شعار قسم ميدان

نهاية كليجدار أوغلو والمزيد من الإحباط الغربي.. ما الذي يعنيه فوز أردوغان؟

في 15 يوليو/تموز 2016، ظهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على شاشة هاتف المذيعة التركية "هاندي فرات" لمطالبة الشعب بالتدخل من أجل إيقاف الانقلاب العسكري الذي كان بدأ في التحرك، في الوقت الذي كان الرئيس التركي يمضي عطلته في مرمريس غربي البلاد. ساعتها، انتقلت جميع كاميرات العالم نحو تركيا التي بدا وكأنها تودع الديمقراطية لتسقط في براثن الحكم العسكري من جديد، ورأى خصوم أردوغان في طلّته عبر تطبيق "فيس تايم" نهاية لا عودة بعدها. لكن ما حدث ذلك اليوم كان ملحميا بكل تأكيد، فقد سقط الانقلاب، وعاد أردوغان أقوى مما كان عليه، وها هو يحتفل وسط الملايين من أنصاره بحفاظه على كرسي الرئاسة في ولاية ثانية، بعدما تغلب على خصومه السياسيين الذين احتشدوا وراء منافسه كمال كليجدار أوغلو.

"باي باي كمال"

واثق الخُطى يمشي، خرج أردوغان مودِّعا خصمه السياسي والرئاسي كليجدار أوغلو ومُعلِنا نفسه رئيسا لخمس سنوات أُخَر وقائدا أوحد لتركيا ستبلغ رحلته ربع قرن من الزمان حين تنتهي فترته الحالية عام 2028. وفي ساعات مبكرة من يوم الاثنين، توجه الرئيس التركي من القصر الرئاسي في العاصمة أنقرة بالحديث إلى الشعب التركي كله، داعيا إياه إلى التوحد والتضامن حول الأهداف والأحلام الوطنية. وأكد أردوغان مبدأ "العدل أساس الملك"، مُثنيا على نضج الشعب التركي، ومقطرا الشمع لآخر مرة على خصمه عندما قال إن برنامجه كان يهدف إلى تدمير الأسرة وإعادة تركيا إلى رحمة صندوق النقد الدولي.

حاول أردوغان أن يُطَمئن حتى أولئك الذين لم يصوتوا له واختاروا كليجدار أوغلو بعد أن ضاقوا ذرعا بالنازحين السوريين، مؤكدا مبدأ "العودة الطوعية" إلى سوريا، على أن تكون العودة آمنة وبعيدة عن نيران نظام الأسد. كما أشار إلى مشروع سكني ضخم يضم مليون لاجئ سوري ستعمل عليه تركيا مع قطر، أول مُهنئ له على فوزه بالانتخابات الرئاسية عبر كلمات من أميرها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.

على الجهة المقابلة، لم يتوجه كمال كليجدار أوغلو لأردوغان بالتهنئة، مُعرِبا عن حزنه بسبب ما سمّاه "الصعوبات التي تنتظر البلاد"، ومتجاهلا أبسط قواعد المنافسة التي التزمتها حليفته "ميرال أكشنار" رئيسة حزب "الجيد" بتهنئتها أردوغان. وقد طالب كليجدار أوغلو أنصاره في كلمة ألقاها من أنقرة بعدم التردُّد في الدفاع عن الديمقراطية، مُنددا بما اعتبره مرحلة انتخابية غير عادلة دون الخوض في التفاصيل. ورغم توجهه بالشكر لجميع زعماء "الطاولة السداسية" الذين رشحوه لقيادة المعارضة في هذه الانتخابات الرئاسية، فإن العديد من الأسئلة بدأت تطرح نفسها حول مستقبل هذا التحالف الحزبي الذي لا يتشارك أي منطلقات فكرية أو سياسية سوى معارضته لأردوغان. ولعل أهم هذه الأسئلة يتعلق بهوية الخليفة المرتقب لكليجدار أوغلو في زعامة حزب الشعب الجمهوري، بعد أن طالته بعض الانتقادات حول أدائه طيلة الحملة الانتخابية.

يأتي اسم "أكرم إمام أوغلو"، رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، بوصفه أحد أهم الأسماء المطروحة الآن لتزعُّم الحزب. وقد قال إمام أوغلو لأنصاره وأنصار حزبه بعد خيبة الأمل جراء خسارة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية إن خيبة الأمل التي يشعر بها المصوتون للمعارضة شبيهة بتلك التي حدثت قبل خمس سنوات، لكن رغم ذلك تمكَّنت المعارضة من تحقيق نتائج هائلة في الانتخابات المحلية عام 2019، ثم استدرك قائلا: "من الآن فصاعدا لن نُكرِّر الخطوات نفسها وننتظر نتائج مختلفة".

فوز هادئ

صحيح أن نتائج الانتخابية الرئاسية رفعت من منسوب التوتر لدى الكثير من المتابعين، وعلى رأسهم أبناء الجاليات العربية الفارة من نيران الحرب أو أقبية المعتقلات، التي كان تتخوف من أن تقذف بها نتائج الانتخابات نحو المجهول، فإن الأرقام أتت لتؤكد أن انتصار أردوغان كان مسألة وقت فقط، بعد أن حقق الرئيس المنتهية ولايته الأولى التفوق بنسبة 52.18% مقابل 47.82% صوتوا لصالح كمال كليجدار أوغلو، بفارق مليونين و330 ألف صوت تقريبا.

عرفت الجولة الثانية من هذه الانتخابات الرئاسية انخفاضا طفيفا في نسبة المشاركة، فقد بلغت نسبة المشاركة 84% مقابل 88% في الجولة الأولى، وهو ما اعتبره مراقبون تراخيا من طرف شريحة من الناخبين أيقنت أن فوز أردوغان أصبح محسوما بعد أن حقق تقدما ملحوظا على خصمه في الجولة الأولى بفارق 4.5 نقاط. وفي الوقت نفسه، شهدت نسبة المشاركة في الخارج ارتفاعا، حيث وصلت نسبة الناخبين إلى 56% بدلا من 54% في الجولة الأولى.

عرفت هذه الانتخابات مجموعة معطيات مهمة ساهمت في النتيجة النهائية، أولها ما أظهرته الأرقام من تراجع في نِسَب الإقبال على الانتخاب في المناطق الكردية، التي صوت الكثير من ناخبيها بشكل عقابي ضد أردوغان. ورغم أن المُرشَّحين حققا النِّسَب نفسها تقريبا، فإن تناقص عدد الناخبين في العموم خَدَم الرئيس التركي، كما حدث في ولاية "فان" مثلا التي عرفت تراجعا في نسبة المشاركة من 78% إلى 72%، ما تسبب في تناقص عدد المصوتين الذين اختاروا كليجدار أوغلو من 334 ألفا إلى 308 ألف. هذا الخفوت في الدعم لمرشح المعارضة بين صفوف الأكراد لعله يرجع إلى تبني كليجدار أوغلو لخطاب أكثر ميلا للقومية في الجولة الثانية، ومن ثمَّ اتجهت قيادات كردية عديدة لانتقاد التحالف المعارض في الأسبوعين الأخيرين.

أما المعطى الثاني الذي لفت انتباه المراقبين فهي المناطق التي ضربها الزلزال، إذ تساوى المُرشَّحان تقريبا مع تفوق طفيف لأردوغان (50.13%) في ولاية هاتاي، إحدى أكثر المناطق التي تضررت من الزلزال الذي ضرب تركيا وشمال سوريا في فبراير/شباط الماضي. وباستثناء ذلك، حقَّق أردوغان تفوُّقا في غالبية الولايات المتأثرة بالزلزال، وزاد عدد المصوتين له في بعضها رغم توقعات البعض بأن الزلزال سيؤثر على شعبيته. ويشي فوز أردوغان في مناطق الزلزال بعدم ثقة الناخبين في هذه المناطق في قدرة حزب الشعب الجمهوري على إدارة البلاد بالمقارنة مع إدارة العدالة والتنمية وخبرته الطويلة، لا سيما في ظل الأوضاع الحالية التي تحتاج إلى استثمارات ضخمة وجهد حكومي كبير لإعادة الإعمار.

جدير بالذكر أيضا أن مدينة غازي عنتاب، التي تُعَدُّ من أكبر المدن التي فتحت أبوابها في وجه اللاجئين السوريين، أعطت انتصارا مريحا لأردوغان في الجولة الأولى بنسبة 60% تقريبا، كما منحته فوزا ساحقا في الجولة الثانية بنسبة 64%، ما يشي بقصور الدعاية التي اعتمدت على خطاب الكراهية من طرف كليجدار أوغلو. أما في الولايات الكبرى، فقد أعادت الجولة الثانية السيناريو نفسه الذي شهدته الجولة الأولى، حيث حقق مرشح المعارضة تفوقا في 6 من أصل 7 محافظات كبرى، وعلى رأسها إسطنبول وأنقرة، اللتان منحتا الصدارة لكليجدار أوغلو مع تراجع طفيف في نسبة المشاركين. ويكشف ذلك عن النقطة الأضعف في أداء حزب العدالة والتنمية والرئيس، وهي الأزمة الاقتصادية التي تلمسها المُدن الكبرى أكثر من غيرها بطبيعة الحال.

المثليون ضيوف الانتخابات

في خطابه الذي وجَّهه لمؤيديه ممن جاؤوا للاحتفال بنتائج الانتخابات، أشار أردوغان إلى ضرورة الحفاظ على الأسرة، مؤكدا أنه لن يدعم المثلية، في تعبير واضح عن توجُّه الرئيس وحزبه في هذا الملف، الذي حلَّ ضيفا قبل الحملة الانتخابية وخلالها وبعدها. وقد شكَّل ملف المثليين نقطة خلاف بين أردوغان وبعض القوى الغربية، فقد ندَّدت الولايات المتحدة بشدة في فبراير/شباط 2021 بالخطاب "المناهض" للأقليات المثلية في تركيا، بعد أن صرَّح أردوغان بأن قيم مجتمع المثليين تتعارض مع القيم التركية.

غير أن أردوغان لم يعبأ بهذه الانتقادات. وفي أثناء الحملة الانتخابية، أوصى الرئيس أنصاره في تجمع انتخابي بمنطقة "عُمرانية" في إسطنبول بالإحسان إلى الأمهات، معلقا بأنه إن كانت المعارضة تُوصي بالمثليين، فإن تحالفه يُوصي بالحفاظ على الأسرة وروابطها. واستغرب أردوغان من اختيار المعارضة لاسم "تحالف الأمة" كونه لا يدافع عن استمرارية هذه الأمة.

أمنيات غربية بعيدة

بعد إعلان النتائج الانتخابية مباشرة، بدأت برقيات التهنئة تصل إلى أنقرة من مختلف الدول التي تابعت الاستحقاق الديمقراطي التركي. وقال الرئيس الأميركي "جو بايدن" إنه يتطلَّع لمواصلة العمل مع أردوغان في إطار حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، وهو المضمون نفسه الذي جاءت به تهنئة "ريشي سوناك"، رئيس الوزراء البريطاني، الذي اعتبر أن مواصلة التعاون في إطار الناتو على مستوى الأمن يُعَدُّ أولوية.

أما الاتحاد الأوروبي فعبَّر عن رغبته في تطوير العلاقات مع أنقرة. وتلقى أردوغان تهنئة من الخصمين روسيا وأوكرانيا، ففي الوقت الذي هنأه الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" بالنتيجة "المنطقية"، تمنى "فلاديمير زيلينسكي" الرئيس الأوكراني تطوير العلاقات بين أنقرة وكييف للحفاظ على أمان أوروبا. هذا الكلام الدبلوماسي الذي عمَّ التغريدات المُبارِكة كان مختلفا تماما عن نبرة الإحباط التي ظهرت في الإعلام الغربي وباحت بها سطور تقارير بعض المنابر المعروفة.

نبدأ من فرنسا، التي عرفت علاقاتها بتركيا الكثير من الشد والجذب بسبب توجهها اليميني ضد الجالية المسلمة برئاسة "إيمانويل ماكرون"، الذي وجَّه إليه أردوغان سهام الانتقاد غير مرة. ففي تقرير لها قالت صحيفة "لوموند" إن أزمة انهيار العملة وأزمة الزلزال لم تتمكَّنا من الإطاحة بأردوغان، حيث تحدى الرجل استطلاعات الرأي التي تنبأت بهزيمته في الجولة الأولى. واعتبرت "لوموند" أن أردوغان تمكَّن من بسط سيطرته على البلاد بفضل قوته السياسية والنفسية، وأيضا المادية، حيث يعيش أكثر من 15 مليون مواطن تركي من أصل 85 مليونا على المساعدات التي يتلقونها من حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم. وانتقدت الصحيفة الفرنسية المعارضة التي وصفتها بالضعيفة والمشتتة، كونها لم تتمكَّن من تقديم وعود أقوى من تلك التي قطعها أردوغان على نفسه خلال حملته الانتخابية.

في السياق نفسه أتى كلام صحيفة "نيويورك تايمز" التي عنونت مقالها بالآتي: "رغم التضخم والزلزال والسباق الصعب، أردوغان رئيسا مرة أخرى". وقالت الصحيفة الأميركية إن مؤيدي أردوغان تناسوا التحديات التي تعيشها تركيا ودعموا القيم الإسلامية المحافظة التي يتبناها الرئيس التركي. وفي مقال لها تعليقا على نجاح الرئيس التركي في تمديد ولايته، قالت صحيفة "الغارديان" البريطانية إن العديد من العواصم الغربية ظلت صامتة طيلة الحملة الانتخابية، آملة أن يكون الأحد 28 مايو/أيار هو آخر يوم في حكم الرجل الذي سيطر على الساحة السياسية التركية منذ 20 سنة. وقالت الغارديان إن الهدف الآني هو منع تعزيز التحالف بين أردوغان وبوتين على حساب القوى الغربية.

وكان أردوغان قد صرَّح عقب انتهاء جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية وسط حشد من مؤيديه في إسطنبول أن حملة إعلامية غربية استهدفته هو شخصيا من منابر فرنسية وألمانية وبريطانية عبر نشر أخبار ورسوم كاريكاتورية تسيء له. لكن رغم عدم تحمُّس الغرب لسياسة وشخصية أردوغان، فإن الدول الغربية ستكون مضطرة على كل حال للتعامل مع الرئيس التركي لما له من أدوار مهمة في منطقة الشرق الأوسط والقوقاز، بجانب دوره المهم في الصراع الروسي الأوكراني الدائر حاليا في أوروبا. وبالمثل، ستنتظر المعارضة المُحبطة 5 سنوات قبل الاستحقاق الرئاسي والبرلماني القادم في عام 2028، لكنها ستكون على موعد مع فرصة مهمة للتعافي من خسائرها في عام 2024 حين يحل موعد الانتخابات المحلية، وهو اختبار يظل صعبا إن لم يُفلح حزب الشعب في الحفاظ على مقعدي عُمدة إسطنبول وعُمدة أنقرة اللذين انتزعهما من الحزب الحاكم عام 2019.

المصدر : الجزيرة