شعار قسم ميدان

كون واحد صالح للحياة.. لِمَ رفض ستيفن هوكينغ نظرية تعدد الأكوان؟

Stephen Hawking, astro-physicist and professor at the University of Cambridge, delivers a lecture entitled "Why We Go into Space" as a part of a lecture series honoring NASA's 50th Anniversary, at the George Washington University in Washington on April 21, 2008. Hawking spoke on the benefits of space travel and said we should be actively perusing a colony on the moon and a manned Mars mission.
ستيفن هوكينغ. (شترستوك)

مقدمة الترجمة:

في السنوات الأخيرة من عمره، انشغل ستيفن هوكينغ بتأمل الكون من وجهة نظر أعمق من المعتاد، ليبحث ليس فقط عن القوانين التي تفسر ظواهره الغريبة جدا والمدهشة في آنٍ واحد، بل عن طبيعة هذه القوانين نفسها؛ كيف نشأت ولِمَ اتخذت هذا الشكل وتلك البنية وليس شكلا آخر أو بنية أخرى؟ الفيزيائي البلجيكي توماس هيرتوغ يحكي لنا قصة هذا المشروع المدهش الذي تشارك فيه مع هوكينغ.

 

نص الترجمة:

كان معروفا بين الطلاب في جامعة كامبريدج أن مَن يحرز أعلى الدرجات في الجزء النهائي من امتحانات الرياضيات فسيحظى بفرصة مقابلة ستيفن هوكينغ، ولحُسن الحظ كنت أنا مَن حصل على هذه الفرصة وحظيت بدعوة لإجراء مناقشة معه. حينذاك واجهت صعوبة وأنا أشق طريقي إلى مكتبه بسبب متاهة قسم الرياضيات التطبيقية والفيزياء النظرية بجامعة كامبريدج. كان مكتبه يقع في مبنى فيكتوري قديم على ضفاف نهر كام، وموقعه قريب من الصالة الرئيسية. ورغم الضوضاء التي يعج بها المكان، فإن ستيفن كان يحب ترك باب مكتبه مفتوحا قليلا، لذا طرقت الباب وتوقفت هُنيهة ثم فتحته ببطء. لم أكن أعرف بالضبط ما ينتظرني على الجانب الآخر من ذلك الباب.

كنت أدرك بالطبع مدى شهرة ستيفن جرّاء أبحاثه في مجال الثقوب السوداء وأفكاره المثيرة للجدل حول ما قد يفضي إليه الوضع عندما تنفجر. ومع ذلك اتضح لي أن ما كان يشغل ذهنه في ذلك الوقت سؤال مختلف تماما عن كل ذلك. ظل لغز "لماذا يُعد كوننا مثاليا تماما لظهور الحياة على سطحه؟" يتردد في رأسه. والتفكير في ذلك اللغز سيتحول فيما بعد إلى رحلة طويلة خضنا غمارها أنا وستيفن معا. فعلى مدار العقدين التاليين -وحتى وفاته- عملنا معا جنبا إلى جنب على أفكار جديدة مهدت الطريق إلى فهم جديد تماما لسبب وجود الكون على الهيئة التي تشكَّل عليها، فقد اكتشفنا أن قوانين الفيزياء نفسها تطورت بشكل ما لتصل إلى ما هي عليه الآن وتتمكن من تقديم وجهة نظر مختلفة لسبب وجود الكون على هذه الهيئة.

 

في لقائي الأول به في يونيو/حزيران عام 1998، وقعت عيناي على ستيفن وهو جالس خلف مكتبه تعلوه تلك الهالة الغامضة ورأسه متكئ على مسند كرسيه المتحرك. كانت نافذة المكتب مفتوحة، وفيما بعد اكتشفت حبه لأن تظل مفتوحة طوال الوقت، حتى في أيام البرد القارس. وعلى إحدى السبورات السوداء، التقطتْ عيني معادلات بدت وكأنها تعود إلى أوائل الثمانينيات، وتساءلت حينذاك عما إذا كانت تلك المعادلات هي آخر ما خطته يداه.

 

خلال حديثنا، تساءل ستيفن هوكينغ عن طريق الجهاز الذي يستخدمه لترجمة كلامه: "يبدو أن الكون يمتلك نسقا محددا، لكن لِمَ يبدو على هذا النحو يا تُرى؟". لم يسبق لأيٍّ من معلمي الفيزياء أن طرحوا مثل هذه الأسئلة عليَّ من قبل، لذا حاولت أن أجيبه بسؤال آخر: "أليست هذه مسألة فلسفية؟"، لكنه أجاب بعينين ينبعث منهما بريق غامض: "لم تعد الفلسفة ذات جدوى". (لعله قصد بذلك أن الفلسفة لم تعد قادرة على توفير إجابات مفصلة أو معتمدة على الأدلة العلمية للأسئلة الكبيرة والمعقدة حول الكون والحياة).

 

لطالما بَرَع هوكينغ في اختزال الكثير من الأفكار في عدد قليل من كلمات مُختارة بعناية. فعندما تحدث عن الكون وتصميمه على هذا النسق، كان يشير إلى ملاحظة مفادها أنه من بين جميع الأكوان التي يمكن أن توجد، فإن كوننا وحده مهيأ لاحتضان الحياة داخله. أما كيفية التعامل مع هذا الأمر فظلت مسألة مُربكة تشغل بال المفكرين بطريقة أو بأخرى لعدة قرون. ومع ذلك، لم نكتشف مدى عمق هذه المسألة أو نسبر أغوارها إلا في الآونة الأخيرة.

andromeda galaxy
اكتشف علماء الكونيات أن توسع الفضاء في زيادة مستمرة منذ نحو 5 مليارات سنة. وغالبا ما يُعزى سبب هذا التسارع إلى ما يُعرف بطاقة الفراغ التي تنبأت بها نظرية الكم. (شترستوك)

ثمة تناغم كافٍ بين المتغيرات في الكون لتجعله مناسبا لظهور الحياة، وهذا التوافق يتعلق بالعديد من الخصائص والقوانين الفيزيائية التي إذا خضعت لأي تلاعب ولو بسيط فسيتمخض عنها عواقب وخيمة كانعدام فرصة وجود حياة في هذا الكون. خذ على سبيل المثال "بوزون هيغز" (Higgs boson) (وهو جُسيم افتراضي يُعتقد أنه أدى دورا حيويا في نشأة الكون في أعقاب الانفجار العظيم)، ورغم أنه يزن ما يصل إلى 133 بروتون (وهو ما يبدو ثقيلا بالنسبة لجسيم)، فإنه مع ذلك أخف بمقدار 100 مليون مليار مرة مما قد يعتبره علماء الفيزياء كتلة طبيعية.

 

يتفاعل جسيم هيغز مع جسيمات المادة الأخرى ويمنحها كتلة، لكن هذا التفاعل يزيد في الوقت نفسه من كتلة بوزون هيغز أيضا. ومع ذلك، تُعَدُّ خفة هذا الجسيم أمرا ضروريا للحياة، إذ يؤدي دورا في الحفاظ على خفة جسيمات مثل الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات. وهذا بدوره يضمن عدم انهيار المكونات الأساسية للحياة على غرار الحمض النووي (DNA) والبروتينات والخلايا تحت تأثير قوة الجاذبية.

 

يمكنك أيضا أن تتأمل في فكرة توسع الكون على سبيل المثال. في عام 1998، اكتشف علماء الكونيات أن توسع الفضاء في زيادة مستمرة منذ نحو 5 مليارات سنة. وغالبا ما يُعزى سبب هذا التسارع إلى ما يُعرف بطاقة الفراغ التي تنبأت بها نظرية الكم. ومع ذلك، يبدو أن كثافة طاقة الفراغ أقل بمقدار 10 أُس 120 مرة مما يتوقعه الفيزيائيون بناء على النظرية. لكن تخيل إذا كانت كثافة طاقة الفراغ في الكون أكبر قليلا، ألا يعني ذلك أن تأثيرها النافر سيصبح أقوى وسيكون التسارع قد بدأ قبل ذلك بكثير؟ لذا في هذا السيناريو، ستغدو المادة متناثرة في الكون على نحو نادر للغاية، لدرجة أنه لا يمكن تجميعها معا لتُشكِّل النجوم والمجرات، مما يَحُول مرة أخرى دون تشكُّل الحياة.

 

تنطوي قوانين الفيزياء وعلم الكونيات على عدة خصائص تساهم في تشكيل الحياة، لدرجة أن معظم العلماء في الماضي افترضوا أن العلاقات الرياضية التي تدعم قوانين الفيزياء هي حقائق رياضية أبدية ومطلقة تتجاوز العالم المادي، وبناء على ذلك اعتبروا أن الكون تَشكَّل بناء على تلك القوانين الفيزيائية.

 

معضلة الأكوان متعددة

Stephen Hawking
ازداد تردد "ستيفن هوكينغ" تجاه فكرة قبول الأكوان المتعددة بعدما أصبح واضحا أنها عاجزة عن تفسير أي شيء في الواقع. (شترستوك)

في مطلع القرن الحادي والعشرين، ظهر تفسير مختلف تماما. استند هذا التفسير إلى سلسلة من الاكتشافات المفاجئة التي تشير إلى أن بعض الخصائص في القوانين الفيزيائية قد لا تكون ثابتة أو أبدية كما اعتقد العلماء، وإنما ظهرت نتيجة جانبية لطريقة تبريد الكون المبكر بعد الانفجار العظيم. بالتفكير في نوع الجسيمات والقوة التي تتحكم في التفاعلات الفيزيائية بين الأجسام، وصولا إلى كمية طاقة الفراغ، بات واضحا أن قوانين الكون التي تدعم الحياة تشكلت في سلسلة من التحولات التي حصلت خلال اللحظات الأولى لتمدد الكون.

 

استنادا إلى هذا المنطق، بدأت تحوم بعض التساؤلات في أذهان علماء الكونيات عما إذا كان هناك أكثر من كون واحد. ربما نعيش في أكوان متعددة، فضاء هائل متمدد باستمرار يحوي بين طياته خليطا متنوعا من الأكوان المختلفة، لكلٍّ منها انفجارها العظيم، وقوانينها الفيزيائية الخاصة بها التي قد يدعم بعضها الحياة، شبّه فيزيائي الأوتار ليونارد ساسكيند طبيعة القوانين الفيزيائية في الأكوان المتعددة بالطقس على الساحل الشرقي للولايات المتحدة: "متغيّر بشكل هائل، فظيع دائما، ولكنه جميل في مناسبات نادرة". من وجهة نظره، فإن طقسنا الكوني الرائع المناسب للحياة هو إحدى تلك المناسبات النادرة.

 

لكن مشكلة هذه الفرضية أنها ربما تشير إلى احتمالية أن كوننا خُلِق ضمن أكوان متعددة ولم يُصمَّم خصوصا لإيواء حياة بداخله، وهذا ما لم يقتنع به ستيفن هوكينغ. فعندما دخلت مكتبه لأول مرة عام 1998، راودني شعور بأنه لم يكن متحمسا لفكرة تعدد الأكوان. لذا سرعان ما بدأتُ التعاون معه في محاولة منا لإيجاد إجابة أفضل بصفتي طالب دكتوراه في بداية مشوارنا وزميلا له في نهاية المطاف.

 

في أوائل الألفية، ازداد تردد ستيفن تجاه فكرة قبول الأكوان المتعددة بعدما أصبح واضحا أنها عاجزة عن تفسير أي شيء في الواقع. المشكلة أنه في علم الأكوان المتعددة، توجد قوانين فيزيائية من المفترض أنها تحكم جميع الأكوان، لكن هذه القوانين عاجزة في الحقيقة عن تحديد أي نوع من الأكوان صالح للسكن. تُعَدُّ هذه مشكلة كبيرة، لأنه بدون قاعدة تربط جميع القوانين الفيزيائية في الأكوان المتعددة بالقوانين المحلية الخاصة بكوننا، تغدو الافتراضات حول الأكوان المتعددة مُحاصَرة في دوامة من المفارقات التي تتركنا عاجزين عن التوصل إلى نتائج يمكن التحقق منها أو تجارب يمكن تنفيذها للتأكد من مدى صحة هذه الفرضية.

لذا يُعَدُّ علم الأكوان المتعددة أشبه ببطاقة سحب بدون رقم تعريف شخصي (PIN)، أو بخزانة ملابس من أيكيا بدون دليل لكيفية تركيبها، وفي حالة كهذه تصبح الأشياء بلا جدوى. لكن يبقى السؤال المهم: هل يمكننا إذن تحقيق تقدم أكبر في فهمنا للكون؟ اكتشفتُ أنا وستيفن أن بإمكاننا فعل ذلك من خلال التخلي عن فكرة الأكوان المتعددة التي تفترض أن نظرياتنا عن الكون يمكن أن تأخذ منظورا شاملا كما لو كنا ننظر إليه من خارجه. في المقابل، فإن ما قد نسهو عنه أن نظرياتنا يجب أن تأخذ في الاعتبار حقيقة أننا نعيش داخل الكون لا خارجه. وعن ذلك يقول ستيفن: "إننا لسنا ملائكة تنظر إلى الكون من الخارج". لذلك، قررنا إعادة التفكير في علم الكونيات من منظور مراقب داخلي، وسرعان ما اكتشفنا أن ذلك يتطلب تبني منظور كمي من داخل الكون نفسه.

 

لدور المراقب أهمية كبيرة، وقد اعتُرف بهذا الدور منذ اكتشاف نظرية الكم في عشرينيات القرن الماضي. لكن لفهم ما نتحدث عنه لا بد أن تدرك أولا أنه قبل مراقبة موضع الجسيم، فلن يكون هناك معنى في طرح السؤال حول مكانه. وذلك لأن في عالم الكم، لا يملك الجسيم موضعا محددا طالما لم يُرَاقب، كما أنه غير مقيّد بموضع محدد وإنما عدة مواضع محتملة تُوصَف بواسطة دالة موجية تعمل على تشفير الاحتمالية المرتبطة بالمواضع المختلفة للجسيم بمجرد مراقبته. (بمعنى أبسط، بناء على مبدأ الانهيار الموجي، فإن الجسيم عندما يُرَاقب وتُحدد قيمة معينة لخاصية ما، ينهار الوضع المحتمل لهذا لجسيم وتتحول قيمته من قيمة ضمن احتمالات متعددة إلى قيمة محددة وواضحة).

 

لا تقتصر الملاحظات الكمومية فقط على تلك التي يقوم بها البشر، بل يمكن أن تحدث مثل هذه المراقبات بواسطة جهاز كاشف مخصص لمراقبة الجسيم أو عن طريق تفاعل هذا الجسيم مع البيئة، أو حتى من خلال تفاعله مع فوتون واحد. توصلت أنا وستيفن إلى فهم ما حدث في الكون المبكر كعملية شبيهة بعملية الانتخاب الطبيعي على الأرض.

يقول ستيفن إننا لسنا مجرد مشاهدين للكون، بل نلعب دورا فعالا في تطوره بقدر ما يؤثر هو في تكويننا وتطورنا.
يقول "ستيفن هوكينغ" إننا لسنا مجرد مشاهدين للكون، بل نلعب دورا فعالا في تطوره بقدر ما يؤثر هو في تكويننا وتطورنا. (شترستوك)

في الكون المبكر، حدث التنوع بسبب القفزات الكمومية العشوائية التي أدت إلى تغيرات صغيرة وبعض التغيرات الأكبر. ومن خلال عملية الاختيار، تخضع هذه التغيرات إلى عملية تضخيم أو تجميد بفضل تأثير الملاحظة الكمومية، ونتيجة لذلك تنشأ قواعد جديدة تؤثر في التطور المستقبلي للكون. بمعنى آخر، فإن العملية المشابهة للانتقاء الطبيعي في الكون المبكر تلعب دورا في تشكيل وتطور الهياكل والقوانين التي تسيطر على الكون المستقبلي.

 

هذا التفاعل بين القوتين المتنافستين (التنوع والاختيار) حدث خلال مرحلة الانفجار العظيم حينما كانت الظروف شديدة الحرارة والضغط. وبسبب هذا التفاعل، نتج تفرع في الأبعاد الفضائية والقوى والجسيمات، مما ساهم في تشكيل ونمو الكون المبكر. ومع تمدد الكون وتبريده، اكتسب هذا التفرع شكله الفعال الذي نراه في الكون الحالي. هذه العملية تشبه إلى حدٍّ كبير عملية تطور الأنواع البيولوجية على الأرض، وعلى مر الزمان، يحدث تفرع وتنوع في الكائنات الحية، وبالطريقة ذاتها يحدث تفرع وتنوع في الأبعاد والقوى والجسيمات في الكون المبكر بمرور السنين.

 

يبدو وكأن الملاحظات الكمومية الجماعية تؤثر على نتيجة الانفجار العظيم على نحو معاكس للزمن. لهذا السبب، كان ستيفن يشير إلى الفكرة التي عملنا عليها معا بكونها فكرة قائمة على توضيح علم الكونيات ولكن "من أعلى إلى أسفل"، ليؤكد أننا نقرأ ونفهم أساسيات الكون بعد حدوثها، تماما كما يُعيد البيولوجيون بناء شجرة الحياة. وعن ذلك يقول ستيفن إننا لسنا مجرد مشاهدين للكون، بل نلعب دورا فعالا في تطوره بقدر ما يؤثر هو في تكويننا وتطورنا. هذا يعني أن ثمة تفاعلا متبادلا بيننا وبين الكون، حيث نؤثر فيه ويؤثر فينا بصورة متزامنة.

 

المشي على الرمال المتحركة

أصبحت فكرة الهولوغرام محور النقاش بين علماء الفيزياء النظرية الذين توسموا فيها طريقا واعدا لجعل نظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين تعمل مع نظرية الكم.
أصبحت فكرة الهولوغرام محور النقاش بين علماء الفيزياء النظرية الذين توسموا فيها طريقا واعدا لجعل نظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين تعمل مع نظرية الكم. (شترستوك)

عند النظر إلى الماضي وتقييم الأمور، اتضح أننا كنا نسير على رمال متحركة في تلك الفترة، بمعنى أننا لم يكن لدينا أي أساس رياضي قوي تستند إليه أفكارنا. ومع بدء البحث عن أرضية أكثر صلابة واستقرارا، جاء الإلهام من زاوية غير متوقعة. في ذلك الوقت، اندلعت ثورة أخرى في علم الفيزياء تتعلق بتقنية الهولوغرافيا، وتبين أن هذه التقنية هي كل ما نحتاج إليه (تُشير هذه التقنية إلى أن المعلومات الكاملة عن الكون يمكن تمثيلها بصورة ثنائية الأبعاد على الحدود الخارجية للمجال ثلاثي الأبعاد الذي نعيش فيه. كما يمكننا تصور الكون مجسما هولوغرافيا ثلاثي الأبعاد يُمثَّل من خلال معلومات ثنائية الأبعاد على سطح خارجي).

 

يشفر الهولوغرام العادي جميع المعلومات حول جسم ثلاثي الأبعاد على سطح ثنائي الأبعاد. بمعنى آخر، يظهر البُعد الثالث من السطح عندما ننظر إليه. وتعود أولى الدلائل على أن قوة الجاذبية قد تكون لها جذور هولوغرافية أيضا إلى الأبحاث التي قام بها ستيفن هوكينغ وعالم الفيزياء الأميركي جاكوب بيكنشتاين كلٌّ على حِدة في السبعينيات. اكتشف العالِمان أن كل ما يتعلق بالأجزاء الداخلية للثقوب السوداء يمكن تشفيره على سطح أفق الحدث (الذي يُعَدُّ نقطة اللا عودة، حيث لا يمكن لأي شيء أن يهرب من جاذبية الثقب الأسود بعد تجاوز هذه النقطة. يمكن تصور أفق الحدث كسطح مستوٍ حول الثقب الأسود، وعندما يعبر أي شيء هذا السطح، فلا يمكنه العودة مرة أخرى).

 

في عام 1997، ذهب الفيزيائي خوان مالداسينا إلى أبعد من ذلك، وتصور أن الكون بأسره قد يكون أقرب إلى صورة ثلاثية الأبعاد. أظهر مالداسينا أن نظاما من الجسيمات المتشابكة كميا والموجودة على سطح ما يمكن أن يحمل بداخله جميع المعلومات الخاصة بكون ذي أبعاد أعلى يتضمن الجاذبية والزمكان المنحني (وهو تأثير الجاذبية على الفضاء والزمن).

 

سرعان ما أصبحت فكرة الهولوغرام محور النقاش بين علماء الفيزياء النظرية الذين توسموا فيها طريقا واعدا لجعل نظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين تعمل مع نظرية الكم. (للتبسيط أكثر، يشير مبدأ الهولوغرافيا إلى أن المعلومات داخل منطقة من الفضاء يمكن وصفها بالكامل بالمعلومات الموجودة على حدودها. يرتبط هذا المفهوم بكيفية عمل الصورة الهولوغرافية عن طريق تمثيل صورة ثلاثية الأبعاد على سطح ثنائي الأبعاد. وبالمثل، يشير مبدأ الهولوغرافيا أيضا إلى أن المعلومات حول الكون ذي الأبعاد الأعلى يمكن تمثيلها على سطح ذي أبعاد أقل. وهذا يعني أننا قد نتمكن من فهم الكون وتفسيره باستخدام نموذج ثنائي الأبعاد أبسط بكثير من النموذج ثلاثي الأبعاد الأصلي).

 

الزمن في النموذج الهولوغرافي للكون

في البداية، لم يكن هناك أي تشابه بين الأكوان التي قدمتها نظرية الهولوغرام وبين الكون الآخذ في الاتساع الذي نقطنه. ومع ذلك، بدءا من عام 2011، توصلت أنا وستيفن إلى كيفية تطبيق فكرة الكون كهولوغرام لوصف المراحل الأولى لكون مستمر في الاتساع على غرار كوننا. وتبين في النهاية أن البُعد الزمني هو الذي يظهر بشكل هولوغرامي، أي أن التاريخ نفسه مُشفر على نحو هولوغرامي (بهيئة ثلاثية الأبعاد). بمعنى آخر، يمكن للبُعد الزمني أن يظهر كما لو كان هولوغراما يحمل معلومات عن الأحداث السابقة والمستقبلية. وربما يعني ذلك أن التاريخ نفسه يمكن فهمه واستخلاصه من البُعد الزمني، الذي يعمل واجهةً أو سطحا يحمل بين طياته جميع المعلومات المشفرة.

 

لكن يبقى السؤال الأهم هنا: كيف يظهر الزمن في النموذج الهولوغرافي للكون؟ وعلى عكس توقعاتنا، يظهر الماضي معتمدا على الحاضر في هذا النموذج، وليس العكس. بمعنى أنه في النهج الهولوغرافي للكون، عندما نتجه بعيدا في الزمن، فإننا نظرتنا للهولوغرام الكوني تغدو مشوشة وغير واضحة، ونتخلص من جزء من المعلومات المرتبطة بذلك الزمن. وبالتالي كلما تقدمنا في الزمن، تلاشت الدقة والتفصيل في الصورة التي نراها. لذا فالنموذج الهولوغرافي يشير إلى أن الزمن ليس شيئا ثابتا ومستقلا، ولكنه مرتبط بالحاضر ويعتمد على المعلومات المشفرة في الهولوغرام الكوني.

 

تُظهِر نظرية الهولوغرام أن الزمن وكذلك القوانين الفيزيائية التي تحكم الكون تختفي وتعود إلى الانفجار العظيم (ذلك لا يعني عودة الزمن والقوانين الفيزيائية حرفيا إلى الانفجار العظيم، بل معناه أن المعلومات الكونية تُشفَّر في الهولوغرام الكوني، الذي يمكن أن يحتوي على تفاصيل حول الزمن وكيفية تشكُّل الكون. لذا فإننا في الواقع نتحدث عن الفهم النظري لكيفية تشكُّل الزمن والقوانين الفيزيائية). وهذا يختلف تماما عن الرؤية الأفلاطونية القديمة التي تفترض أن قوانين الطبيعة ثابتة لا يمكن تغييرها، أو أنها حقائق أبدية تتجاوز العالم المادي. ومع ذلك، رأيت أنا وستيفن أن جوهر المسألة لا يكمن في القوانين ذاتها، وإنما في قدرتها على التغير وفقا للظروف والتطورات المختلفة في الكون.

 

ونتيجة لذلك، طرأ تغيير عميق في فهمنا لماهية الكون وتاريخه. لمدة تقارب قرن من الزمن، داومنا على دراسة تاريخ الكون معتمدين على خلفية ثابتة لقوانين الطبيعة التي اعتقدنا أنها غير قابلة للتغيير. ولكن الرؤية الكمية التي طورتها مع ستيفن مختلفة عن العادي لأنها تقرأ تاريخ الكون من الداخل، أي فهم الكون وتطوره من خلال دراسة العمليات والأحداث التي جرت في مراحله الأولى، كما تشمل هذه العمليات أيضا تطور القوانين الفيزيائية نفسها على مر الزمن.

إشعاع الخلفية الكونية
إشعاع الخلفية الكونية. (وكالة الفضاء الأوروبية)

تُعَدُّ هذه فكرة جديدة تقدِّم تحولا جذريا في فهمنا للكون، لكنها قد تتطور مع مرور الوقت لتصبح قابلة للاختبار. بينما على الجانب الآخر، يمكن اختبار بعض الأفكار المتعلِّقة بالكون المبكر عن طريق فهم وتحليل الإشارات المنبعثة من إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (CMB)، وهو أول ضوء انطلق في الكون بعد 380 ألف سنة من الانفجار العظيم. غير أن المشكلة تكمن في أن التطور البدائي للكون حدث قبل ظهور هذا الإشعاع الكوني. وبالتالي لا يمكننا الوصول مباشرة إلى معلومات حول هذا التطور البدائي من خلال دراسة هذا الإشعاع، لأن هذا الأخير يعكس حالة الكون بعد مرور 380.000 سنة من الانفجار العظيم. ولكي نتمكن من فهم التطور البدائي للكون، لا بد أن نستعين بطرق أخرى.

 

نحن الآن في وضع مشابه لما اختبره تشارلز داروين في القرن التاسع عشر، حينما كان لديه أدلة محدودة للغاية لفرضيته الجديدة. لكني آمل ألا يستمر هذا الوضع إلى الأبد، وأن يكون هناك إمكانية لتحسن الوضع أو الوصول إلى نتائج أكثر إيجابية في المستقبل. إننا نشهد حاليا ثورة في علم الموجات الثقالية، لأن تلك الموجات قد تصل إلينا قبل فترة طويلة من ظهور إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. لذا نأمل أن تمكننا الملاحظات المستقبلية للموجات الثقالية البدائية من سبر أغوار الكون البدائي وكيفية تطوره.

 

في نهاية المطاف، يمكن لتقنية الهولوغرافيا والتجارب المتعلقة بالأنظمة الكمية المتشابكة أن تفتح آفاقا جديدة لفهمنا للجاذبية والزمكان وأصل الزمن، وقد تساهم في ممارسة حقيقية لفهم الكون المبكر وتطوره. كان قلب علم الكونيات رأسا على عقب عملا يعكس أسلوب هوكينغ المتميز وطابعه الخاص. أما الفكرة التي استوحيناها أنا وستيفن من مفارقات الأكوان المتعددة، فكانت طريقتنا لفهم كيفية ظهور الكون على هذا النحو، وإذا توصلت الأبحاث والدراسات المستقبلية إلى مزيد من الأدلة التي تدعم هذه النظرية الجديدة، فقد تصبح هذه الأخيرة أملا ترنو إليه الأعين وأعظم إرث علمي يُخلِّفه ستيفن هوكينغ وراءه.

———————————————————————————————————

هذا المقال مترجم عن New Scientist ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: سمية زاهر.

المصدر : مواقع إلكترونية