شعار قسم ميدان

حرية التعبير للاعبين العرب في أوروبا.. أفضل مسرحية هزلية في التاريخ

حرية التعبير للاعبين العرب في أوروبا.. أفضل مسرحية هزلية في التاريخ
نصير مزراوي، ويوسف عطال، وأنور الغازي. (الجزيرة)

متى يتحول الإنسان إلى حشرة؟ نحن لا نستفهم هنا؛ لأن فرانز كافكا، الأديب والروائي التشيكي، أجاب عن السؤال بالفعل في روايته "المسخ". لكن الأمر تفاقم، فلم يعد بوسعك حتى أن تصبح حشرة لا قول لها بالقضايا المهمة، ولا تمتلك إحساس التعاطف مع الآخرين، لأن القوى الرأسمالية "الحرة" ستدفعك دفعا حتى تقول ما يؤمنون به، وما يؤمنون به لا يوافق معتقداتك، بل معتقداتهم، ولا يخدم مصلحتك بالتأكيد، بل مصالحهم، وإن كنت تريد العيش بسلام، فيجب أن تعيش وفق قواعدهم (1).

 

لكن ماذا إن وقف أحدهم وقال: أنا لست حشرة، أنا إنسان كامل الأهلية، موقن بما أُومن به ولن أسير وفق الأجندات التي تسحق المستضعفين وأصحاب الحقوق وتنصر المستعمرين؟ حسنا، سيصبح ساعتها منبوذا من المجتمع، مطاردا من الإعلام، ويا للعجب، سيختلط الحابل بالنابل، والجد بالهزل، فتتحول كلمة الحق إلى مأساة على صاحبها، والمأساة إلى مسرحية هزلية. بالمناسبة، هل سمعت عن المسرح الهزلي من قبل؟ إن لم تسمع به، فلا بأس؛ لأننا نعيش داخله منذ زمن، رغما عن أنف سوداوية كافكا.

 

الفصل الأول.. الطوفان

يُرفع الستار، شمس ساطعة، مستطيل أخضر، أقماع مبعثرة هنا وهناك، هناك مَن يصرخ في وجه أحدهم لأنه "لم يلتزم بدوره كما يجب"، الإنهاك يخيم على الأجواء. تبدو كحصة تدريبية لأحد الفِرَق، للاعبين من جميع الأعراق والأجناس، حيث يوجد بطلنا في هذا الجمع، بلا أي اختلاف عمن حوله سوى مكان نشأته؛ فقد كان أحد اللاعبين العرب المحترفين، الذي لم يصل إلى مكانه هذا دون العديد من التضحيات في حياته، أكثرها وضوحا هو أنه يشعر بالغربة عن عائلته على الأرجح.

يُنهي بطلنا الحصة، يمسك بهاتفه، ويتفقد أخبار العالم، فالأمور على أوجها حاليا كما تعلم. تعتلي نظرات القلق وجهه، يتحول القلق إلى صدمة ثم غضب. طوفان من المشاعر، فما رآه لم يكن آدميا؛ كل هؤلاء البشر، من لحمه وجنسه، يُنكل بهم على مرأى ومسمع من العالم، دون حراك يُذكر.

 

يتوسط بطلنا المسرح، متأملا في الأفق، ويعلم ما يجب عليه فعله، يعلم أن الصمت خيانة لهؤلاء، مَن جلسوا يوما أمام شاشة التلفاز فقط ليشاهدوه يلعب، لأنهم يرون لاعبا عربيا يحقق أحلامهم كل يوم باللعب في المستويات العليا في أوروبا، لأنهم عندما يرونه لا يسعهم سوى تمني أن يكونوا مثله في المستقبل. لكن ذلك المستقبل لم يعد ممكنا، لأن هناك مَن سلبه منهم.

 

وعلى عكس أصحاب المواقف والحكم في المسرحيات الهزلية الذين يظهرون عادة بلا اسم أو بأسماء مستعارة، بطلنا هنا له اسم واضح. بطلنا هو نصير مزراوي، ويوسف عطال، وأنور الغازي، وأحمد حسن كوكا، وكريم بنزيما، وعبد الرحمن سامح، السباح المصري، وغيرهم بالتأكيد. كانت اللحظة التي تفقدوا فيها هواتفهم فارقة؛ لأنهم أعادوا اكتشاف شيء ما بداخلهم ظنوا أنهم لن يتمكنوا من استرجاعه مجددا. كل ذلك الغضب المدفون تجاه كل ما هو غاصب ومُعتدٍ. نعلم ذلك، لأن ذلك الطوفان من المشاعر قد عصف بنا أيضا (2) (3) (4) (5) (6) (7).

@aljazeera_mubasher

بطل العالم في السباحة المصري عبد الرحمن سامح يرفض الاحتفال بالفوز بسبب قــصـ ــف غــزة #عبد_الرحمن_سامح #الجزيرة_مباشر

♬ الصوت الأصلي – الجزيرة مباشر – الجزيرة مباشر

 

الفصل الثاني.. فخ الإقصاء

أضواء ساطعة، كاميرات في كل مكان، توجد طاولة كبرى في المنتصف، يحيط بها بعض المقاعد، يبدو وكأنه أحد البرامج الحوارية. هناك لافتة كبيرة أعلاه، وكُتب عليها: "الحقيقة – الدقة – الموضوعية"، لكنها ملطخة باللون الأحمر، هل تعلم السبب؟ ولا نحن. على كل حال. يتوسط بطلنا المسرح مجددا، قادما لكي يُدلي بدلوه فيما يحدث في بلاده تجاه إخوته. يبدو متحمسا، ربما يعتقد أن مقدمي البرنامج سيتركونه يقول رأيه دون تأثير عليه، دون أن يحاولوا تحريف الحقيقة أو محاولة دس سُمهم فيها. لِمَ لا؟ فهم يتخذون مبادئهم بجدية كما توضح اللافتة، ربما يعجبهم ما يقوله حتى، بسبب نظرته المتميزة المتفردة للموقف مثلا، أو بسبب مبادئه التي يود مشاركتها مع العالم لأنه يؤمن بها، ويريد أن يُري العالم قيمتها.

 

لا يزال يؤرقك اللون الأحمر، أليس كذلك؟ لا بأس، فهو يستفز ذاك النوع من المشاعر القوية؛ لأنه لون الغضب والقوة والشغف، والدم أيضا (8). لكن سرعان ما يعود بطلنا للواقع، ويتذكر العديد من الأمثلة التي وقعت في الفخ ذاته، قبل أن ينظر العالم إليهم بازدراء، فقط لأنهم أبدوا رأيهم. لماذا؟ لا نعلم، لكن ربما يتعلق الأمر بذاك البرنامج، فبعد كل شيء، هو عين على "الحقيقة".

 

لكل فعل رد فعل، وعادة في مواقف كتلك، تكون ردود الفعل استقطابية ومتطرفة؛ إما التأييد المطلق وإما الإقصاء. لنعد إلى بطلنا، الذي أدلى برأيه، واتخذ موقفا داعما لفلسطين، فقط كي تتغير تعابير وجه القائمين على البرنامج من حوله، فطفقوا ينظرون إليه في اندهاش. يتهامسون، ويزدرونه، ويحاولون تصويره شرير القصة الذي يطارد الأطفال في كوابيسهم.

نصير مزراوي
نصير مزراوي. (شترستوك)

هذا تحديدا ما يعاني منه الرياضيون العرب في الغرب في الوقت الحالي. إذا أخذنا مزراوي وعطال على سبيل المثال، كلاهما حمّلا صورا أو مقاطع داعمة للشعب الفلسطيني، وكلاهما يواجهان ردود فعل عنيفة، سواء من أنديتهم أو من الجمعاء، فقد صرح البايرن أن النادي سيعقد محادثات رسمية مع الأول فور عودته، معلنين أنهم "قلقون على أصدقائهم في إسرائيل ويدعمونهم، ويتمنون التعايش والسلام بين جميع ساكني الشرق الأوسط، ويساندون الجالية اليهودية في ميونيخ"، دون أي ذكر لمشجعي الفريق من الطرف الآخر. وهدد عمدة مدينة نيس، كريستيان إستروسي، أنه سيجعل الثاني يرحل عن نيس، بسبب التلميحات "المعادية للسامية" المزعومة في دعمه لفلسطين، ناهيك بردود الفعل الشعبية التي تطالب الناديين بطردهما من الفريقين، فضلا عن إيقاف أنور الغازي عن حضور تمارين فريقه، كما جاء في بيان ناديه بعد أن اتخذ الموقف ذاته كالثنائي (7) (9) (10).

 

لم يتوقف الأمر عند ذلك بالنسبة لعطال ومزراوي، فقد قام كريستوف جيرار، الصحفي بجريدة "لو باريسيان" (Le Parisien) بكتابة مقالة صغيرة عن المقطع الداعم الذي حمَّله عطال على إنستغرام، واتهمه -نصا- بالغباء والجهل، قائلا إن مطالبات الجماهير العرب بانتقاد سياسات الاحتلال هي ما دفعته لفعل ذلك، وكأنه ينساق وراء كلامهم دون تفكير! ربما لا يأبه جيرار للحقيقة أو الدقة أو الموضوعية على الأرجح، بل ربما هو أحد الذين لوَّثوا اللافتة باللون الأحمر (11). أما عن مزراوي، فقد نشرت صحيفة البيلد الألمانية تقريرا عن مطالبات بعض السياسيين الألمان، مثل يوهانس شتاينغر وكريستوف بلوس، بطرده خارج بايرن ميونيخ، بل خارج ألمانيا برمتها (12).

هذا على الرغم من تأكيد الثنائي على "إدانة أعمال العنف في كل مكان"، وأن رسالتهم على الدوام هي السلام. إذا كان الأمر كذلك، وإذا كان اللاعبون يتمتعون بحق حرية التعبير الذي ينص عليه القانون وحقوق الإنسان، لأنه إحدى "دعائم ديمقراطية تلك الدول"، فلِمَ يوجِّه الإعلام الرياضي ردود أفعاله الحادة تلك تجاه لاعبَيْن -وأكثر- أكدا سعيهما للسلام؟ مثلما حذف الاتحاد العالمي للسباحة صور السباح المصري عبد الرحمن سامح من على موقعه الرسمي بعد تعليقاته عن فلسطين، قبل أن يقدم الاتحاد الإسرائيلي للسباحة شكوى ضده، ألأنهم مثل بطل عرضنا المسرحي؛ اتخذوا موقفا داعما لطرف معين فحسب؟ شيء يدعو للتفكير، مثلما جعل بطلنا يفكر، وينظر حوله، ويشعر بالنبذ والوحدة بعد انتهاء المقابلة الإعلامية، وتهمته هي الاختلاف الثقافي فقط (13).

 

الفصل الثالث.. التكميم

يجلس بطلنا وحيدا بمنزله، متجهما، لا يزال لا يقوى على استيعاب أن إعلاما يتخذ من "الحقيقة والدقة والموضوعية" منهاجا -ظاهريا- يكون بهذا النفاق. ربما تُعَدُّ سذاجة أن يفكر هكذا، لكنه محق؛ لِمَ يتعرض لهذه الموجات الهجومية، سواء كان الأمر من الجماهير أو الإعلام، أو ناديه حتى؟ في حين أن هناك مَن دعم الجانب الآخر بكلماته دون هجوم إعلامي يُذكر، دون عقوبة من أنديتهم حتى، مثل زينتشنكو وتيبو كورتوا وغيرهما (14) (15).

 

لم يخطر ببال بطلنا ولا الرياضيين العرب أنهم في عرين الوحش، وأن أي خطأ سوف يكلفهم الكثير، رغم أن كل ما فعلوه كان إبداء الرأي فقط، باعتبار أن هذا خطأ بالأساس. لكن بالنسبة لمنصات التواصل، ووكالات الإعلام، فهم الوجه الآخر للعملة، التي لا يريدونها أن تظهر للعيان.

 

كان لدى روبرت فيلميث، أحد المدونين على موقع "ذا هيل" (The Hill)، رأي مشابه، إذ يظن أن بسبب عدم خضوع منصات التواصل الاجتماعي لقيود التعديل الأول في الدستور الأميركي، فإن هذا يسمح بحرية الرأي للمستخدمين، لكنها حرية ظاهرية فقط؛ لأن معايير المنصات الداخلية هي ما تقيد المستخدمين حقا وليس الدستور. يرى فيلميث أن هذا باب سري لفرض معايير بعينها على مستخدمي المنصات. نستطيع تبيُّن ذلك في معايير مجتمع فيسبوك التي تقيد حرية تعبيرك في أي منشور أو تعليق أو صورة حتى؛ فأنت تتحايل على تلك القواعد لكتابة كلمات معينة عن طريق إدخال بعض العلامات المختلفة فيما بين حروف الكلمات، كالنقاط وعلامات الاستفهام والتعجب وما شابه، أو عن طريق الشطب عليها كلية إن كانت مكتوبة على صورة ما (16).

 

دعنا نزدك من الشعر بيتا. تحدث كريس موريس على موقع "فاست كومباني" (Fast company) عن تعامل منصات التواصل الاجتماعي مع "المعلومات المغلوطة" المنتشرة عليها، ناقلا تأكيد ليندا ياكارينو، مديرة منصة "إكس" (X) التتفيذية، أن تلك المعلومات تواجَه بحزم تام، وأن موارد المنصة تُوجَّه ناحية حل تلك المشكلة، مثلا من خلال خاصية "community notes" التي تصحح تلك المعلومات. جاء ذلك التأكيد أيضا على لسان جو بيناروك، القائم بإدارة أعمال المنصة، ردا على رسالة من تييري بريتون، رئيس الحقوق الرقمية في المفوضية الأوروبية، إلى إيلون ماسك، مالك المنصة، عن لقطات فيديو كاذبة حول الصراع الحالي في الأراضي المحتلة (17).

 

التأكيد ذاته الذي أتى على لسان ممثلي "ميتا" (Meta)، حينما أكدوا أنهم "يُزيلون منشورات بعينها" على فيسبوك وإنستغرام لانتهاكها هذه السياسات ذاتها التي "تشجع على حرية التعبير"، ولكنها تستطيع وصم أحدهم بالإجرام أو العنف لمجرد أنه ينتمي إلى فصيل بعينه. وأضافوا أن المنصة تأخذ هذه التهديدات على محمل الجد، وستقوم بإزالة أي محتوى من هذا القبيل والحسابات التي تنشرها على وجه السرعة، وستتخذ اللازم لضمان منع النسخ والمشاركة مرة أخرى، أو نقل هذه المشاركات إلى مستوى أدنى في خلاصة المواقع "حتى يتمكن عدد أقل من الأشخاص من رؤيتها". قد تبدو تأكيدات كتلك عادية لأول وهلة، حتى تعلم أنه باب سري آخر لليّ الحقائق. احتفظ بهذه الفكرة في رأسك حاليا (17).

 

لنعد لبطلنا، الذي اتُّهِم للتو على جميع وسائل الإعلام ومنصات التواصل بـ"مساندة الإرهاب ومعاداة السامية". هو يجلس الآن، ما زال يستغرق في التفكير، ربما يندم على ما قاله ويود أن يعود في الزمن لكيلا يعيد الكرّة، وربما يتساءل عن خطب هذا العالم، وسبب اتخاذ الجميع هذا الموقف العنيف منه، بل يكاد يكون الأمر محاولة لإقصائه والتخلص منه، مثلما يحدث مع مزراوي وعطال وعبد الرحمن سامح وغيرهم. ألا يشبه ذلك ما يحدث عندما تخالف المعايير الفيسبوكية؟ حسنا، يبدو أن حرية الرأي ليست مكفولة للجميع كما يقولون.

 

الفصل الرابع.. سقوط القناع

أعِد التفكير في سؤالنا الأخير، وضعه في السياق ذاته مع ما حدث مع ستيف بيل، رسام صحيفة الغارديان البريطانية، الذي طُرد من عمله بعد 40 عاما بسبب كاريكاتير ساخر عن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، اتُّهِم فيه بيل بالإساءة له. يا للمفارقة؛ لطالما رأينا العديد من الرسومات الساخرة التي أثارت غضب العديد من الناس، دون أن يأبه أحد بها من الإعلام أو المسؤولين، بل أُطلق عليها حرية تعبير، وإذ فجأة أصبحت مسيئة الآن (18).

 

هناك معايير مزدوجة، في المجتمعين الحقيقي والرقمي، فهناك مَن دعم الجانب الآخر دون أن يُتهم بمساندة الإرهاب، ولم يُقصَ أو يوضع تحت المساءلة، ولكن حدث العكس تماما مع أسماء مثل مزراوي وعطال والغازي وغيرهم، فقط لأنهم لا يدعمون الطرف الأقوى أو الأكثر نفوذا. ماذا؟ هل ظننت أن بطلنا اتُّهِم بمعاداة السامية لأنهم يؤمنون بذلك حقا؟ لم يتعلق الأمر يوما بالمبادئ، هذا بالنسبة لأصحاب النفوذ بالتأكيد، بل تعلق بالسلطة، والامتيازات التي تجلبها.

 

حان وقت استرجاع تلك الفكرة التي حدَّثناك عنها؛ ذاك النهج المتعمد للتخلص من بعض المنشورات إما بمسحها فورا وإما بعدم وصولها للمتابعين بالسرعة المعتادة. عُد معنا بالذاكرة إلى عام 2012، حينما أضاف فيسبوك معيارا مانعا لـ"المنظمات ذات السجل الإرهابي أو العنيف"، فيما يُعرف بسياسة الأشخاص الخطرين، التي تسارعت وتيرتها مع الوقت بسبب تأثير التعليقات والمنشورات ذات الطابع المذكور (19).

 

مع الوقت، أصبحت تلك المعايير غير قابلة للمساءلة، وتعاقب بعض الفئات بشكل لا يتناسب مع حجم أو سياق الفعل المرتكب؛ مثل العديد من التعليقات التي تتلقى إنذارا بالمنع بسبب طابعها العنصري في سياق لا توجد به إهانات عنصرية مقصودة من الأساس، حتى أصبح هناك لائحة سوداء تشتمل على أكثر من 4000 اسم لسياسيين وكُتاب ومؤسسات، وبعض الشخصيات المتوفاة! وفي رأي الصحفي الباحث في التكنولوجيا سام بيدل، تعبر تلك اللائحة عن الجزع الأميركي منذ وقوع حوادث بعينها مثل 11 سبتمبر/أيلول؛ فكل مَن عليها هو عدو للولايات المتحدة أو تهديد لها (19).

 

وفي السياق ذاته، يقول أنخيل دياز، المحاضر في كلية الحقوق بجامعة كاليفورنيا، إن هذه اللائحة هي عبارة عن "قبضة من حديد على بعض المجتمعات، وأخرى معتدلة للمجتمعات الأخرى". ربما يأتي رأيه من بحثه عن سياسات الاعتدال التي يطبقها فيسبوك على المجتمعات المهمشة تلك، وتبرر المنصة ذلك -بالتأكيد- بأنها محاولة لـ"مقاومة الإرهاب ومنظماته"، وفقا لما ما جاء على لسان برايان فيشمان، مدير سياسة مقاومة الإرهاب والمنظمات الخطرة في فيسبوك.

"نحاول أن نكون شفافين قدر الإمكان، مع وضع الأمن أولوية، كي نحد المخاطر القانونية ولا نسمح لتلك المنظمات أن تتحايل على قوانيننا. نحن لا نريد أن يستخدم الإرهابيون منصتنا، ولا المنظمات الإجرامية ولا جماعات الكراهية كذلك، لهذا نمنع وجودهم على منصتنا، ونزيل جميع المنشورات التي تمدح فيهم أو تمثلهم أو تدعمهم. لدينا فريق مكوَّن من أكثر من 350 شخصا مهمتهم هي إيقاف تلك المنظمات وتحليل التهديدات المحتملة من قِبلهم".

قُسمت اللائحة إلى خمسة مستويات، الأسماء في المستوى الأول هي الأخطر في اللائحة، التي يوجد بها مجرمو الشوارع وعصابات المخدرات اللاتينية، وبالتأكيد، كما حزرت غالبا، بعض المنظمات التي تتموقع في الشرق الأوسط، ممن اعتبرهم جورج دابليو بوش، الرئيس الأميركي الأسبق، خطرين كفاية ليكونوا ضمن قائمة الـ1000 اسم الأخطر على الولايات المتحدة. بالمناسبة، كُتبت تلك القائمة في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيلول (19).

 

تعد العقوبات على هذا المستوى الأول هي الأقسى على تلك المنصات، وقد تصل إلى حذف الحساب نهائيا حال تكرارها، لكن المستويات الأدنى، ورغم وجود بعض جماعات اليمين المتطرف فيها، وميليشياتها المسلحة التي تتخذ مواقف صريحة ضد الحكومة الأميركية، تظل عقوباتهم أخف وطأة. الأمر كما وصفته الكاتبة والمؤلفة، فايزة باتيل، أشبه بتقسيم الناس إلى مجتمعين مختلفين، مع تطبيق عقوبات أشد على المناطق المكتظة بالمسلمين (19).

 

إذن فقد كان فيلميث محقا؛ مستخدمو تلك المنصات ليسوا أحرارا لقول ما يشاؤون، بل هم مقيدون بتلك المعايير، فما بالك حينما تكون عربيا ذا موقف مؤيد لفلسطين؟ بالضبط؛ سيرهق عقلك في محاولة إيجاد التعبيرات المناسبة عن قضيتك دون أن يزيلها فيسبوك أو يقلل الوصول إليها، خاصة بعدما اتفقت الحكومة الإسرائيلية مع مسؤولي فيسبوك مؤخرا؛ أن يفرضوا حصارا ورقابة أكبر على المنشورات التي تصنفها الحكومة غير لائقة (16) (20).

تخيل أن منصة بحجم فيسبوك تُخضع نفسها لمعايير الحكومة الإسرائيلية لتحديد ما يليق بقوانين منصتها من عدمه، وتخيل أن من الشائع أن يستخدم الإسرائيليون فيسبوك للحث على العنف ضد الفلسطينيين دون عقاب يُذكر. وتخيل أن مَن مَثَّل إسرائيل في الاجتماع الذي اتُّفق فيه على تلك النقاط كانت إيليت شاكيد، وزيرة العدل، التي لا تؤمن بدولة فلسطينية من الأساس، واقترحت تشريعا يجبر المنصات الاجتماعية على إزالة المحتوى الذي تعتبره إسرائيل "تحريضا"، أي إن التحريض، والإرهاب، والصواب والخطأ، هو ما تحدده إسرائيل فقط، ولا حاجة إلى معيار آخر بالتأكيد. تخيل أن هذه ممارسات منظمات ودول تروج لنفسها بأنها "دعاة حرية وديمقراطية".. كوميديا سوداء، أليس كذلك؟ (20)

 

قيل لنا يوما إن حرية التعبير هي دعم حرية الفرد أو المجتمع في إبداء آرائهم دون الخوف من رد الفعل أو الرقابة أو العقوبات القانونية، ورغم صعوبة التحكم في ردود فعل البشر على رأي ما، فلطالما رأينا أمثلة على حرية التعبير في دعم فكرة، أو شخص، أو فئة، دون أن يتعرض مَن أبدى الرأي لأي نوع من المساءلة. ربما -لقصور رؤيتهم- لم يتخيل العديد ممن روجوا لها أنها ستكون دائرة مغلقة، وأن للآخرين ممن يختلفون معهم في الآراء والأيديولوجيات حق أيضا في إبداء آرائهم، مثلما فعل أبطال عرضنا؛ مزراوي وعطال وسامح، والغازي وبنزيما، وستيف بيل أيضا.

 

كل تلك الممارسات، وكل تلك المحاولات المستميتة لتكميم الأفواه، هي قطرة في محيط من الانتهاكات والتناقضات التي تحدث مرأى ومسمع من الجميع بالفعل. دون جدل، ودون قيل وقال، فقط الأمر على ما هو عليه؛ مسرحية هزلية بطابع سوداوي، ملطخة بالدماء، لا فارق بينها وبين التي وقف فيها بطلنا ضد العالم بأكمله لكي يسرد وجهة نظر الطرف الآخر، فقط لكي يصرخ الجميع مطالبا برأسه. إذن، هل علمت إلامَ يرمز اللون الأحمر على لافتة البرنامج أعلى المشهد المسرحي؟

——————————————————————————

المصادر:

1- كتاب "المسخ" لفرانز كافكا – Goodreads

2- عديد اللاعبين المغربيين يخاطرون بمسيراتهم دعما لغزة – The new Arab

3- يوسف عطال يعتذر عن الفيديو "المعادي للسامية" الذي نشره – Daily mail

4- تغريدة أحمد حسن كوكا على تويتر

5- تغريدة كريم بنزيما على تويتر

6- تصريحات عبد الرحمن سامح السباح المصري

7- إيقاف أنور الغازي بعد دعمه لفلسطين – The Athletic

8- سيكولوجية اللون الأحمر – Very well mind

9- بيان بايرن ميونيخ عن نصير مزراوي

10- تهديدات عمدة مدينة نيس ليوسف عطال – Ouset France

11- من هو يوسف عطال الذي نشر دعوة داعية فلسطيني للعنف؟ – Le Parisien

12- تهديدات بعض السياسيين الألمان لنصير مزراوي – BILD

13- الاتحاد الإسرائيلي يقدم شكوى ضد عبد الرحمن سامح – Egypt Independent

14- أوليكساندر زينتشنكو مصمم على دعم إسرائيل حتى بعد مسح منشوره – Daily mail

15- خيبة أمل جمهور ريال مدريد بعد دعم كورتوا لإسرائيل – First sportz

16- على منصات التواصل أن توازن بين حرية التعبير وحق المعرفة – The Hill

17- كيف تتعامل منصات التواصل مع المعلومات المغلوطة – Fast company

18- فصل ستيف بيل من الغارديان بعد 40 عاما – ABC News

19- لائحة الفيسبوك السرية لأخطر الرجال في العالم – The Intercept

20- فيسبوك تتعاون مع الحكومة الإسرائيلية لتحديد ما يجب أن يكون خاضعا للرقابة – The intercept

المصدر : الجزيرة