شعار قسم ميدان

ميشيل إيكوشار.. المعماري الفرنسي الذي خطط المدن العربية لتخدم الاستعمار

المعماري الفرنسي ميشيل إيكوشار "Michel Ecochard" (الصحافة الفرنسية)

بعد الحرب العالمية الثانية، وبينما كانت المجتمعات في بلدان العالم المختلفة تموج بتغيرات متعددة، كان المعماريون الأوروبيون يتناقشون حول أفضل سبل التخطيط التي تستوعب تلك التغييرات، وقد انقسموا بين مَن رأى ضرورة مراعاة الثقافة المحلية في البناء والتخطيط، ومَن رأى أهمية وضع تصميمات حديثة للمدن تستوعب ما تغير في المجتمعات، لكن المشروعات التي خطَّها هؤلاء المعماريون الغربيون وجدت أرضا أخرى لتُختبر عليها.

كانت المدن العربية في ظل الاستعمار هي اللوحات التي رسم عليها المعماريون الأوروبيون أحلامهم لاختبار ما يصلح منها للتنفيذ على الأراضي الأوروبية، لاستيعاب التغييرات، ولإحكام السيطرة على المدن في الآن نفسه، وانعكس هذا التخطيط المعماري على جوانب أخرى في الحياة في المدينة العربية، ووضع أساسا قويا فيها لم تتجاوزه حتى اليوم بسلبياته، رغم مرور عقود.

في الشام والمغرب العربي تحديدا، كان هناك مصمم معماري واحد يقضي سنوات هنا وسنوات هناك، ليُنتج تصميمات معمارية ستغير وجه الحياة لعقود لاحقة، إنه المعماري الفرنسي ميشيل إيكوشار (Michel Écochard)، الرجل الذي غيَّر دمشق وبيروت والدار البيضاء. (1)

الاستعمار في المدن العربية

بعد الحرب، كان المخططون الأوروبيون على يقين أن مشاريع الإسكان والتخطيط الحضري الحديثة في القارة ستؤدي وظيفة رمزية في إعادة تنظيم المجتمعات الحديثة، وبحلول عقد الستينيات كان أحد أبرز مظاهر هذا التخطيط التي يمكن ملاحظتها في فرنسا وإنجلترا وهولندا وألمانيا وسويسرا والولايات المتحدة الأميركية هي مجمعات الإسكان الاجتماعي، التي امتلأت بآلاف العائلات، قدم أغلبهم من الأرياف في محاولة للبحث عن الفرص.

ولكن قبل أن تُشق سماء أوروبا ببناياتها المتشابهة التي تضم الواحدة منها عشرات الوحدات الصغيرة الكافية بالكاد لأن تقطنها أسرة صغيرة، كانت التجربة ذاتها قد اختُبرت على أراضٍ عربية (2). في ورقة نشرها معهد العالم للدراسات بعنوان "من الانفلات إلى التجريف: عن معمار المدينة العربية ومعيار الربيع العربي (مقترب أنثربولوجي)"، يشير الباحث "يحيى بن الوليد" إلى تأثير الاستعمار البادي في عدد من العواصم العربية، في تونس العاصمة على سبيل المثال يظهر ما يُطلق عليه في النقد المعماري وتخطيط المدن "النموذج الهوسماني"، نسبة إلى البارون جورج يوجين هوسمان صاحب التأثير الأبرز على التحديث المعماري.

في هذا النموذج، تصبح الطرق الواسعة هي شريان المدينة وتقود إلى الساحات والمجمّعات السكنية أو الصناعية والتجارية، بعد أن كانت المدن تتميز بالأزقة الضيقة الدائرية الملتفة التي تحمي من الشمس وتحمل نسقا "روحانيا"، جاء التصميم على هذا النحو ليمكن التحكم في المجال الواسع، وللسبب ذاته تعددت الأسيجة والأسوار (3)، وعلى النحو ذاته اختلف وجه المدينة في عدة بلدان عربية، لأسباب مختلفة، وبطرق مختلفة أيضا.

إيكوشار في الشرق

بعد تخرجه في مدرسة الفنون الجميلة بباريس عام 1929 بنحو عام فقط، انتقل ميشيل إيكوشار إلى دمشق ليشارك مع فريق إعادة الإعمار الفرنسي في ترميم "معبد بل" في تدمر ومسجد بصرى وقصر العظم، كان إيكوشار يتعرف على روح المدينة التي قدر لها أن تحمل بعد سنوات بصمته المعمارية (4). كان المخطط الذي سبق تنفيذه في دمشق عام 1936 باسم "مخطط دانجيه" يدمج سكان دمشق الأصليين جميعا دون تمييز حاد، لكن مخطط إيكوشار أرسى قواعد الفصل بين الطبقات، وكان هذا هو التأثير الأول (5).

خطّ إيكوشار شوارع المدينة معتمدا على شوارع تصل بين ساحات دائرية، وأدخل أحياء جديدة كانت في الأصل تابعة لريف دمشق إلى المدينة، أزال المخطط النسيج التاريخي للمدينة خارج السور القديم (6)، وأبقى فقط على بعض المباني التاريخية بُغية إقامة مدينة جديدة، لتخرج دمشق عن طابعها الخاص وتبدو بنمط معماري أوروبي، وتظهر فيها البنايات متعددة الطوابق.

يبدو هذا الطابع مبررا في رأي الكثيرين، فقد فرضته الزيادة السكانية والحاجة إلى التوسع خارج حدود المدينة القديمة، كما أن التأثر الحضاري والثقافي بين المستعمِر والمستعمَر أمر حتمي، لكن البعض يرى أن تجاوز الثقافة والهوية المعمارية وخصوصية المجتمع السوري والتركيز فقط على الجانب الاقتصادي أنشأ أحياء أسمنتية بدت وكأنها أجنة مشوهة وُلدت في غير مكانها (7). في هذا السياق، أشار بحث نشرته مجلة تاريخ دمشق عام 2021 بعنوان "الوسط الجغرافي لمدينة دمشق" إلى أن إيكوشار كان يهدف بالفعل إلى "تخريب" موروث عمران المدينة لصالح "النظافة والجمال" (8).

يصعب التفكير في مخطط إيكوشار في دمشق دون ذكر المقاومة الوطنية ضد الفرنسيين، في كتاباتها تشرح الدكتورة نادية خوست، التي عملت مسؤولة ضمن لجنة الحفاظ على المدينة القديمة في دمشق، أن شارع الثورة وسوق ساروجة صُمِّما على هذا النحو لاختراق الحي العربي، حي ساروجة، بما مثَّله للفرنسيين من مشكلات، وكسر المقاومة الوطنية فيه، وتفكيك النسيج المعماري له، وحدث الأمر ذاته في غوطة دمشق التاريخية التي كانت تُمثِّل ملاذا آمنا للثوار (9).

بعد ذلك، كان إيكوشار على موعد مع بيروت التي صمم لها أول مخطط هيكلي عام 1943، إلى جانب تصميمات أخرى، بينها تصميم الكلية البروتستانتية في شارع ماري كوري عام 1955 مع المعماري الفرنسي كلود ليكور، كما وضع تصميم المدرسة اللبنانية الكبرى عام 1960، ومستشفى ساكر كور في الحازمية عام 1961 (10).

تجريب استثنائي في الدار البيضاء

قبل انتقاله إليها كانت شمال أفريقيا في ظل الحكم الاستعماري مختبرا لمشاريع التحديث الأوروبية، وسيُتوِّج إيكوشار تلك التجربة بتخطيط مدينة الدار البيضاء لتكون نموذجا للمدينة التي خلقها الاستعمار بهندسة معمارية حديثة (11).

تشرح دراسة نشرتها مجلة عمران عام 2016 بعنوان "السياسة العمرانية والعلاقات الاجتماعية في المغرب" كيف كان الأوربيون يُمثِّلون نحو 30 أو 40% من مجموع سكان المدينة في بداية عهد الاستعمار عام 1907 (12). ومع تزايد أعداد المهاجرين الأوروبيين وتدفق رؤوس الأموال على الدار البيضاء بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت الحاجة إلى تهيئة المجال في المدينة، فعُيِّن ميشيل إيكوشار على رأس إدارة مصلحة التعمير عام 1946، وأصبح المهندس الفرنسي مسؤولا عن تصميم التوسعات بين عامَيْ 1946-1952. كان تصور إيكوشار هو مدينة مستوحاة من المساكن التقليدية، يمكنها استيعاب عدد كبير من الأسر، وهكذا شُيِّد السكن الاجتماعي في كريان سنطرال وسيدي عثمان والحي الحسني وحي العنق، وكانت الوحدات تتكوّن من غرفتين وفناء (13).

يؤكد المؤرخ والمعماري جان لويس كوهن في كتاب "الدار البيضاء: أساطير [كولونيالية] ومغامرات هندسية" أنّ الدار البيضاء كانت أرض "التجريب الاستثنائي" لمقاربات وممارسات جديدة في البناء والتعمير والهندسة الحديثة، أسس إيكوشار الترام، وبنى أول موقف سيارات تحت الأرض، وتحولت المدينة إلى مختبر لطرازات هندسية عديدة (14). كانت الدار البيضاء تتحول آنذاك إلى عاصمة اقتصادية، وقد أسس ميشيل إيكوشار معمار المدينة بأسلوب جماهيري وظيفي فصار لها نموذجها التعميري المتفرد؛ مدينة خُلقت لتصبح مرجعا هندسيا وحداثيا عالميا، وتُمثِّل أيضا مثالا لـ"حكومة كولونيالية" تبحث عن تقديم خدمات معمارية لتفادي النبذ الذي طالها في المنطقة (15).

يؤكد جان لويس كوهن في كتاب "الدار البيضاء: أساطير [كولونيالية] ومغامرات هندسية" أنّ الدار البيضاء كانت أرض "التجريب الاستثنائي" لمقاربات وممارسات جديدة في البناء والتعمير والهندسة الحديثة (مواقع التواصل)

في البداية، طبَّق إيكوشار المبادئ المعمارية المستوحاة من ميثاق أثينا، فقدم بنايات جديدة تحترم الثقافة المحلية وتراعي الخصوصية الثقافية للمغاربة المسلمين، كان السكن أفقيا من طابق واحد، تطل نوافذه على الداخل، بينما قدم للسكان الأوروبيين سكنا عموديا (بأدوار متعددة)، وأبعد حركة مرور السيارات عن قلب المساكن، فخلق نوعا من الحميمية بين سكانه، وعلى هذا النحو بنى ما يقرب من 10 آلاف وحدة سكنية.

لكن الدراسة تذكر أن هذا المقترح اصطدم بعد سنوات قليلة بمصالح عقارية كثيرة، أدت إلى عزل إيكوشار من منصبه عام 1953، لتتوالى لاحقا تأثيرات تصميماته، فالأحياء التي بُنيت على هذا النحو لم تستوعب الزيادة المتنامية للسكان (16)، كما يوضح المؤرخ والمعماري جان لويس كوهن في كتابه أيضا أن المدينة تحولت بعد ذلك -مع التزايد المتواصل لأعداد السكان- إلى أماكن حقيقية للانفجار، في نموذج واضح أيضا على الدور الذي يمكن أن تلعبه الهندسة والتعمير في صيرورة المجتمع (17).

بعد استقلال المغرب، أصبح مركز المدينة الذي كان سابقا مُخصَّصا ليقطنه الفرنسيون ومجهزا ببنى تحتية خاصة بهم، والضواحي التي انتقل إليها المغاربة الوافدون من القرى، أصبح المركز سكنا للنخب الفرانكفونية والميسورين، وامتدت الضواحي لتشمل مزيدا من الفقراء وبعض أبناء الطبقة المتوسطة (18). شهدت الدار البيضاء ميلاد "البروليتاريا"، ثم بداية ظهور العشوائيات وأحزمة الفقر ومشكلات أخرى تُصنَّف ضمن "أمراض" أو "باثولوجيا المعمار". وحتى اليوم لا تزال بصمات إيكوشار راسخة في الأحياء وتظهر في الدروب والبلوكات والأزقة والساحات، ولعل أبرزها بقاء الدار البيضاء ساحة للفصل الاجتماعي بين الطبقات، كما تشير المشاهدات والدراسات.

____________________________________________

المصادر:

  1. This was Tomorrow.. The colonial Modern and it’s blind spots
  2. المصدر السابق
  3. من الانفلات إلى التجريف: عن معمار المدينة العربية ومعيار الربيع العربي (مقترب أنثروبولوجي)
  4. Michel Ecochard
  5. دمشق: وجوهٌ عمرانية يصعب حذفها
  6. مخطط معماري تنظيمي جديد لدمشق مصمم ليستوعب 7 ملايين نسمة و205 تجمعات سكنية وعلى مساحة 3000 كيلومتر مربع
  7. العمارة في سوريا.. من رحابة البيت الدمشقي إلى ضيق الكتل الإسمنتية
  8. مجلة تاريخ دمشق
  9. هل إيكوشار هو من أحرق ساروجة؟ – د. ناديا خوست هذا الحريق ليس بريئاً
  10. Michel Ecochard
  11. This was Tomorrow!
  12. The ‚colonial Modern’ and it’s blind spots
  13. السياسة العمرانية والعلاقات الاجتماعية في المغرب
  14. ذاكرة معمار الدار البيضاء
  15. من الانفلات إلى التجريف: عن معمار المدينة العربية ومعيار الربيع العربي (مقترب أنثروبولوجي)
  16. محصّلات الحداثة المعمارية في بلدان الجنوب في الخمسينيات من القرن المنصرم: الدار البيضاء وشانديغار
  17. من الانفلات إلى التجريف: عن معمار المدينة العربية ومعيار الربيع العربي (مقترب أنثروبولوجي)
  18. محصّلات الحداثة المعمارية في بلدان الجنوب في الخمسينيات من القرن المنصرم: الدار البيضاء وشانديغار
  19. المدن العربية… جبال الأسمنت "الشامخة"
  20. من الانفلات إلى التجريف: عن معمار المدينة العربية ومعيار الربيع العربي (مقترب أنثروبولوجي)
  21. فـي أفق الإنصاف المجالي.. متى ننجز القطيعة مع ليوطي نهائيا بالبيضاء؟!
المصدر : الجزيرة