شعار قسم ميدان

سيكولوجيا الحرب.. لماذا يصعب على البشر أن يعيشوا في سلام؟

مقدمة الترجمة

في أجواء الحرب، عادةً ما تظهر العديد من الأسئلة، ليست فقط الأسئلة المتعلقة بحرب بعينها، مثل الحرب القائمة الآن بين روسيا وأوكرانيا، أو تلك الحروب التي عايشناها على مدار العقدين الماضيين في منطقتنا العربية، بل عن طبيعة الحرب نفسها: لِمَ تحدث أصلا؟ ولم يَصعُب على البشر أن يعيشوا في سلام؟ وهل هناك ما يمكن أن يفسر كل هذا العنف الذي يكون غير مبرر في كثير من الأحيان؟ في هذا التقرير يحاول "ستيف تايلور"، أستاذ علم النفس والمحاضر في جامعة "ليدز بيكيت"، أن يستعرض مجموعة من الأسباب التي يتوقع أن لها دورا في نشأة الحروب بين البشر.

نص الترجمة

عند قراءة أي كتاب عن تاريخ العالم، سينتهي بك المطاف على الأرجح وأنت تحمل انطباعا عاما بأنه من المستحيل على البشر أن يعيشوا في سلام، وأقرب مثال على ذلك هو الصراع الذي نشهده الآن بين روسيا وأوكرانيا، لذا نعتقد أن الوقت قد حان للتفكير في سيكولوجيا الحرب والسبب وراء حدوث كل ذلك.

عادة ما تبدأ الكتب المهتمة بتاريخ العالم بالاستشهاد بحضارتَي سومر ومصر اللتين بدأ فجر تاريخهما قبل 3000 عام من الميلاد. ومنذ ذلك الوقت إلى يومنا هذا، لم يكن التاريخ أكثر من مجرد سلسلة من الحروب التي لا تنتهي، ففي الفترة التي بين عامي 1740 و1897، شهدت أوروبا وحدها قرابة 230 حربا وثورة على أراضيها، لدرجة أن الدول كادت تُعلِن إفلاسها بسبب نفقاتها العسكرية.

حصدت الحرب العالمية الثانية أرواح 50 مليون شخص، ومنذ ذلك الحين، انخفض عدد الوفيات الناجمة عن الحروب انخفاضًا كبيرًا.

ثم أصبحت الحرب في الواقع أقل انتشارا خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين نتيجة لظهور عنصر جديد يعلن عن نفسه في ساحة الحرب، وهو القوة التكنولوجية الهائلة التي استغلتها الدول في إنهاء الحروب سريعا. حينما ننظر إلى تاريخ الحروب، سنجد أنه كلما مر الوقت ازداد عدد القتلى بجنون، فمثلا تسببت الحروب التي نشبت بين عامي 1740 و1897 في قتل 30 مليون شخص، في حين تتراوح نسبة القتلى في الحرب العالمية الأولى ما بين 5 ملايين إلى 13 مليون شخص، أما الحرب العالمية الثانية فتجاوزت كل هذه الأرقام لتحصد أرواح 50 مليون شخص (ومنذ ذلك الحين، انخفض عدد الوفيات الناجمة عن الحروب انخفاضا كبيرا لأسباب سنشرحها لاحقا).

نظريات الحرب

لتفسير تلك السلوكيات المَرَضية، يرى علماء النفس التطوري أنه من الطبيعي أن يخوض البشر حروبا لأننا مخلوقون في الأصل من جينات أنانية تتطلب استنساخها أو تكرارها. لذا من الطبيعي أن نحاول الحصول على الموارد التي تساعدنا على البقاء والقتال من أجلها، وبمجرد أن يشكِّل الآخرون تهديدا لبقائنا، فإننا لا نتردد لحظة في إعلان الحرب عليهم.

على الجانب الآخر، ثمة محاولات بيولوجية لتفسير الحروب، وهي ترى أن الرجال مهيؤون بيولوجيّا لخوض الحروب لأنهم يتمتعون بكميات كبيرة من هرمون التستوستيرون المرتبط بسلوكيات عدوانية، ويعانون من انخفاض هرمون السيروتونين (المسؤول عن تنظيم الحالة المزاجية)، وقد وجدت تجارب بحثية بالفعل أن حقن الحيوانات بالسيروتونين يجعلها أقل عدوانية.

تُعد الحرب نشاطًا مخططا ومنظمًا للغاية يتطلب بعض الدهاء والمكر لأن التخطيط له – على عكس ما نعتقد- يبدأ في الأوقات المستقرة التي لا تتضمن قدرا كبيرا من القتال الفعلي.

غير أن هذه التفسيرات تثير العديد من المشكلات وتحمل قصورا في بعض جوانبها الأساسية، مثل عدم قدرتها على تفسير الغياب الواضح للحروب في الوقت المبكر من التاريخ البشري، كما أنها تعجز عن تفسير قلة الصراعات في أغلب المجتمعات البدائية. وكما نرى فإن هذه المسألة شائكة ومثيرة للجدل، لكن في الوقت ذاته يزعم بعض العلماء والباحثين أن الحرب في الأساس كانت موجودة دائما في تاريخ البشرية.

في المقابل، نرى العديد من علماء الآثار والأنثروبولوجيا يعارضون هذا، وأعتقد أن الأدلة تدعمهم بشدة، فعلى سبيل المثال، نشر عالمَا الأنثروبولوجيا "دوغلاس فراي" و"باتريك سودربيرغ" في العام الماضي دراسة عن العنف شملت 21 مجتمعا بدائيا (من الصيادين وجامعي الثمار)، وخلصت الدراسة إلى أنه على مدار الـ200 عام الماضية، كانت الهجمات القاتلة بين المجموعات نادرة للغاية، وخلال تلك الفترة رُصدت نحو 148 حالة وفاة، لكنها كانت بسبب صراعات فردية أو نزاعاتٍ عائلية.

وبالمثل، جمع عالم الأنثروبولوجيا "آر. برايان فيرغسون" أدلة مقنعة تثبت أن الحرب لا يتجاوز عمرها 10 آلاف عام، كما أنها باتت متكررة منذ حوالي 6 آلاف عام فقط. صحيح أن النظريات البيولوجية عن الحروب قادرة على تفسير السبب وراء اندلاع صراعات معينة، إلا أنها غالبا ما تسهو عن حقيقة أن الحرب تتضمن أبعادا أعمق من ذلك بكثير. وفي جوهرها، تُعد الحرب نشاطا مخططا ومنظما للغاية يتطلب بعض الدهاء والمكر، لأن التخطيط له -على عكس ما نعتقد- يبدأ في الأوقات المستقرة التي لا تتضمن قدرا كبيرا من القتال الفعلي.

التفسيرات النفسية للحروب

كان "ويليام جيمس" أول عالم نفسي يحقق في الأسباب النفسية وراء اندلاع الحروب، فكتب مقالا مهمّا بعنوان "المعادل الأخلاقي للحرب" في عام 1910 يقول فيه إن الحروب كانت منتشرة جدا بسبب آثارها النفسية الإيجابية سواء على الفرد أو المجتمع. رأى جيمس أن الآثار الإيجابية للحرب على المستوى الاجتماعي تتمثل في خلق شعور بالتكاتف والوحدة الوطنية في وجه التهديد الجماعي بتوحيدها لصفوف الناس معا، حيث إن الانخراط في المعارك لا يقتصر على الجيش فقط، بل يشاركه أفراد المجتمع كافة، فضلا عن أنها تجلب إحساسا بالانضباط والامتثال واحترام الأهداف المشتركة، بجانب إلهام المواطنين (وليس الجنود فحسب) بالتصرف بشرف والتخلي عن الأنانية من أجل خدمة الصالح العام.

أما على المستوى الفردي، فيرى جيمس أن الحرب تبعث في نفوس الناس شعورا بأنهم على قيد الحياة وعلى أهبة الاستعداد، كما أنها تمنحهم هدفا ومعنى لتجاوز رتابة الحياة اليومية والتحرر من سطحيتها. تتيح الحرب أيضا الفرصة للتعبير عن القيم الإنسانية مثل الانضباط والشجاعة والتضحية بالذات، والتي غالبا ما تكون متخفية في قلب دوامة الحياة العادية.

في كتابي "العودة إلى التعقل"، أشرت إلى عاملين مهمين آخرين في إثارة الحروب، أحدهما السبب الواضح الذي نعلمه جميعا وهو الرغبة المؤججة في زيادة الثروة والمكانة والسلطة، وغالبا ما تكون رغبة مجموعة واحدة من البشر -عادة ما تكون الحكومات، وأحيانا القبائل أو مجموعات عرقية- في زيادة قوتها وثروتها عن طريق غزو الأطراف الأخرى وإخضاعها والاستيلاء على أراضيها ومواردها.

كتاب "العودة إلى التعقل" لستيف تايلور

عند إلقاء نظرة على أي حرب شهدها التاريخ، سنجد أن معظم أسبابها تتمحور حول الرغبة في ضم أراضٍ جديدة أو استعمارها، أو السيطرة على المعادن الثمينة أو النفط، أو بناء إمبراطورية لزيادة الهيبة والثروة، أو الانتقام لإهانة سابقة تسببت في التقليل من سلطة كيان/دولة ما وهيبتها وثروتها. وأقرب مثال لنا الآن هو الصراع الحالي في أوكرانيا الذي بدأ نتيجة رغبة روسيا في زيادة أراضيها ومكانتها من خلال السيطرة على أراضي أوكرانيا.

أما العامل الآخر في إثارة الحرب فهو ارتباطها الوثيق بالهُوية الجماعية. فالبشر عموما تحركهم الحاجة القوية إلى الشعور بالانتماء والهوية التي يمكن أن تتجلى بسهولة في النزعات العرقية أو القومية أو العقيدة الدينية، ووجود الحرب يشجعنا على التمسك أكثر بهويتنا العرقية أو بلدنا والشعور بالفخر إزاء جنسيتنا ولوننا وديننا.

يعود الخلاف حول المناطق في شرق أوكرانيا في الأصل إلى أن معظم سكان المنطقة يعرِّفون أنفسهم على أنهم من أصل روسي، في حين يرغب السكان من أصل أوكراني في الحفاظ على هُويتهم المستقلة.

المشكلة هنا لا تكمن في الاعتزاز بهويتنا، بل في الموقف الذي نتبناه إزاء المجموعات الأخرى المختلفة عنا. إن تعريفنا لأنفسنا من خلال انتمائنا لمجموعة معينة أو اقتصار هُويتنا على هذه المجموعة يخلق تلقائيا إحساسا بالتنافس والعداوة مع الأطراف الأخرى. هذه النظرة للأمور تولّد عقلية تصنِّف البشر على أساس كونهم "داخل المجموعة أم خارجها" والتي تؤدي بسهولة إلى تأجيج الصراع. فنجد أن معظم النزاعات على مر التاريخ كان سببها صداما بين مجموعتين أو أكثر مختلفتين في الهوية، مثل المسيحيين والمسلمين في الحروب الصليبية، أو اليهود والعرب، أو الهندوس والمسلمين في الهند.

كما أن هذه الأسباب تفسر الصراع الحالي في أوكرانيا، إذ يعود الخلاف حول المناطق في شرق أوكرانيا في الأصل إلى أن معظم سكان المنطقة يعرِّفون أنفسهم على أنهم من أصل روسي، في حين يرغب السكان من أصل أوكراني في الحفاظ على هُويتهم المستقلة بعيدا عن النفوذ الروسي. تُعد مسألة التعاطف مع الآخرين هنا مهمة لأن أحد أخطر الجوانب التي تؤسسها هُوية المجموعة هو ما يُسميه علماء النفس "الإقصاء الأخلاقي"، الذي يحدث حينما نَحرِم الآخرين من حقوقهم الأخلاقية ونجردهم من إنسانيتهم بتطبيق المعايير الأخلاقية فقط على أعضاء مجموعتنا واستبعاد الأطراف الأخرى من مجتمعنا الأخلاقي، فيسهل علينا استغلالهم وقمعهم أو حتى قتلهم دون تردد.

ما بعد الحرب العالمية الثانية

يرى ستيفن بينكر أن العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية شهدت عنفا متزايدا داخل الدول نفسها بسبب اشتعال الحروب الأهلية، لكن منذ ثمانينيات القرن الماضي بدأت الأمور تهدأ.

لنرجع الآن إلى تفسير انخفاض وفيات الحروب في العقود الأخيرة. في كتابه "الملائكة الأفضل لطبيعتنا البشريّة (The Better Angels of Our Nature)"، أشار عالم النفس الأميركي "ستيفن بينكر" إلى وجود تراجع منتظم لعدد الوفيات الناجمة عن الحروب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في جميع أنحاء العالم، وبالأخص في أوروبا، إذ شهدت بلدانها التي كانت في حالة حرب شبه دائمة مع واحدة أو أكثر من جيرانها لقرون -مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وهولندا وبولندا وروسيا- فترة سلام طويلة غير مسبوقة.

كتاب "الملائكة الأفضل لطبيعتنا البشريّة" لستيفن بينكر

يرى بينكر أن العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية -حتى الثمانينيات- شهدت عنفا متزايدا داخل الدول نفسها بسبب اندلاع الحروب الأهلية، لكن منذ ثمانينيات القرن الماضي بدأت الأمور تهدأ، وانخفض العنف الداخلي أيضا. تُعَد الخمسة والعشرون إلى الثلاثين عاما الماضية هي الفترة الأقل تضررا بالحرب في التاريخ الحديث والأقل في أعداد الضحايا. وثمة بعض العوامل المسؤولة عن حلول السلام في هذه الفترة، منها الردع النووي، ونمو الديمقراطية، ووجود القوات الدولية لحفظ السلام، وسقوط الكتلة الشيوعية.

قد يبدو الأمر غريبا لو ذكرنا أن مجال الرياضة ربما لعب هو الآخر دورا مُهمّا في تهدئة الصراعات، ولن نكون مخطئين تماما، إذ تعتبر الرياضة مثالا جيدا لما كان يقصده ويليام جيمس بـ"المكافئ الأخلاقي للحرب" باعتبارها نشاطا يلبي احتياجات نفسية تقدمها الحروب، لكنه لا ينطوي على الدرجة نفسها من العنف والدمار. ربما ليس من قبيل الصدفة أن تنمو شعبية الرياضة على مدى 75 عاما، في حين تتراجع الصراعات والحروب. بجانب ذلك، كان هناك عامل آخر شارك في تهدئة الحروب، وهو الترابط وزيادة الاتصال بين الناس من مختلف الدول بسبب التجارة الدولية والسفر والإنترنت.

من المرجح أن يؤدي هذا الترابط المتزايد إلى تراجعٍ في الهويات الجماعية وانخفاض الشعور العدائي تجاه الأطراف الأخرى وزيادة تعاطفنا معهم حتى وإن اختلفوا عنا ثقافيا أو عرقيا، لأننا جميعا بشر في النهاية. أما إن كانت للحروب فائدة، فنأمل أن تتمحور حول مساعدة البشر في تعزيز شعورهم بالتعاطف إزاء المظلومين، فيصبح من المستحيل حتى على الحكومات الجشعة استغلال الآخرين وقمعهم لخدمة مصالحها.

________________________________________

ترجمة: سمية زاهر

هذا التقرير مترجم عن Psychology Today ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة