عن الرجل، ومنحته مساحة للتنفس والمناورة في معارك أخرى خارج الملعب، وبنهاية الشهر الأول، كان يونايتد يتعاقد مع أنتوني وكازيميرو بما يفوق 160 مليون يورو.

طبقا لحسابات أليكس كيبلي، محلل "أوبتا أناليست" (Opta Analyst)، ففي 31 يناير/كانون الثاني 2023، أي بعد بداية تن هاغ بخمسة أشهر تقريبا، كان يونايتد يتصدر فرق البريميرليغ على مستوى الهجمات المرتدة والمباشرة بـ51 مرة، وبفارق كبير عن ليفربول وفولهام وتوتنهام في المركز الثاني بـ38، وهذا ما ساعد يونايتد كذلك على تصدر إحصائيات البينيات بـ48 تمريرة. بالطبع يسهل التخيل أن فيرنانديش أنتج نصفها منفردا. (9)

التكتل في نصف الملعب الدفاعي ثم ضرب الخصوم بالتحولات السريعة من الثلث الأول للأخير كان الطريقة المفضلة ليونايتد تن هاغ هذا الموسم، رغم أنها لم تكن الطريقة المفضلة لتن هاغ نفسه أبدا؛ يونايتد لم يحتفظ بـ60% من الاستحواذ أو أكثر إلا في 6 مناسبات بالبريميرليغ، ولم يفز خلالها إلا على نوتنغهام فورست وإيفرتون، اللذين صارعا الهبوط على فترات متفرقة هذا الموسم. (10) (11)

تن هاغ لم يتأقلم مع يونايتد وحسب، بل ناقض قناعاته وأفكاره بشراسة غير مسبوقة، خاصة في مباريات الكبار التي بلغ فيها متوسط استحواذه 38% خلال 5 مباريات، حصل منها على تسع نقاط، وسمح خلالها لخصومه بـ18 تمريرة مقابل كل محاولة دفاعية (Passes per Defensive Action) أو (PPDA)، وبزيادة 40% عن معدله المعتاد. (9)

(غيتي)

السبب ببساطة هو إدراك الرجل التام للقاعدة الواقعية الخالدة؛ النتائج تأتي أولا. النتائج هي الثقة، والمناخ الهادئ، والفرصة للتطور والتحسن. النتائج بالإضافة إلى حقيقة أن فشل يونايتد الموروث في التحضير والبناء من الخلف يحتاج إلى مواسم حتى يُعالج. حتى اللحظة تُعَدُّ تمريرات مانشستر يونايتد الأكثر اعتراضا من الخصوم في البريميرليغ بـ227 مرة. (9)

بعض هذه الأوجه يتحسن من أسبوع إلى آخر، أو في طريقه لذلك على الأقل. يمكنك ملاحظة بعض التمريرات العمياء التي تحمل إدراكا استباقيا لتمركز الزملاء. صحيح أن إحداها تسببت في هدف التعادل لبرشلونة منذ أيام، ولكن عموما، لا يمكن إنكار التحسن مع كل مباراة جديدة.

هذا هو مربط الفرس هنا؛ الإحساس العام بالاتجاه والمراكمة على ما سبق، وهو أمر لم يشعر به مشجعو يونايتد منذ اعتزال فيرغسون فعلا، والخبر السعيد هو أن المستقبل يعِد بالمزيد، ببساطة لأن ما أنجزه يونايتد حتى اللحظة رفقة الهولندي لا يُمثِّل ربع ما يرغب هو في تحقيقه. الشيء الوحيد الأروع من حماس البدايات هو الإدراك بأن تلك البدايات لا تزال في بداياتها.

____________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة