شعار قسم ميدان

تأميم السينما.. كيف سيطر عبد الناصر على الجماهير؟

ميدان - فيلم

"السينما وسيلة من وسائل التثقيف والترفيه، علينا أن ندرك ذلك لأنه إذا ما أسيء استخدامها فإننا سنهوي بأنفسنا للحضيض وندفع بالشباب إلى الهاوية"

 

بهذه الكلمات وجه اللواء محمد نجيب بيانه للسينمائيين، والذي حمل عنوان "الفن الذي نريد"، في (أغسطس/آب) من عام 1952، وبعد أقل من شهر على بيان آخر ألقاه جمال عبد الناصر من مبنى الإذاعة والتلفزيون يعلن فيه سقوط الملكية وقيام النظام الجمهوري. وبعيدًا عن مقصد محمد نجيب من خطابه من حيث البُعد عن الخلاعة التي كانت تقدمها السينما في نظره وتقديم محتوى جاد، فحقيقة الأمر أن الحركة التي قدمت نفسها كثورة منحازة للعوام، والتي كان أحد أعمدتها هو إقامة حياة ديمقراطية سليمة تكفل حرية التعبير؛ كان لابد لها من تقديم براهين/أو قُل قرابين لتلقى قبولها لدى فئات الشعب كافة. من أكبر أفراده لفلاحيه، ومن الشؤون الأساسية للمجتمع وصولًا لحركة الفن والسينما، إحدى تلك المبادرات تمثلت في الإفراج عن عدد من الأفلام الممنوعة من العرض، مثل فيلم "لاشين" الذي مُنع عرضه لانتقاده المَلَكية.

 

عبد الناصر إذن يؤمن بالفن والسينما وتداخلهما مع السياسة، يؤمن أيضًا بحرية التعبير، إذ يوجه بيانًا لسينمائيي مصر ويفرج عن أفلامٍ مُنع عرضها لسنوات. ويقدم للناس ما بدا أنه ثورة تغيير شاملة ومؤثرة في كافة نواحي المجتمع وتحرِّرهُ من أية قيود، فكيف ردت السينما الجميل؟ وهل كانت حرة حقًا؟ وماذا لو قررت السينما والتي هي مرآة مجتمعية في الأساس واستخدام حريتها في التعرُّض للثورة بالانتقاد؟

 

الفن الذي نريد: السينما التبشيرية وإعادة كتابة التاريخ
  
واقع الأمر أن العِقد الأول للثورة قد شهد الكثير من الإنجازات المُرضية على المستوى الاجتماعي، مثل إعادة توزيع الثروات وإزالة فوارق طبقية وتأميم قناة السويس، مما أدى لرضا الناس، وبالتالي فلا بد للسينما أن تعكس رضاهم. ولابد للسينما أن تكون مبشرةً بذلك، تدين الماضي وتصمه وتَعِدُ بالمستقبل. نسبة كبيرة من تلك الأفلام كانت ترسخ لمبادىء الثورة، أشهرها هو فيلم "رد قلبي" والذي أُنتج بعد خمسة أعوام فقط من الثورة، ليصبح المدخل هو حكاية كلاسيكية عن علي ابن الجنايني الذي لولا الثورة ما كان ليتزوج من حبيبته إنجي ابنة البرنس، وعلى نمطية الحكاية لا ينكر أحدًا أنه فيلمٌ يفهم المزاج العام جيدًا ويعرف أي الأوتار ينبغي لمسها. وصحيحٌ أنَّ السلطة لم يكن لها يدٌ في صدوره بأية شكل، فبالتالي لا يمكن تحميلها مسؤولية معالجته الأحادية، إلا أن معلومية كون كل من مُخرِج الفيلم ومؤلفه، هما في الواقع زملاء عبد الناصر في الكلية الحربية ومِنَ الضُبَّاط الأحرار؛ تجعلُ الخطاب الترويجي الذي يحمله الفيلم مفهومًا ومنطقيًا.[1]

 

حتى الأفلام التي تبنت أفكارًا تعد جديدة تمامًا على المجتمع؛ لم تفلح في تجريد نفسها من أثر الثورة بشكل كلي، فتربط رغمًا عنها الثورة في عقول المشاهدين بكل ما هو إيجابي، فترتبط تقدمية "حسين" من فيلم الباب المفتوح بأذهاننا بالثورة من خلال خطابه الشهير لـ "ليلى". وتحصل "أمينة" من فيلم "أنا حُرَّة" على استقلالها بالتزامن مع استقلال الدولة في أحداث (يوليو/تموز) 1952،. وهي أفلام لا يمكن عزلها عن سياق الثورة بقدر ما لا يصح تفسير خطابها باعتباره ترويجي أو مُوالٍ للسُلطة. فواقع الأمر أن ازدهار تلك الفترة هو ما جعل حركة (يوليو/تموز) مثار إعجاب الجميع، ومن دون أي تدخل حكومي كانت السينما تكشف ذلك بصدق حقيقي. الناس إذن راضون، والسينما بحرية تامة؛ راضيةٌ هي الأخرى. ولكن، هل ظلَّت السينما حرّة في تناولها للثورة؟

 

من إسماعيل ياسين وحتى عيسى الدباغ: تأميم الآراء وليس فقط العقول
في الخمسينيات أدرك عبد الناصر أهمية السينما وطبيعة تأثيرها، وصداها الحاشد أكثر من أي بيان إذاعي جافّ النبرة. ببساطة، وبعيدًا عن الحشد لأية أيديولوجية ثورية، أراد عبدالناصر بناء جيش قوي ولم يجد منصة أوسع انتشارًا من النكتة ، وبتكليف مباشر من القوات المسلحة بدأت سلسلة "إسماعيل ياسين" في الظهور، والتي تروي نفس الحكاية عن الشاب الذي يجد نفسه في إحدى ثكنات القوات المسلحة ونتابع معه كمشاهدين لقطات ترويجية صريحة لثكنات هذه القوات.[2]
   
 

   

صحيحٌ أنَّ أفلام إسماعيل ياسين لم تتناول الثورة بأي شكل، إذ لا تتحمل طبيعتها المَرِحة ثِقَلًا كهذا، إلا أنها لفتت نظر عبد الناصر في فعالية السينما كأداة لغسل العقول، ومن ثمَّ في مطلع الستينيات؛ افتتح جمال عبد الناصر المؤسسة العامة للسينما، لتظهر أفلام القطاع العام التي كانت القوات المسلحة هي ممولها الرئيسي.

من بين كافة الأفلام التي موَّلتها القوات المسلحة، يصبح فيلم "السمان والخريف" (والمقتبس عن رواية تحمل نفس الاسم للروائي العالمي نجيب محفوظ) التجربة الأكثر غرابة بشكل باعث على التأمل لأكثر من سبب. إذ يتتبع الفيلم مسار "عيسى الدباغ"، أحد فلول ثورة 1952 المتضررين منها والناقمين عليها، وهذا هو مصدر الغرابة، فمن جهة، أُنتج الفيلم بعد عشرة أعوام كاملة من فيلم "رد قلبي"، تحديدا عام 1967، وبالتزامن مع تشبُّع الناس بالخذلان وخيبة الأمل إثر النكسة. عشرة أعوام تسمح بتناول أكثر واقعية لتجربة الثورة، وتسمح أيضًا بتقديم فيلم ذي نبرة ساخطة يعكس المزاج العام للشعب بعد إجهاد الجيش دون طائل في حرب اليمن، وهزيمة مريرة في 1967.

أما الأكثر غرابة هو أن يتحمس الجيش لتمويل فيلمٍ كهذا من الأساس، وبعد عام واحد من حظر عرض فيلم "المتمردون" لخطابه السياسي الناقد للسلطة، فهل هذا امتثالٌ لمبادىء الثورة الديمقراطية؟ إجابة هذا السؤال تظهر من خلال تغيير نهاية الرواية ومعالجتها دراميًا. إذ يظلُّ عيسى ناقمًا حتى قُرابة السطر الأخير في الرواية، بينما يتم تعديل هذا في الفيلم، لتسامحه أم ابنته فور عدوله عن سخطه عن الثورة، مباشرةً بعد ظهور زميل قديم له يخبره أن الدولة لا تنسى من خدموها. وهو ترسيخٌ لِجَنَّة دولة (يوليو/تموز) وتفضلّها وضمها للمنبوذين. الدولة إذن ترسم صورتها الديمقراطية.. تسمح بأفلامٍ تهاجمها، بل وتموِّلُها بشكل كلي، طالما أن أبطالها يواجهون مصائر قاتمة، وباب التوبة مفتوح بالطبع. وسواءً بالكوميديا أو بالواقعية السينمائية، يبدو كما لو أنَّ الدولة قررت تأميم الآراء، وليس فقط الممتلكات.

 

ثورة الإخفاقات الكبرى: ما لم تجرؤ السينما على قوله
طوال المدة من عام 1952 وحتى عام 1970 ووفاة عبد الناصر، لم تتطرق السينما للثورة بأية سلبيات، كما لم يظهر أي تناول حقيقي للتجربة بشكل كامل. الاستثناء الوحيد لذلك هي تجارب المخرج توفيق صالح بفيلميه "صراع الأبطال" عام 1962 و"المتمردون" عام 1966. وبرغم تشابه خطاب فيلم "صراع الأبطال" مع "رد قلبي"، إلا أن التجربة كانت أكثر نُضجًا. ربما لابتعاده عن التناول الرومانسي، وربما لاكتمال عناصر الحكاية بإقطاعِيٍّ يُرسلُ كل من يرفض العمل لديه من الفلاحين لمصحَّةٍ عقلية، وطبيبٌ يتصدى للأمر، ووباءٌ منتشرٌ في القرية، وفلاحون متذبذبون في انحيازاتهم.
 

  
ومع هذا، فإن ميزة الفيلم ليست في خطابه الثوري، وإنما في إلحاقه بتجربة مخرجه التالية، بفارق أربعة أعوام فقط، وقراءة الفيلمين معا لفهم انحرافات مسار الثورة ومدى تحوّل الناس عنها في فترة وجيزة. فمن بعد صراع الأبطال قدم المخرج توفيق صالح فيلمه "المتمردون"، والذي تدور أحداثه داخل احدى المصحات النفسية المنقسمة لفئات اجتماعية، ما يؤدي لتمرد ثوري من قبل المرضى واختيار طبيبا شابًا لإدارة المصحة، والذي يعجز عن احتواء الموقف ويفشل في مهمته. في تناص صريح مع فشل عبد الناصر في احتواء الأزمات الناجمة عن حرب اليمن والحفاظ على لياقة ثورته. وهو ما أدى لخضوع الفيلم لرقابة مشددة استمرت عامين، إلى أن أفرج عنه عام 1968.

ميزة فيلم "المتمردون" تكمن في عدم انحيازه ومحاولته الصادقة لفهم الواقع، ليبدو الأمر أن  توفيق صالح قد تتبع سجناء مصحة فيلم "صراع الأبطال" ليقدِّم حكايتهم في مصحَّة فيلمه التالي "المتمردون"، ليروي سردية أكثر نزاهة للثورة التي نجحت في "صراع الأبطال"، وفي بداية "المتمردون" كذلك، ثم عجزت عن الإيفاء بوعودها. قراءةٌ صادقة لما بإمكانه أن يتغير في فترة وجيزة كأربع سنوات.

  

باستثناء تجارب توفيق صالح السابق ذكرها، لم توفر السينما قراءة صادقة لواقع دولة (يوليو/تموز) الذي نلمس أثره حتى يومنا هذا. صحيح أن فترة السبعينيات كانت قد شهدت انتقادات صريحة لفساد دولة ناصر السياسية؛ من خلال أفلام "الكرنك" و"احنا بتوع الأوتوبيس"، إلا أن السينما كانت مكتفية بتبرير الثورة ودوافعها، حتى في محاولاتها تناول التغيير، كانت تكتفي بالتغيير الاجتماعي وليس تغيير البشر. وَبِحَدَثٍ له وطأته مثل هذا؛ لم تحكِ لنا السينما عن هذا الجيل الذي خذله عبد الناصر أكثر من مرة، بعكس هزيمة 1967 التي خَلَقَتْ طَفْرَةً في نُضجِ الشخصيات المُقدَّمة على الشاشة وتحميلهم كلهم بنبرة الهزيمة؛ حتى رغم تطرقها لموضوعات السياسة. أما سينما (يوليو/تموز)، فلم تحاول بأي طريقة أن تتناول الثورة كتغيير إنساني، رغم كونه التغيير الأكبر والأبقى والأشدَّ وطأة.

المصدر : الجزيرة