شعار قسم ميدان

"التكديس القهري".. هل يعدُّ الولع بمزاحمة "الكراكيب" مرضا نفسيا؟

"التكديس القهري".. كيف يتحول الأمر ليصبح جحيما لأفراد العائلة؟

مقدمة الترجمة

"مؤكَّد سنحتاج إليها فيما بعد"، هذه العبارة على بساطتها كفيلة بتحويل منزلك إلى مكان لا يخلو من "الكراكيب". هل سبق أن زرت منزلا لأحد أقاربك أو أصدقائك ووجدت المكان أشبه بمستودع مليء بمختلف الأغراض التي لا قيمة لها؟ هل أدهشك سطح المنزل وهو مكدَّس بالنفايات والحاويات القديمة؟ هل واجهته ذات مرة بسلوكياته الغريبة تلك وتحجَّج بآلاف الأعذار لتصرفاته؟ ألم تلاحظ أن الأمور تزداد تعقيدا بمرور الأيام، ويزداد انكبابه على تجميع الأشياء بلا توقف؟ ألم تتساءل يوما عن سبب ارتباكه وقلقه الشديد إن حاول أحدهم التخلص من هذه الأغراض؟ في هذا التقرير يشرح لنا الدكتور روبرت مولر من موقع "سيكولوجي توداي" السبب وراء ميل بعض الأشخاص إلى تكديس الأشياء باستماتة، فيما يُعرف باضطراب "التكديس القهري".

نص الترجمة

تُشير التقديرات إلى أن هناك ما يقرب من مليونَيْ شخص على الأقل يعيشون في أميركا الشمالية منغمسين تماما في فوضى عارمة، وأينما توجَّهوا يجدون صعوبة بالغة في شق طريقهم إلى أي مكان بالمنزل. الطاولات والمطبخ وجميع الأماكن مُكدَّسة بالأغراض، لدرجة أنه بالكاد يمكنهم العثور على مكان فارغ للجلوس أو وضع الأطباق فيه.

يُطلَق على هذه الحالة "اضطراب التكديس القهري"، فعلى الرغم من أن هذا المرض لا يُعَدُّ اضطرابا منفصلا بحسب الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM)، فإنه مع ذلك يُسبِّب حالة من الإنهاك واستنزاف طاقة المريض وعائلته جرّاء الصراعات التي تنشب بينهم، ما ينجم عنه تفكيك أواصر العلاقات الأسرية.

تُشير الإحصائيات إلى أن ثمة علاقة وطيدة بين الوسواس القهري والميل إلى "الاكتناز أو التكديس القهري"، فقد أظهرت نسبة تتراوح ما بين 15-30% من الأفراد المصابين باضطراب الوسواس القهري (OCD) ميولا للتكديس القهري، وتذكر الدراسات في الآونة الأخيرة أن المصابين بكلا الاضطرابين لا بد أنهم تعرَّضوا على الأقل لحادث واحد أليم في حياتهم، مقارنة بأولئك المُصابين بالوسواس القهري فقط.

حيلة نفسية

التكديس القهري

يتضح من خلال هذه الدراسات أن التسوق القهري، والحاجة المُلِحَّة التي تتلبَّس المريض لجمع الأشياء والاحتفاظ بها، هما في الأصل آلية يتبنَّاها المريض للتعامل مع مشاعر الحزن أو الخسارة أو المعاناة الناجمة عن اضطراب ما بعد الصدمة. في السياق ذاته، توصَّلت الدكتورة جيسيكا جريشام من جامعة نيو ساوث ويلز في أستراليا إلى أن زيادة حِدَّة المرض، وبلوغ المريض مرحلة متأخرة من التكديس القهري، قد يعود في الأصل إلى تعرُّضه لحادث صادم وأليم في الماضي، مثل فقدان الزوج أو الابن، وما قد يزيد الحالة تعقيدا هو ظهور هذه الأعراض عقب الحادث مباشرة أو بعده بمدة قصيرة.

يلجأ المصابون بالاكتناز القهري إلى الإفراط في تكديس الأشياء باعتبارها وسيلة لملء الفراغ السحيق الذي تُخلِّفه صدمات الماضي في نفوسهم، كما أنها آلية هروب جيدة تُمكِّنهم من تجنُّب التعامل مع الألم. لذا، فمحاولة التخلص من هذه المقتنيات تؤجج مشاعر القلق لديهم، ولا يوجد ما هو أشق على نفوسهم ولا أدعى إلى مضاعفة مشاعر القلق من محاولة شخص آخر التخلص من هذه الممتلكات دون إذنهم.

عند دراسة سلوكيات مرضى الاكتناز القهري عن قُرب، سيتبدَّى لنا بسهولة اندفاعهم المحموم إزاء المشتريات الجديدة، خاصة إن كانت مجانية أو تحظى بخصم، فضلا عن الجهود الجبارة التي يبذلها المرضى لتبرير سلوكياتهم الغريبة تلك أمام الأصدقاء والعائلة. وغالبا ما ينتهي المطاف بمريض التكديس القهري بالتعلق المرضي بمقتنياته في الوقت الذي يتعذَّر عليه بناء علاقات جادة مع الآخرين.

إن مريض التكديس القهري يُعطي قيمة لممتلكاته تفوق كل علاقته مع البشر. لذا إن احتدم الجدال بينكما، وضقت ذرعا في النهاية بما يفعله، وحاولت أن تُجبره على الاختيار بين هذه الممتلكات وعائلته أو أصدقائه، فسيختار مقتنياته بصورة لا يتطرق إليها التردد، إذ يصف بعض مرضى التكديس القهري وطأة الحزن الشديد التي تجتاحهم بمجرد التخلص من ممتلكاتهم بأنها لا تقل ألما عن فقدان أحد أفراد عائلتهم أو شخص عزيز عليهم.

تعليقا على ذلك يقول الدكتور جيمي فيوسنر من كلية الطب بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس: "ستجد معظم المكتنزين وحيدين لسببين؛ إما لأن سلوكياتهم دفعت مَن حولهم للفرار بعيدا عنهم، وإما منعتهم من تكوين علاقات حقيقية مع الآخرين". قد يُخيَّل إلى ذهنك أن مشكلة الاكتناز القهري أمرها يسير، وكل ما نحتاج إليه هو تنظيف منزل المريض والتخلص من كل هذه الفوضى، غير أن المشكلة أعمق من ذلك بكثير، وإن لم تُعالَج من جذورها، فلن يخالج المريض لحظة تردد واحدة لتجميع الأشياء من جديد في محاولات مستميتة منه لملء المساحات الفارغة التي نُظِّفت للتو.

 

ما الحل؟

إن أفضل علاج للحالات المرتبطة بالتكديس القهري هو اللجوء إلى العلاج المعرفي السلوكي (وهو أحد أنواع العلاج الذي يُغيِّر من أنماط التفكير والحالة المزاجية والسلوكيات)، ويساعد المريض في التعامل مع المشاعر المتعلقة بالحادث المؤلم، وإدارة حزنه بطريقة سليمة وعملية. وثمة طرق أخرى للعلاج على غرار تدريب المريض على مقاومة شعوره بالحاجة المُلِحَّة إلى شراء الأغراض، بشرط أن يكون ذلك كله تحت إشراف أخصائي نفسي يوجِّه له الإرشادات والدعم.

 

لعبت وسائل الإعلام دورا مهما في إلقاء الضوء على مشكلة التكديس القهري، لذا نأمل أن يُشجِّع ذلك على إجراء المزيد من الأبحاث حول الأسباب الكامنة وراء هذا السلوك. المشكلة الحقيقية التي تتمحور حول التكديس القهري هي أنه بالفعل يخلق فوضى عارمة لا يمكن التغاضي عنها، ويستحيل إخفاؤها عن عيون الآخرين، فضلا عن المخاطر الجسيمة التي يُسبِّبها هذا التكديس في الصحة النفسية للمريض وعائلته. ناهيك بالوصمة التي تُنقَش على جبينه باعتباره شخصا منفِّرا يميل إلى القذارة أو مجرد شخص كسول لا يحب التنظيف.

التكديس القهري

من المهم أن ندرك أيضا أن عدم الإلمام الكافي بهذا الاضطراب قد يحجب رؤيتنا عن حقيقة الآلام النفسية التي يكابدها مرضى التكديس القهري وتحتاج إلى علاج نفسي ضروري. ولحُسن الحظ، أصبح لدينا الآن العديد من المتخصصين في هذا المجال لعلاج الحالة والتخفيف من وطأة الوصمة التي يُلقيها المجتمع على عاتق المريض.

 

من أشهر الأعراض التي قد تظهر على الشخص المُصاب باضطراب التكديس القهري هو شراء ما يفيض عن حاجته، والاحتفاظ بأشياء عديمة القيمة على غرار الصحف، والحاويات القديمة، والنفايات، ومنع الآخرين من استخدام هذه الأغراض أو لمسها أو استعارتها، وقد تظهر عليه أعراض أخرى مثل المُماطلة في إنهاء المهام (كالتنظيف حوله)، والافتقار إلى التنظيم، وميله إلى اتخاذ القرار الأسوأ، ما يؤثر بالسلب على أدائه العام، مثل الغياب المتكرر عن العمل.

 

في النهاية، لا بد أن ندرك جيدا أن مريض التكديس القهري في حاجة إلى أن نتعامل معه بلطف ولين، لأن الاضطراب الذي يعاني منه خطير ومُعقد، ويستغرق وقتا طويلا بمساعدة المتخصصين. فإذا كنت أنت المريض أو أي شخص من عائلتك أو أصدقائك يعاني من هذا الاضطراب، فلا تتردد في أن تتجه إلى أقرب أخصائي نفسي ليُقدِّم لك يد العون.

—————————————————————————————-

هذا المقال مترجم عن Psychology Today ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: سمية زاهر.

المصدر : مواقع إلكترونية