شعار قسم ميدان

ليس حلا سحريا كما تعتقد.. إليك الأوجه المظلمة للتعليم المنزلي

يبدأ "أمير"، وهو طفل في العاشرة من عمره، يومه بدراسة الرياضيات في منزله، يقرأ كُتبا أكثر من أغلب أصدقائه، ويدرس العلوم على الشاطئ، ومؤخرا استطاع بناء عربة صغيرة في درس التكنولوجيا، أمير سعيد كما تحكي والدته، وهو يُفضِّل التعليم في المنزل على أي وسيلة أخرى لتلقي المعلومات.(1)

 

رغم تعدُّد قصص النجاح التي يرويها المؤيدون للتعليم المنزلي، فلا يمكن القول إن أسلوبا ما في التعليم يناسب الجميع، غير أن ارتفاع نِسَب الأطفال الذي يتعلَّمون منزليا حول العالم، والقفزة التي شهدها هذا النمط من التعليم في العقد الأخير، تُثير التساؤل عما إذا كان هو الأفضل بالفعل، وعما إذا كان هناك وجه مظلم له.

 

في تقرير عن إيجابيات التعلُّم في المنزل وسلبياته، وتأثيرات التعليم المنزلي على المدارس العامة، نشره بول ت. هيل الباحث بجامعة واشنطن عام 2000، أكَّد أن التعليم المنزلي سيُغيِّر وجه التعليم، وأوضح أنه ليس ظاهرة جديدة، فقبل أن يصبح التعليم مؤسسيا ورسميا وبعيدا عن الأسرة، كانت العائلات تتولَّى تعليم أطفالها في المنزل، وتعاون في ذلك الآباء والمُعلِّمون والأطفال الأكبر سِنًّا أحيانا، ثم تعاونت العائلات في إنشاء مدارس في الريف، من غرفة واحدة يعمل بها مدرس بدلا من الوالدين، وكان التعليم فيها بالمزيج نفسه من التعليمات المباشرة والدروس الخصوصية وتوجيه الطلاب الأكبر سِنًّا لمَن يصغرونهم. (2)

 

واليوم يعود التعليم المنزلي إلى الواجهة مجددا، حيث تُشير بيانات المعهد الوطني لبحوث التعليم المنزلي "NHERI" بالولايات المتحدة إلى وجود نحو خمسة ملايين طفل في التعليم المنزلي خلال شهر مارس/آذار من عام 2021، وهو ما يُمثِّل نحو 9% من الأطفال في سن المدرسة، بينما كانت النسبة تصل فقط إلى 4% في ربيع عام 2019، ما يعني حدوث ارتفاع كبير في نِسَب الملتحقين بالتعليم المنزلي خلال الأعوام الثلاثة الماضية.

 

التوجُّه الذي بدأ في الانتشار خلال العقد الماضي بديلا للمدارس التقليدية صار أقرب إلى كونه "التيار الرئيسي" في الولايات المتحدة كما تُشير البيانات، إذ أصبح شكل التعليم الأسرع نموا فيها، وكذلك في مختلف أنحاء العالم في أستراليا وكندا وفرنسا والمجر واليابان وكينيا وروسيا والمكسيك وكوريا الجنوبية وتايلاند.(3) ويبدو أنه بات الشكل الأسرع نموا للتعليم في المملكة المتحدة أيضا، إذ ارتفع عدد الأطفال الذين يتلقون تعليمهم في المنزل بنحو 40% في الأعوام بين 2014-2017، ومن المرجَّح أن تكون النسبة أعلى من ذلك بحساب الأطفال الذين لم يُسجلوا في المدارس من قبل.(4)

 

لكن الصورة ليست وردية تماما كما في الظاهر. في هذا السياق، أشارت ورقة قدَّمتها جوانا بيرنز، الباحثة بجامعة نورث إيسترن، عام 1999 إلى أن ما يُحرزه الأطفال الذين يدرسون في المنزل من نتائج مقارنة بنظرائهم الذين يتعلمون في المدارس يعود في الحقيقة إلى عوامل أخرى لا تقل أهمية عن أسلوب التعلُّم ذاته، فهم في الغالب ينتمون لآباء من ذوي الدخل الأعلى من المتوسط، وتقل بينهم نِسَب الطلاق، وكان أحد العوامل الإضافية مثلا أن الأطفال يشاهدون التلفاز بمعدل أقل بكثير من غيرهم.

 

أشارت الباحثة إلى عدد لا يُحصى من الاختلافات بين أطفال التعليم المنزلي والتعليم في المدارس، لكنها أكَّدت ببساطة أن الآباء الذين اختاروا لأبنائهم التعليم المنزلي كانوا قادرين على الالتزام وعلى توفير بيئة ناجحة لأطفالهم، وفضلا عن هذا فإن عدد الأطفال الذي يدرسون منزليا لا يمكن تحديده بحيث يمكن إجراء مقارنة، وبالتالي فهذه الدرجات المرتفعة لا تُعتبر دليلا كافيا على جودة التعليم المنزلي. كما أكَّدت أن التعليم المنزلي وحده لا يضمن هذا النجاح، وأن العوامل الأخرى وعلى رأسها التزام الوالدين هي ما ساهم في النجاح الأكاديمي للطفل، وأن هذا كان سيتحقَّق سواء كان تعليمه منزليا أو في صفوف الدراسة. (5)

 

بخلاف ذلك، يُعَدُّ التعليم المنزلي أمرا مُجهِدا وشاقا إلى درجة أن معظم الآباء لا يُطيقون ممارسته، حيث يتطلَّب ممارسة هذا النوع من التعليم من الآباء تعلُّم ما يجب تعليمه عادة للأطفال في عمر معين، والعثور على المواد التي تُعلِّم الأطفال مهارات معينة، وتعلُّم كيفية تنظيم أوقاتهم وأوقات الأطفال جيدا، وهكذا يُخصِّص الآباء الذين يُقرِّرون تعليم أطفالهم منزليا وقتا وجهدا في أمور كانت متروكة للمهنيين المتخصصين.(6)

 

يخلق ذلك تحديات كبيرة أمام الآباء في مواكبة المعرفة، وتحديث معارفهم باستمرار ليتمكَّنوا من تعليم الأطفال، أو حتى التأكُّد من قيام المُعلِّمين المنزليين بذلك، وصقل مهاراتهم في القدرة على تحفيز فضول الطفل، وتقع على عاتقهم مهمة ترتيب الأنشطة الاجتماعية التي يمارسها الأطفال في المدرسة، وخلق فرص للتفاعل مع الأطفال الآخرين، فضلا عن ضرورة الإلمام بالتغييرات في القوانين والسياسات المتعلِّقة بالتعليم المنزلي، ومتابعة الفرص المتاحة لتعليم الطفل، ما يتطلَّب البقاء على اتصال دائم بشبكات التعليم المنزلي.(7)

 

في تقرير هيل سالف الذكر، ظهر أن الاطلاع على أدبيات التعليم المنزلي يكشف عن حجم وكثافة بحث أولياء الأمور عن الأفكار والمواد ومعايير الأداء، والمتابع للمواقع الخاصة بالتعليم المنزلي سيجد باستمرار أفكارا ومواد جديدة لتدريس الموضوعات، ونصائح للآباء حول أنواع البرامج التي تُفيد أطفالهم، وغرفا للدردشة مع الآباء الآخرين الذين يعانون من المشكلات نفسها.

 

في تلك الحالة فإن التعليم المنزلي هو جزء من حركة واسعة يتعلَّم فيها الأفراد والمجموعات الخاصة كيفية الحصول على الخدمات التي كانت تُترك في السابق للبيروقراطيات العامة، وعلى الرغم من أن العديد من العائلات التي تدرس في المنزل على استعداد لقبول المساعدة من أنظمة المدارس العامة، فإن هذه العائلات أكثر ميلا للانضمام إلى تحالفات بينها من الاندماج مرة أخرى في نظام المدارس العامة التقليدية، وفي وقت ما، تتطوَّر هذه التحالفات إلى مؤسسات جديدة تشبه المدارس بصورة أو بأخرى.

تحتاج شبكات التعليم المنزلي أيضا إلى دعم كبير من الجامعات ومعاهد البحوث ومن إدارات التعليم الحكومية أيضا من أجل تحسين طرق التدريس وتقييم النتائج وتحفيز الطلاب. ونتيجة لذلك، فإن الكثيرين من منتقدي التعليم المنزلي يرون أن الكثير من هذا الجهد ورأس المال البشري الذي طُوِّر بهذه التكلفة يُكرِّر ما هو موجود بالفعل في المدارس العامة والخاصة التقليدية، لكن هناك مَن ذهبوا في انتقاداتهم للتعليم المنزلي إلى أبعد من ذلك بكثير، مُشيرين إلى آثار سلبية مُحتمَلة طويلة الأمد لاقتصار الأطفال على مُعلِّم واحد هو الأب أو الأم، وتضارب المسؤوليات بين دور الوالدين ودور المُعلِّمين، وتقييد تجربة الطفل وأُفقه وثقافته، فضلا عن الإرهاق العاطفي الذي يُصيب الطرفين -الآباء والأطفال- جراء العملية التعليمية الطويلة والشاقة. (8)

 

في بعض المجتمعات، لا تقف الآثار السلبية للتعليم المنزلي عند هذا الحد، حيث يمكن أن يتحوَّل إلى باب للتمييز بين الأطفال في حقوق التعليم. فرغم إشارة بيانات المعهد الوطني لبحوث التعليم المنزلي بالولايات المتحدة إلى انتشار هذا النوع من التعليم بين التوجُّهات الدينية والسياسية المختلفة، وحتى بين مختلف الطبقات الاجتماعية، فإن بيانات لوزارة التعليم الأميركية عام 2019 أشارت إلى أن 41% من طلاب التعليم المنزلي هم من السود والآسيويين واللاتينيين وغيرهم. (9)

 

في تعليقها على هذه النقطة، كتبت إليزابيث بارثوليت، أستاذة القانون بجامعة هارفارد الأميركية، مقالا عام 2020 أثار جدلا كبيرا حول المخاطر التي يتعرَّض لها الأطفال بسبب التعليم المنزلي، وأوصت بفرض قيود عليه، مؤكِّدة أنه ينتهك حق الأطفال في تعليم هادف من ناحية، وفي الحماية من إساءة المعاملة المُحتمَلة من ناحية أخرى، مُشيرة إلى أنه يمكن لبعض الآباء إبقاء أطفالهم في المنزل باسم التعليم المنزلي بعيدا عن أي دليل يؤكِّد ما إذا كانوا بالفعل يُعلِّمون أطفالهم أم لا، بحيث يمكن لبعض الآباء إرسال الأطفال للعمل دون أي رقابة.

 

في رأي بارثوليت، هذه الممارسة يمكن أن تعزل الأطفال، فهي تحرمهم من الوجود في المدرسة بداية من سن الرابعة أو الخامسة، حيث إن المُعلِّمين "مُفوَّضون" ويمكنهم تنبيه السلطات إلى أي أدلة تُشير إلى تعرُّض الطفل إلى الإساءة أو الإهمال.

وفي حين يلجأ البعض إلى التعليم المنزلي بهدف حماية أطفالهم من التنمر، أو منحهم المرونة في ممارسة الرياضة والأنشطة الأخرى، فإن الدراسات الاستقصائية للمدرسين المنزليين تُظهِر أن غالبية هذه العائلات (حسب بعض التقديرات 90% منهم) مدفوعة بمعتقدات دينية (مسيحية) محافظة وتهدف بالأساس إلى إبعاد أطفالها عن الثقافة السائدة. وكما تقول بارثوليت فإن بعض هؤلاء الآباء "أيديولوجيون دينيون متطرفون" يُشكِّكون في العلم ويُعزِّزون تبعية الأنثى وتفوُّق البيض.

 

تُشير بارثوليت أيضا إلى أن التعليم المنزلي يحرم الأطفال من التعرُّض للآراء التي قد تُتيح أمامهم اختيارات مختلفة لمستقبلهم، وقد يمنعهم ذلك من المساهمة إيجابيا في المجتمع. في رأيها، فإن لدى الآباء الحق في تربية أطفالهم بالمعتقدات التي يرونها، لكن مطالبة الأطفال بالالتحاق بالمدارس خارج المنزل لمدة ست أو سبع ساعات في اليوم لا يحرمهم من هذا، بينما وجود الأطفال مع الآباء على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع هو "أمر خطير" يسمح لهم بفرض سيطرة سلطوية على أطفالهم. ولكن في المقابل، يجادل الآباء الذين اختاروا التعليم المنزلي لأطفالهم أنهم يرغبون فقط في توفير بيئة تعليمية أكثر فردية لأطفالهم، بعيدا عن ضغوط الاختبارات، وحمايتهم من ضغط الأقران في البيئة المدرسية (10).

 

ردا على ذلك، تؤكِّد بارثوليت أن التعليم المنزلي ربما يكون مُبرَّرا وفعَّالا في بعض الحالات، لكن على الآباء توضيح هذا المُبرِّر وإثباته، كما يحق للسلطات وضع السياسات العامة المناسبة في هذا الصدد كما يحدث في بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا التي تمنع التعليم المنزلي تماما، وفرنسا التي تضع قيودا عليه من زيارات منزلية واختبارات سنوية. (11)

 

ولكن مع تجاوز هذه المشكلات التنظيمية واللوجستية، تظهر مشكلة إضافية لا يمكن للآباء حلها بسهولة، حيث لا يمتلك الأطفال الذين يدرسون في المنزل مهارات اجتماعية متطوِّرة لأنهم لا يتعاملون مع مجموعات مختلفة من الناس، وبالتالي لن يكون لديهم الحياة الاجتماعية نفسها التي لدى الأطفال الذين ذهبوا إلى المدرسة، الذين يخضعون للمنهج القياسي الذي يهتم بالتنشئة الاجتماعية ويُعرِّض الطفل لمجموعة واسعة من وجهات النظر والأفكار لأن زملائهم في الفصل يأتون من خلفيات ومعتقدات شخصية مختلفة.

 

هذا التأثير الاجتماعي لا يُنمِّي فقط المهارات الاجتماعية للأطفال، بل يمكن أن يوفِّر مصدر إلهام وتحفيز لهم على التفكير النقدي، وعلى الرغم من أن الأطفال الذين يدرسون في المنزل لديهم أشقاء للتفاعل معهم، فإن هذا الوضع لا يزال غير كافٍ لتطوير مهاراتهم الاجتماعية كاملة، وهي نفسها المهارات المطلوبة لتكوين أصدقاء خارج المدرسة أيضا.

 

في كتابه "لماذا لا يحب التلاميذ المدرسة؟"، يرى دانييل ويتنغهام، عالم النفس الأميركي، أن دور المدرسة ليس تحفيز الإبداع لدى الطلبة وإنما تعليمهم في سياق اجتماعي، بمعنى أوضح؛ أن يتعلَّم الطالب -مع الزمن- أن يفهم ويناقش المعلومة المُبسَّطة المقدَّمة إليه مع آخرين في السن نفسها، الأمر الذي يُطوِّر لديه قدرة مهمة وهي التعلُّم والعمل ضمن فريق.

في النهاية، يجدر بنا أن نُنوِّه إلى أن هذا الاستعراض لسلبيات التعليم المنزلي وجوانبه الصعبة لا يعني القول إنّه حل سيئ تماما، ولكنه يهدف فقط لجلب بعض التوازن إلى الصورة، والتأكيد أنه -مثل أي نظام تعليمي آخر- يحتوي على مزايا وعيوب ينبغي أن تدرسها بعناية قبل اتخاذ قرار تعليم أبنائك منزليا. صحيح أن هناك مؤشرات مبدئية أن التعليم المنزلي ربما يكون أكثر فعالية من التعليم النظامي على مستوى القدرات الأكاديمية، لكنه على النقيض يستهلك قدرا كبيرا من الوقت والجهد والمال، ويتطلَّب تدريب الآباء على قدرات تماثل تلك التي يحوزها المُعلِّمون التقليديون، كذلك فإنه قد يؤثِّر بوضوح على القدرات التواصلية للأطفال.

 

لذلك، إذا كنت تنوي اختيار هذا النمط الدراسي لأطفالك، فيجب أن تعرف أنه ليس جيدا على طول الخط، خذ وقتك في التفكير وقيِّم قدراتك المالية والنفسية ووقتك المتاح، وقرِّر بصدق إذا كنت قادرا بالفعل على تحمُّل تبعات هذا الخيار، ومعالجة سلبياته، على طول الطريق.

———————————————————————————————–

المصادر

  1. ‘School is very oppressive’: why home-schooling is on the ris
  2. How Home Schooling Will Change Public Educatio
  3. HOMESCHOOLING: THE RESEARC
  4. ‘School is very oppressive’: why home-schooling is on the ris
  5. The Correlational Relationship between Homeschooling Demographics and High Test Score
  6. How Home Schooling Will Change Public Educatio
  7. Homeschooling: Is It the Best Option for You and Your Child
  8. How Home Schooling Will Change Public Educatio
  9. HOMESCHOOLING: THE RESEARC
  10. The Risks of Homeschoolin
  11. The Disadvantages of Homeschooling
المصدر : الجزيرة