شعار قسم ميدان

"ابحث عن لاجوم".. أسرار الفلسفة التي وضعت السويد في صدارة قوائم السعادة

تتوقف وتيرة الحياة المتسارعة فجأة، وتبدأ لحظات من الهدوء، يرتشفون القهوة مع قطعة من الحلوى، ويتبادلون الأحاديث، قبل العودة للعمل مرة أخرى، دقائق قليلة لكنها مقدّرة جدا، إلى درجة أنها تعد أحد أسرار السعادة والرفاهية لدى السويدين الذين تتصدر بلادهم تقرير السعادة العالمي.

 

"السعادة لا تكمن دائما في الكمال، والكثير ليس الأفضل دائما"، يتبادل السويديون هذا الشعار بينهم، وينعكس على نمط حياة السويدين بشكل عام بحيث أثار فضول "الأجانب" المهتمين بالتعرف إلى سر النعيم الإسكندنافي. هم يدعونها "لاجوم (lagom)"، وهي تعني "ليس كثيرا، وليس قليلا جدا"، إنه "ما يكفي فقط"، أو كما يقول المثل السويدي: "lagom är bäst"، أي الاعتدال هو الأفضل(1).

 

"لاجوم" هي فلسفة كاملة، تحمل الكثير من المعاني التي لا تنقلها ترجمة بعينها، وتشكل جزءا من الفكرة الرومانسية للشعب، وهي تهدف في النهاية إلى تحقيق التوازن بين نواحي الحياة المختلفة، العمل والعلاقات الاجتماعية، ونبذ المبالغة في أي شيء. فقط عليك أن "تعمل بما يكفي" و"تضحك قليلا" و"تستمتع قليلا" لتحيا حياة متوازنة(2).

للمزيد اقرأ: سر السعادة الإسكندنافية.. فلسفة "Hygge" وكيف تسعدك الأشياء البسيطة

من الأساطير الشائعة أن أصل كلمة "لاجوم" ينقسم إلى جزأين: "lag" وتعني فريق، و"om" وتعني حول، وأنها تعود إلى تقاليد تناول الطعام في مجتمعات الفايكنغ القديمة، حيث كان الجميع يأكل (أو يشرب) من وعاء واحد، وكانت فكرة "لاجوم" هي ضمان أن كل من أكل حصل على ما يكفيه فقط، ليتبقى من الطعام ما يكفي كل الحاضرين، وبرؤية أشمل تدعو "لاجوم" إلى الحصول من كل شيء، من الطعام والماء والملبس والطاقة، على قدر حاجتك فقط، ثم تترك الباقي لغيرك من سكان الأرض(3)(4).

 

السويديون لا يعملون كثيرا كما تتخيل

"ابحث عن لاجوم".. أسرار الفلسفة التي وضعت السويد في صدارة قوائم السعادة

تُعتبر"لاجوم" العنصر السري لنجاح العديد من الشركات السويدية، فرغم أن السويد تمتلك أحد أعلى معدلات التوظيف في أوروبا وفق إحصائيات يوروستات، فإن السويديين لا يعملون كثيرا؛ حيث ينتهي الدوام في الخامسة مساء، وهناك مرونة تمكنهم من العمل عن بعد، وخلال عطلة نهاية الأسبوع عادة ما يتم إغلاق كل شيء في السادسة مساء، فيما تُغلق معظم الأنشطة غير الضرورية خلال فصل الصيف، ويحرص العاملون على الحصول على أربعة أسابيع إجازة متواصلة، ويُمنح الوالدان 480 يوما إجازة مدفوعة الأجر لرعاية أطفالهما(5)(6).

 

تحضر فلسفة "لاجوم" داخل أماكن العمل نفسها، وهي تعني أن يكون دور الرئيس أشبه بدور مدرب كرة القدم أكثر من دور المدير، يركز هذا النوع من القيادة على تعزيز التنمية في المجموعة لتحقيق الهدف الجماعي، وتحقيق التوازن بين المرونة والحماس والتعلم والإبداع مع الحفاظ على الاستقرار.

 

تتميز ثقافة القيادة السويدية على طريقة "لاجوم" بوجود الثقة داخل المؤسسات، حتى تلك التي تتبع التنظيم الهرمي، فمع تسارع التطورات يجد القائد نفسه مضطرا للاعتماد على الآخرين. تعني "لاجوم" هنا كذلك وضع احتياجات وموارد المجموعة في الاعتبار، والثقة في أن كل شخص يقوم بدوره ويدعم الآخرين بأفضل ما يسعه، مع تقبل الإرشاد والنصح والمرونة في التغيير على كل المستويات(7)(8).

 

وقفة لتناول القهوة

خلال يوم العمل، تُحترم مواعيد الفيكا (fika)، وهي استراحة للاسترخاء والتواصل مع الآخرين بعيدا عن ضغوط العمل، يستمتع فيها السويديون بفنجان من القهوة، ويتناولون لفائف القرفة أو الحلوى. إنها جزء من يوم العمل في السويد، تماما مثل فحص البريد الإلكتروني، وغالبا ما تكون إلزامية وتقدم فيها المشروبات مجانا. بشكل عام، يختلف أسلوب الإدارة السويدي عن معظم البلدان الأخرى في أنه مسطح وغير هرمي، وخلال الفيكا تجري الدردشة بين الموظفين والإدارة للإحاطة بآراء الجميع حول قرارات الشركة.

استراحة الفيكا "fika" مع القهوة وبعض الحلوى أساسية في يوم العمل
استراحة الفيكا "fika" مع القهوة وبعض الحلوى أساسية في يوم العمل (مواقع التواصل)

استراحات القهوة بشكل عام مهمة جدا للسويديين، حتى إن العلامة التجارية الضخمة في البلاد أيكيا (IKEA) تشير إلى الأمر على موقعها مؤكدة أن الفيكا أكثر من مجرد استراحة لتناول القهوة، "إنها وقت للمشاركة والتواصل والاسترخاء مع الزملاء. الفيكا تمارَس عدة مرات في اليوم أحيانا، ليس في يوم العمل فقط؛ في عطلة نهاية الأسبوع أو بعد نهاية يوم العمل يستمتع السويديون بدقائق ربما تصل فقط إلى ربع ساعة، تتوقف فيها وتيرة الحياة المتسارعة، وتبدأ الراحة والدردشات بصحبة مشروب ساخن وقضمات من المخبوزات الشهية(9).

 

لاجوم في تصميم المنزل وأطباق الطعام

في المنزل يكون تطبيق لاجوم بأن تكون المساحة الداخلية في منطقة وسطى بين البساطة والازدحام، بين الإسراف في التنظيم والمساحات الفوضوية المربكة، لا يمكن تحديد تصميم أو عناصر معينة للمنزل الذي تطبق فيه لاجوم، فهو لا يرتبط بقواعد، ويمكن تطبيقه في أنماط التصميم المختلفة في المنازل، الهدف الوحيد هو إنشاء مساحة يشعر فيها صاحبها بالرضا ولا تزدحم بأشياء لا يحتاج إليها تفسد عليه اتساع المكان. ببساطة، هو يتخلص من تلك القطع التي لا يستخدمها ولا يحبها، ليفسح المكان لقطع أخرى تساعد في جعل المنزل مكانا مريحا.

 

بهذه الطريقة تخلص السويديون من الإفراط في الشراء، وأحاطوا أنفسهم بالقطع التي يحبونها فقط. مجموعة من الكتب أو لوحة أو وسائد متناثرة على الأريكة، يجمع المنزل الأشياء التي يحبها صاحبه في تناغم، وهذا العيش مع أشياء أقل يُفسح المجال لأمور أخرى في الحياة؛ للحب والتجارب الجيدة(10)(11).

الطبق الوطني في السويد بيتيبان pyttipanna، الذي يعكس فلسفة لاجوم
الطبق الوطني في السويد بيتيبان pyttipanna، الذي يعكس فلسفة لاجوم

تظهر لاجوم في المطبخ أيضا، في الحد من الاستهلاك مهما كانت المنتجات الطازجة متوفرة، يبدو في أطباق تتكون من بقايا الطعام، أشهرها هناك الطبق الوطني "بيتيبان (pyttipanna)" الذي يتكون من البطاطس وبعض كرات اللحم والجزر والنقانق وأي شيء متوفر في الثلاجة، تقطع المكونات إلى قطع صغيرة جدا، وتقلى في الزبدة، وتغطى بالبيض المقلي. تتجلى الثقافة ذاتها أيضا في الحليب الأكثر انتشارا في السويد "ميلانمجولك (mellanmjölk)"، ليس خالي الدسم تماما، وليس كامل الدسم أيضا، يحتوي على دهون بنسبة 1.5% فقط(12)(13).

 

حتى في الملبس، ينعكس لاجوم في اختيار الملابس السهلة التي توفر الشعور بالراحة، تكون غالبا فضفاضة وذات ألوان محايدة، مثل اللون الأسود. يكتفي السويديون غالبا باقتناء قطع قليلة من الملابس وارتدائها بعدة طرق في مناسبات مختلفة، مع الأحذية المريحة المناسبة للمشي، والحرص على إضافة بعض الزينة مثل وشاح ملون يضفي عليها الجمال والأناقة(14). بشكل عام، يعتبر إحدى ركائز فلسفة لاجوم إدراك أهمية إعادة التدوير، فهي تقوم على الاستدامة وتوفير الطاقة واستخدام المواد الصديقة للبيئة(15).

 

كيف يمكن دمج لاجوم في عاداتنا؟

اعتناق لاجوم يجعل الحياة بسيطة، يمكنك تجربة تلك الفلسفة بإدخال تعديلات بسيطة، لمدة محددة، في روتين يومك يتناسب مع احتياجاتك. يشمل ذلك أنشطة مثل القراءة أو المشي أو التعرف إلى أشخاص جدد أو الطهي، سيجعلك ذلك تشعر بالتوازن في حياتك، وسيُضفي كذلك شعورا بالهدوء والسرور.

"ابحث عن لاجوم".. أسرار الفلسفة التي وضعت السويد في صدارة قوائم السعادة

يتميز البشر عن غيرهم من الكائنات بالمبالغة، إننا لا نكاد نكتفي من أي شيء؛ الطعام والملابس وكل الأشياء المادية، بل وحتى المشاعر والعواطف، أن تتبع نمط حياة السويديين لا يعني بالضرورة أن تبدأ التخلص من ممتلكاتك، بل أن يكون لديك ما يكفيك فقط، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكثير بالنسبة إليّ ربما يبدو لك قليلا، لذلك فأنت فقط من سيحدد ما يكفي، تختلف لاجوم عن حركة المينيماليزم أو الإقلال، فالأمر يتعلق بإيجاد التوازن المناسب لك(16).

للمزيد اقرأ: "المينيماليزم" أو الإقلال.. طريقك للنجاة من وحش الاستهلاك

ومع ذلك كله، تبقى النصيحة الأهم في الفلسفة السويدية هي التخلي عن هدف الكمال، وإدراك أن في بعض النقص جمالا، وأن على المرء أن يقتنص لحظات السعادة ويثمن الخطوات الصائبة مهما كانت صغيرة، فالسعادة الحقيقية مختبئة في قدرتنا على الانغماس في حياتنا بما يحفظ قوتنا لمواجهة كل يوم بنفس البساطة والهدوء(17).

———————————————————————-

المصادر

  1. Lagom’: la receta sueca para conciliar vida laboral y familiar
  2. Calm down trendspotters – ‘lagom’ is not the new hygge
  3. Why is Sweden’s ‘lagom’ leadership taking the world by storm?
  4. IKEA Live Lagom community
  5. ‘Lagom’: la receta sueca para conciliar vida laboral y familiar
  6. ‘Lagom’: la receta de la felicidad sueca
  7. ‘Lagom’: la receta sueca para conciliar vida laboral y familiar
  8. Why is Sweden’s ‘lagom’ leadership taking the world by storm?
  9. Fika, a Swedish custom where people gather to eat, drink, and talk, is a welcome workplace tradition in the country. But, as Elizabeth Hotson finds, it’s catching on around the world.
  10. Minimalism vs Living Lagom
  11. Lagom Is the Scandi Lifestyle Concept Your Home Has Been Missing
  12. ‘Lagom’: la receta de la felicidad sueca
  13. Forget Hygge: 2017 Will Be All About Lagom
  14. The 8 Best Lessons I Learned Living the Lagom Life
  15. 5 tips for getting the most out of Lagom lifestyle
  16. What is the Swedish Lagom lifestyle?
  17. 5 tips for getting the most out of Lagom lifestyle
المصدر : الجزيرة