شعار قسم ميدان

غرس الكراهية.. ماذا يدرس الأطفال في واحة الديمقراطية؟

وحشية نظام التعليم الإسرائيلي.. ماذا يدرس الأطفال في واحة الديموقراطية؟
مناهج التعليم الإسرائيلية تمارس الـ"بروباغندا" حتى على طلابها. (شترستوك)

بينما كانت إسرائيل في ذروة صدمتها، ظهيرة السبت السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت هناك محادثة حامية تجري عبر إحدى مجموعات دردشة "واتساب" المغلقة، بين مجموعة من أساتذة الجامعة الإسرائيليين (1).

في خضم تلك المحادثة التي يمكنك توقع ما قيل فيها طبعا، قررت أستاذة منهم أن تقاطع سيل الغضب باقتباس مباغت. الاقتباس كان لإحدى مقولات الفيلسوف الفرنسي جان-بول سارتر: "فجأة، وبعد سنوات عديدة رزح خلالها المقهور تحت أقدامك الحديدية، لاحت له الفرصة ليرفع عينيه، فأي نظرة تتوقع أن تراها فيهما؟"، ثم أردفت: "لقد رأينا هذه النظرة للتو".

 

متلازمة الإنسانية

حينها، لم يكن أحد يعلم بالضبط ماهية "ما رأوه للتو"، عدا الرواية الإسرائيلية التي غمرت الشبكة العنكبوتية لحظيا، عن "قطع رؤوس الأطفال"، و"المحارق الجماعية"، و"حفلات الاغتصاب" التي تطورت لاحقا إلى "حفلات اغتصاب للأطفال" ثم "حفلات اغتصاب للجثث" (2) (3) (4).

هؤلاء الأساتذة لم يكونوا يعلمون حينها أنها أكاذيب، ورغم بشاعتها، فإن صدمتهم من اقتباس سارتر كانت أعنف على الأرجح، ذلك أن قائلته كانت "نوريت بيليد-إلحنان"، زميلتهم اليهودية الإسرائيلية، المتخصصة في فقه اللغة (Philology) بجامعة القدس (1).

الآن حان وقت صدمتك أنت؛ في هجمة منفصلة تماما، كمًّا وكيفًا ونوعًا، قام ثلاثة استشهاديين بتفجير أنفسهم في مركز تسوق "بن يهودا" بالقدس المحتلة عام 1997، في محاولة لإجبار سلطات الاحتلال على الإفراج عن المعتقلين، وكانت حصيلة القتلى رجلا فشل المسعفون في التعرف عليه، وثلاث فتيات في أعمار 12، و14، و15 سنة (5).

إحداهن كانت تُدعى "سمادار"، وكانت على بُعد أيام من عيد ميلادها الثالث عشر، وكانت قد استأذنت والدتها أن تعفيها من مجالسة أخيها الصغير "ييغال" ذلك اليوم، لتتمكن من ابتياع هدية لصديقتها، التي سيحل عيد ميلادها قريبا أيضا. والدتها التي أذنت لها بالخروج ذلك اليوم، كانت دكتور "نوريت بيليد-إلحنان".

"هذا هو حصاد ما زرعته إسرائيل" (6)، كان هذا تعليقها الأول للصحافة عن الواقعة بعد أيام، ونشرته "لوس أنجلوس تايمز" بعنوان: "أم تلوم سياسات إسرائيل على موت ابنتها". طبعا كان هذا عندما كانت أميركا لا تزال تملك ما يمكن اعتباره "صحافة"، على الأقل بالنسبة للقارئ العربي، أو لعل الخبر مرَّ سهوا من تحت أعين "الرقابة"، لا نعلم يقينا.

في أعقاب الواقعة، قال "أفراهام دِسكِن"، زميلها في التدريس بجامعة القدس، وصديق العائلة المقرب لسنوات، إن المآسي المماثلة يمكنها، أحيانا، أن تُقوّي إيمان الفرد بمواقفه السياسية والإنسانية المسبقة، بينما قد تدفعه للكُفر بها في أحيان أخرى (6). دكتور "نوريت" كانت من النوع الأول، وغالبا ورثت تلك النزعة من والدها، "ماتي بيليد"، الذي كان جنرالا عسكريا في جيش الاحتلال، تحول إلى مُشرِّع قانوني مناصر لحقوق الإنسان، وكان، بالتبعية، بعد هذا التحول غير المتوقع، يتعرض لـ"الاتهامات" نفسها التي تعرضت لها "نوريت" عبر مسيرتها، وأهمها على الإطلاق كان "معاداة الصهيونية" (6).

العبارة انتهت لو لم تلاحظ؛ تلك هي التهمة. لذا، وبعد مقتل "سمادار" بأربعة أعوام بالضبط، كانت دكتور "نوريت" تحصل على جائزة "ساخاروف" الأوروبية لحقوق الإنسان وحرية التعبير، مناصفة مع الأديب والكاتب الفلسطيني "عزت الغزّاوي"، الذي اعتقلته سلطات الاحتلال عدة مرات بسبب "نشاطاته السياسية"، وتوفي بعد حصوله على الجائزة بعامين فقط (7) (8).

 

ما وراء الموت

منذ تلك اللحظة، كرّست دكتور "نوريت" حياتها لدراسة الأسباب الفعلية التي أودت بحياة ابنتها من وجهة نظرها، وتلك الأسباب كانت، في الواقع، سببا واحدا فقط؛ النظام التعليمي لدولة الاحتلال، وما ينشأ عليه الأطفال في إسرائيل، ويحوِّلهم إلى هذه "الوحوش" لاحقا، على حد تعبيرها (9) (10).

ما ساعد دكتور "نوريت" على استبعاد باقي الأسباب التي قد تمر ببال أي "صهيوني تقليدي" هو أنها ببساطة لم تُفطَر على كراهية الآخرين، ومن ثم كوّنت علاقات جيرة وصداقة طبيعية مع محيطها الفلسطيني في القدس، وبالتبعية لم يقنعها التفسير الإسرائيلي "العبقري" القائل إن العرب عموما، والفلسطينيين خصوصا، "يحبون تفجير الأشياء والعيش في مياه المجاري"، كما يصوغه الفتى الذهبي للدعاية الإسرائيلية، "بِن شابيرو" (11).

الأهم أنها، ببساطة أيضا، كانت تعلم الحقيقة؛ الحقيقة عن النكبة وميلاد دولة إسرائيل، ولذا تمكنت من اختراق القشرة المصطنعة المحيطة بكل تصرفات الفلسطينيين المعادية لدولة الاحتلال، ورؤية الأمور على ما هي عليه، وإدراك بديهيات وأبجديات الحالة، وباستخدام دراستها الطويلة في فقه اللغة، وعلم دراسة العلامات والرموز (Semiotics)، أخرجت كتابها الأول عن المسألة بعد 10 أعوام تقريبا، بعنوان "فلسطين في كتب التعليم الإسرائيلية" (12).

ماذا ورد في كتابها؟ هناك طريقتان لإخبارك؛ الأولى هي أن نخبرك فعلا، والثانية هي أن يخبرك "إيلون ليفي"، المتحدث الرسمي باسم سلطات الاحتلال، لو استمعت لحواره الأخير مع "بيرس مورغان"، ثم أخذت كل ما نُسب فيه لأهل غزة، وطبَّقته -حرفيا- على النظام التعليمي لدولة الاحتلال (13).

ما الفارق بين الطريقتين؟ عمليا، لا شيء؛ من ضمن سيل الأكاذيب التي لوَّث بها "ليفي" آذان وعقول كل مَن ساقهم حظهم العاثر للاستماع له في تلك الدقائق، تحدث عن ضرورة -انتبه رجاء- "استئصال النزعة الأصولية للغزاوية"، التي تعني أن إسرائيل ستقضي على ما سمّاه "النشأة الجهادية الاستشهادية" للشباب في القطاع. نعم، استخدم هاتين اللفظتين تحديدا؛ الجهاد والاستشهاد.

الآن يمكنك توقُّع ما أوردته دكتور "نوريت" في كتابها بلا عناء يُذكر، لكن لا بأس من ذكر بعض التفاصيل التي نجحت نوريت في الحصول عليها بحكم جنسيتها أولا، وموقعها الوظيفي ثانيا. في صباح الثاني والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، بعد ستة أسابيع تقريبا من بداية العدوان على غزة، جلست دكتور "نوريت" مع "روبرت مارتن" في شرفة منزلها بالقدس، لتحاول إخباره بنبذة بسيطة عما استخلصته من خمسة عشر عاما على الأقل من دراسة المسألة (9).

"مارتن" هو ناشط أسترالي يناصر القضية الفلسطينية ويسعى للسلام حد تعبيره، وكان أول ما طرحه على دكتور "نوريت" هو أحد أهم أركان دعاية دولة الاحتلال، القائلة إن الفلسطينيين يُعلِّمون أطفالهم الكراهية والحرب، بينما يُعلِّم الإسرائيليون أطفالهم الحب والسلام.

"أولا، الفلسطينيون لا يُعلِّمون أطفالهم الكراهية، وحتى لو أرادوا لما استطاعوا، ببساطة لأنهم مراقبون طوال الوقت، مقيدون طوال الوقت، ومناهجهم التعليمية تقع تحت إشراف الاتحاد الأوروبي وجيش الاحتلال ذاته".

دكتور "نوريت" في مقابلتها مع "روبرت مارتن" (9)

تلك هي الحقيقة حول المناهج، والعملية التعليمية كلها في الضفة الغربية الخاضعة لرقابة تامة من جيش الاحتلال، وبالتالي لا يستطيع الفلسطينيون إدارج تاريخهم، بصفتهم شعبا، في تلك المناهج، ناهيك بتعليم الكراهية أو غيرها، باستثناء تفاعلاتهم اليومية مع أطفالهم في بيوتهم، ما لم تقرر إسرائيل إخضاعها لرقابة جيش الاحتلال طبعا. هذا هو الجزء الأول من خطة معقدة لمحو هوية الفلسطينيين، من خلال إزالة تاريخهم من الذاكرة الجمعية.

Palestinians gather near the damage of Jibb Al-Deeb School demolished by Israeli authorities in the small Palestinian village of Bayt Ta'mar, Bethlehem, West Bank, Palestinian Territory - 07 May 2023
أطفال فلسطينيون يحملون كتبهم الممزقة بجوار بقايا مدرستهم التي هدمها الاحتلال في الضفة الغربية (شترستوك)

 

"الشيطان يكمن"

المزيد من التفاصيل؟ هل تعلم أن نصف صفحات الكتب التعليمية الفلسطينية تصبح "بيضاء" بعد مرورها عبر الرقابة؟ هذا ليس تعبيرا مجازيا بالمناسبة؛ الرقابة تزيل أي ذكر لحقيقة النكبة وأي ذكر للاجئين -لأن ذلك يعني ذكر حق العودة- وأي ذكر للجذور التاريخية للوضع الحالي، بما في ذلك -صدِّق أو لا تُصدِّق- أي ذكر للحضارة الإسلامية والإسلام عموما بعد القرن السابع عشر الميلادي (9).

طبقا لمناهج إسرائيل التعليمية، فالمسلمون "توقفوا عن الوجود" بعد عام 1700. كما أن المنهج المفروض على الأطفال المسلمين الفلسطينيين هو المنهج ذاته المقرر للأطفال اليهود الإسرائيليين، مترجما إلى العربية؛ يتعلمون عن نشأة إسرائيل، والمشروع الصهيوني، وسياسة بناء المستوطنات، بالضبط كما يتعلم أطفال الإسرائيليين، ولكن ذلك لا يجعلهم أكثر تقبلا لسرقة منازلهم وأراضيهم للأسف، رغم أن كل ما تحتويه بعض الكتب عن تاريخهم وحضارتهم وثقافتهم وفنونهم وأدبهم لا يتجاوز 4 صفحات فقط، وفقا لدكتور "نوريت" (9).

بعد ذلك، تأتي المرحلة الثانية، وهي تلقين الأطفال الإسرائيليين بعض الأفكار الرئيسية، وهي عملية مبكرة جدا تبدأ في سن الثالثة، ويمكن تلخيصها في عدة "مبادئ"، إن جاز للمبادئ أن تدعو للقتل والعنصرية (14). أول هذه المبادئ هو ما تسميه دكتورة "نوريت" فلسفة الـ"Othering"، ولا يوجد لتلك اللفظة مقابل في العربية، ولكنها اسم الفعل من "Other" الإنجليزية أو "آخر"، والمقصود هو تحويل الفلسطينيين في عيون الأطفال الإسرائيليين إلى مجرد "آخر"؛ "آخر" مُجهّل، بلا ملامح أو أصل أو دوافع أو طموحات، ما يفسر التعصب الجنوني والعنصرية الشيطانية تجاه الفلسطينيين لاحقا بوصفها "حقا شرعيا".

يُقال للأطفال: نحن نقتل الفلسطينيون ونسرق منازلهم ونحتل أرضهم لأنهم متمردون عنيفون يرفضون السلام
يُقال للأطفال في إسرائيل: نحن نقتل الفلسطينيين ونسرق منازلهم ونحتل أرضهم لأنهم متمردون عنيفون يرفضون السلام (شترستوك)

في غضون ذلك، يُحصر الفلسطينيون في صور ذهنية مقلقة ومخيفة، ولكن بطريقة غير مباشرة؛ فهم إما "مزارعون بدائيون" أو "جحافل من اللاجئين" أو "أقلية ديموغرافية" (9). فوفق كتب إسرائيل التعليمية، لم يخرج من بين الفلسطينيين -لاجئين كانوا أو مزارعين- أي شاعر أو رجل أعمال أو ممثل أو مقاول أو أديب أو تاجر أو مهندس أو طبيب أو مُعلم. لِمَ؟ لأن هذه المهن تستدعي صورا ذهنية إنسانية طبيعية، وتُظهر الفلسطينيين بوصفهم "مجتمعا" يشبه أي مجتمع.

هذه التقنية تتخذ معنى حرفيا كذلك. في كتب إسرائيل، الفلسطينيون لا يملكون أية صور ابتداءً، وفي مبدأ عام؛ كل الإشارات البصرية لهم مُجهلة، وكل صورهم مرسومة، أو تُظهرهم من ظهورهم، أو بلا وجوه، أو تستخدم صورا نوعية عمومية (Generic) منزوعة الروح والإنسانية، لبشر وُجدوا في خيال الرسّام أو الذكاء الاصطناعي فقط، بهدف الترويج للأنماط السابقة ذاتها.

"أعلم أن ما أقوله صادم، ولكن أغلب هؤلاء الأطفال لا يملكون مرجعا آخر يمكنهم تصور الفلسطينيين من خلاله، ببساطة لأنهم، على الأغلب، لم يروا فلسطينيا واحدا في حياتهم".

دكتور "نوريت" في مقابلتها مع "روبرت مارتن" (9)

بناء على ما سبق، لا يُوصف الفلسطينيون إلا بكونهم "مشكلة"، وهم لا يختلفون في ذلك عن أي فئة احتقرها الغرب عبر تاريخه. في الواقع، هناك تماثل عجيب عابر للأزمان في استخدام هذه اللفظة تحديدا. فـ "الهنود الحُمر" كما يفضل الغرب تسميتهم، أو السكان الأصليون لأميركا،  وُصفوا بأنهم "مشكلة"، والسود وُصفوا بأنهم "مشكلة"، وصدِّق أو لا تُصدِّق؛ اليهود أيضا وُصفوا بأنهم "مشكلة"، قبل أن يعبر بعضهم البحر المتوسط، ويكتشف أن "المشكلات" يمكنها أن تعاني من "المشكلات" بدورها (15) (16).

الفلسطينيون مشكلة لأنهم "مزارعون بدائيون" يرفضون "التطور" و"التحضر"، ومشكلة لأنهم "جحافل من اللاجئين" -تُرى مَن ألجأهم؟- لا يُخرجون علماء ولا نجارين ولا صحفيين ولا يضيفون شيئا للبشرية، ومشكلة لأنهم "أقلية ديموغرافية" مزعجة ترفض الانصهار في المجتمع والانسجام مع فئاته.

"الفلسطينيون غير موجودين في الخرائط الإسرائيلية؛ يمكنك أن ترى خريطة عن تعداد الفلسطينيين في إسرائيل بلا مدينة أو قرية واحدة من مدنهم وقراهم، حتى الجانب الشرقي من القدس (ضمن الأراضي الفلسطينية قانونا) يظهر فارغا. هذا يمنح الأطفال الإسرائيليين الانطباع بأن تلك "الأقلية المزعجة من اللاجئين البدائيين" تعيش "عليهم" أو "فوقهم" أو "فيهم"، وهو ما يشعرهم بالتهديد طوال الوقت".

دكتور "نوريت" في مقابلتها مع "روبرت مارتن"

 

دوائر صهيون المفرغة

كل ما سبق قد يكون متوقعا رغم شيطانية تفاصيله، ولكن ما "يميزه" حقا هو التقنيات العلمية التي تُستخدم في تمرير هذه القناعات والسرديات التاريخية عن الفلسطينيين خصوصا، والعالم عموما.

هل لاحظت كيف "تنشأ" المشكلات من العدم في كتب التعليم الإسرائيلية؟ كيف تصطدم كل محاولات البحث بحائط من الخوف والرعب، يتحول معه العالم إلى كيان مسطح مُبهم تحدث فيه الأشياء بلا مبررات أو تأصيل؟ كيف تكونت تلك "الأقلية الديموغرافية"؟ ومن أين أتت؟ وكيف أصبحت تلك "الجحافل من اللاجئين" جحافل من اللاجئين؟ ولماذا "يرفض المزارعون البدائيون التحضر"؟ هل لأنهم، ببساطة، يرفضون "التحضر"؟ ثم هل يجب على المزارعين أن يقبلوا "التحضر" أصلا؟

كل تلك الأسئلة المنطقية المشروعة تُولد ميتة لأن الإسرائيليين يستخدمون ما تُعرفه دكتور "نوريت" بـ"التفسير باستخدام النتائج" (Consequential Explanation)، وهو أحد تطبيقات ما يصفه علماء النفس والاجتماع بـ"النبوءات ذاتية التحقق" (Self-Fulfilling Prophecies)، أي -باختصار- هو أن الإسرائيليين يأخذون نتائج جرائمهم، ثم يحوِّلونها إلى أسباب جرائمهم (17) (18).

مثلا، يُقال للأطفال في إسرائيل: نحن نقتل الفلسطينيين ونسرق منازلهم ونحتل أرضهم لأنهم متمردون عنيفون يرفضون السلام، رغم أن أي نتيجة منطقية لقتل الفلسطينيين وسرقة منازلهم واحتلال أرضهم، ستدفعهم للمقاومة والتمرد ويقاومون ورفض خطط ومشاريع "السلام" المزعومة. لذا، وحين يرفض الفلسطيني سرقة أرضه والتضييق عليه وعلى عائلته ثم يقاوم، سيلتقط الإسرائيليون النتيجة ليقولوا للأطفال أنفسهم: ألم نقل لكم إنهم متمردون عنيفون يرفضون السلام؟

KHAN YUNIS, GAZA - DECEMBER 7: (EDITORS NOTE: Image depicts graphic content) A Palestinians child, injured in an Israeli airstrike arrives at Nasser Medical Hospital on December 07, 2023 in Khan Yunis, Gaza. Israel has stepped up military operations in Gaza after a sustained truce with Hamas did not hold further than a week despite diplomatic talks and captives released. (Photo by Ahmad Hasaballah/Getty Images)
طفل فلسطيني من غزة بعد خروجه من تحت الأنقاض عقب استهداف منزله بالقصف الإسرائيلي العنيف بالقطاع (غيتي)

المسألة كلها قائمة على ادعاء غير مُؤسَّس، وهو ما يعنيه مصطلح "نبوءة ذاتية التحقق"؛ أي إنك تختلق المشكلة من العدم أولا (عنف الفلسطينيين)، ثم تدفعها للتحقق بأفعالك (الاحتلال والقتل والتهجير)، وأخيرا تدّعي الحكمة وبُعد النظر وأنت تردد عبارات مثل "من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها" في كل مناسبة كـ "العرائس الصينية الرديئة". طبعا كل ذلك يحدث باستخدام أفضل الأساليب الدعائية. نعم، مناهج التعليم الإسرائيلية تمارس "البروباغندا" حتى على طلابها، ومن أهم أساليب تلك "البروباغندا" على الإطلاق "التبطين".

على عكس ما قد تتوقع، فالمعلمون الإسرائيليون لا يصرخون في الصف قائلين إن الإسرائيليين يجب أن يقتلوا الفلسطينيين ويسرقوا منازلهم ويحتلوا أرضهم. بعضهم يفعل طبعا، وهم هنا يخاطبون وعي الأطفال المباشر، برسالة واضحة تتطلب ردة فعل آنية، وهذا مفيد في حالات "الحرب" المشابهة للحظة الحالية.

أما الأغلبية، فتوفر كل الظروف السانحة لكي يستنتج الطفل ما سبق بمفرده؛ لو كان الفلسطينيون أقلية ديموغرافية من اللاجئين البدائيين المتمردين الدمويين الذين يرفضون التحضر ويُشكِّلون عبئا على الاقتصاد ومشكلة بلا حل، فلا داعي لإخبار الطفل بـ"التصرف المناسب" حيالهم عندما يكبر. دعه يستنتج ذلك بنفسه؛ هذا يوهمه بأن أفكاره وقناعاته، ومن ثم تصرفاته، نابعة من ذاته، من عقله وتحليله وقراراته، وهذا "أفضل" -إن جاز التعبير- من أن يخبره أحدهم صراحة بما يجب أن يفعله.

هناك مقطع قديم معبر جدا لطفل إسرائيلي تسأله والدته عما يريد أن يكون عندما يكبر، فيجيب: "جندي"، فتسأله عما يريد أن يفعل بجنديته، فيجيب: "أن أركب سيارة "جيب" وأقتل العرب" (19).

هذا الطفل، الذي يبدو طفلا عاديا جدا بالمناسبة، هو ابن نائبة حزب العمال الإسرائيلي هار-ميليخ، التي كانت تسكن إحدى المستوطنات الإسرائيلية آنذاك، وقد فسرت ما قاله بأنه رغبة في الانتقام لأبيه، الذي زعمت أنه قُتل في هجوم عام 2003. لماذا قُتل أبوه؟ للأسباب التي ذكرناها آنفا ووضحنا مقدّماتها، أي لأن العرب "يحبون تفجير الأشياء والعيش في مياه المجاري" طبعا.

 

"كل اتهامات الصهاينة"

هذه "الدورة" المكثفة من العدوانية تسبح في سياق عام قائم على ثلاثة أركان بدوره: عقدة الاضطهاد التاريخية، ومن ثم تجهيل الخصوم باعتبارهم كيانا واحدا متصلا عبر الزمن يتآمر على الإسرائيليين واليهود طوال الوقت، وبالتالي -كما لاحظت- العَسْكَرة الممنهجة لكل جوانب الحياة، التي تُصبح "تبريرا" مقبولا حينها للتعامل مع "المشكلة الفلسطينية".

"في المناهج الإسرائيلية، كل الشعوب والحضارات عبر التاريخ كان لها هدف واحد فقط؛ قتل اليهود. لا فرق في ذلك بين الإغريق والرومان والفرس والنازيين والعرب".

دكتور "نوريت" في مقابلتها مع "روبرت مارتن" (9)

مع مرور السنوات، يبدأ الإعداد العسكري في التسلل للمناهج بدوره، ومن ثم حياة الأطفال. دوريا، يزور المدارس العديد من ضباط جيش الاحتلال وقادته لينقلوا "خبراتهم" في التعامل مع ما يًسمّونه بـ"المشكلة الفلسطينية"، وليحكوا تاريخا اقتُطع نصفه وزُيِّف نصفه الآخر. وبعد خمسة عشر عاما يقضيها الأطفال على خط تجميع الجنود الإسرائيليين، منذ الثالثة وحتى الثامنة عشرة، تأتي اللحظة التي ينتظرونها أخيرا؛ عندما يخضعون لقانون التجنيد الإجباري، ويؤدّون خدمتهم العسكرية في تطبيق ما تعلّموه، ولكن تتبقى هنا خطوة أخيرة.

هل سمعت عن "إسحاق غنزبرغ" من قبل؟ هناك أيضا طريقتان لنخبرك عنه؛ الأولى أن نخبرك عنه فعلا، والثانية أن نكتفي بإخبارك أن سلطات الاحتلال ذاتها ألقت القبض عليه في 2010 بتهم العنف والعنصرية (20).

"غنزبرغ" هو حاخام إسرائيلي أصدر كتابا بعنوان "توراة الملك" (The King’s Torah)، يجيز فيه قتل "غير اليهود الذين يُمثِّلون تهديدا لدولة إسرائيل". ما قاله "غنزبرغ" حرفيا في كتابه هو إن "من المسموح قتل الصالحين من الأمم المعادية لإسرائيل، حتى لو كانوا غير مسؤولين عن التهديد الذي تُمثِّله أممهم لإسرائيل" (21).

والآن ستسأل؛ ما علاقة "حاخام" متطرف مثل "غنزبرغ"، يُمثِّل حالة فردية غالبا، ويوجد أشباهه في أي مجتمع مهما كان متحضرا ومتعلما، بمناهج التعليم الإسرائيلية؟ حسنا، الإجابة بسيطة؛ "حاخام" متطرف مثل "غنزبرغ" لا يُمثِّل حالة فردية في إسرائيل، وما تفعله خطوط تجميع الجنود الإسرائيلية فعليا عبر 15 عاما من تعبئة الأرواح والأبدان والعقول هو إعداد هؤلاء الأطفال لتلك اللحظة، اللحظة التي يصبحون فيها جنودا، ويتسلمون فيها كتاب "غنزبرغ"، جزءا من "إعدادهم الذهني والنفسي"، قبل أن يُشحنوا مقاتلين إلى غزة (9).

———————————————————————-

المصادر

1- إسرائيل تُخرس المنتقدين في الداخل – The New York Times

2- مسؤول إسرائيلي يقول إنه عثر على أطفال رؤوسهم مقطوعة بعد هجمات حماس – France 24

3- مسؤول إسرائيلي لا يمكنه تأكيد التقارير عن قطع رؤوس الأطفال – CNN

4- "مقزز.. عناصر حماس مارست الجنس مع جثث النساء اليهوديات!" – IG

5- مقتل 7 في انفجارات بالقدس – CNN

6- أم تلوم سياسات إسرائيل على موت ابنتها – Los Angeles Times

7- استيطان الطفولة وأصول التربية الإسرائيلة؛ مقابلة مع دكتور "نوريت بيليد-الحنّان" – Ground Views

8- عزت الغزّاوي – وكالة وفا

9- أستاذة الجامعة والكاتبة الإسرائيلية "نوريت بيليد-الحنّان" تصف نظام التعليم الإسرائيلي بالعنصري – Youtube

10- أكاديمية تزعم أن كتب التعليم الإسرائيلية منحازة – The Guardian

11- خطبة عظيمة لدكتور "نوريت بيليد-الحنّان" – المبادرة الفلسطينية لتعميق الحوار العالمي والديمقراطية

12- كتاب دكتور "نوريت بيليد الحنّان" | فلسطين في كتب المدارس الإسرائيلية؛ الأيديولوجيا والبروباغندا في التعليم – Amazon

13- "بيرس مورغان" يرفض زعم المتحدث الإسرائيلي "إيلون ليفي" بأن جيش بلاده قتل "آلاف الإرهابيين" – Piers Morgan Uncensored

14- دكتور "نوريت بيليد-الحنّان"؛ تعليم أم تسميم عقول؟ – The Palestine Chronicle

15- خطة عام 1950 لمحو الريف الهندي في أميركا – APM Reports

16- الهجرة وما سُمي بـ"المشكلة اليهودية" – Memorial & Museum of Auschwitz and Birkenau

17- النبوءات ذاتية التحقق – Britannica

18- النبوءات ذاتية التحقق؛ نظرة عامة – Simply Psychology

19- مقطع قديم لنائبة كنيست إسرائيلية يقول فيه ابنها إنه يريد "قتل العرب" يطفو للسطح مجددا – Middle East Eye

20- كتاب يبيح القتل يتسبب في اتهامات لحاخام آخر – Haaretz

21- كتاب "توراة الملك" وقتل الفلسطينيين – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

22- مصطلحات ومفاهيم دينية عبرية – وكالة وفا الفلسطينية

23- معنى لفظة "غوييم" اليهودية – The Collins Dictionary

المصدر : الجزيرة