شعار قسم ميدان

الممر الأوسط.. طريق الصين وأوروبا لتجاوز العملاق الروسي

Ministers of foreign affairs and transport of Kazakhstan, Azerbaijan, Türkiye and Georgia attended the Nov. 25 meeting in Aktau. Photo credit: Ministry of Foreign Affairs
وزراء الخارجية والنقل في كازاخستان وأذربيجان وتركيا وجورجيا. (وزارة الخارجية)

في الأشهر الأخيرة، بدأ الحديث عن "الممر الأوسط" الذي يربط الصين بأوروبا يعود للواجهة مجددا مُكتسبا المزيد من الزخم، وهو ممر تجاري يتوقع له خبراء أن يغير ملامح التجارة في آسيا وأوروبا. وإذا ما نجح واستطاع أن يعمل بأفضل كفاءة متوقعة له في المستقبل، فقد يدفع بدول عديدة إلى فرص تنموية كبيرة، ويحجب عن أخرى الكثير من امتيازاتها، كما سيؤثر على التوازن الجيوسياسي والتجاري بين آسيا وأوروبا. فما هو الممر الأوسط الذي أثار كل هذا الزخم إذن؟

 

طريق أحيته الحرب الأوكرانية

الممر الأوسط، الذي يُسمى أيضا "طريق النقل الدولي العابر لبحر قزوين" (Trans-Caspian International Transport Route) و"سكة حديد باكو-تبيليسي-قارص"، هو طريق تجارة مُكوَّن من سكك حديدية وطرق وموانئ يجري تدشينها بواسطة أطراف عديدة بهدف ربط آسيا بأوروبا عبر آسيا الوسطى والقوقاز وتركيا وأوروبا الشرقية، ومن ثمَّ تجاوز المساحة الشاسعة للاتحاد الروسي. وقد كانت تركيا أول مَن تبنى الفكرة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وحتى الآن هي واحدة من أهم الدول التي تدفع باتجاه المشروع وتطويره. بيد أن عام 2012 كان هو العام الأول الذي بدأ فيه طرح المشروع بجدية من جانب تركيا وجورجيا، واستطاع البلدان بعد ذلك أن يجذبا اهتمام صناع القرار في كازاخستان وتركمانستان.

 

جاءت أول خطوة كبيرة في اتجاه تحويل المشروع من فكرة إلى واقع في عام 2014 حين افتُتِح خط السكك الحديدية العابرة لكازاخستان. وبعد ذلك جاءت الخطوة الأهم في عام 2017 بافتتاح خط السكة الحديدية الذي يربط بين باكو عاصمة أذربيجان وتبيليسي عاصمة جورجيا ومدينة قارص في شرق تركيا، ومن ثمَّ أصبح هناك رابط مباشر بين أوروبا وآسيا من خلال السكك الحديدية. وقد بدأ من تلك النقطة عمليا مشروع يهدف إلى تطوير موانئ وطرق سريعة ومشاريع بنية تحتية لتسهيل نقل البضائع بين آسيا وأوروبا.

غير أن العمل على الممر الأوسط ظل بطيئا دوما ومُحاطا بالشكوك. فرغم محاولة الدول الواقعة عليه إصلاح شبكات النقل والبنية التحتية لديها لتطويره، فإن الممر لم يستطع أن يأخذ خطوات جدية في منافسة الطرق التجارية الأخرى حتى وقت قريب، وعلى رأسها ممر الشمال التقليدي عبر روسيا. ونتيجة ذلك المخاض المتعثر، لم يصل أول قطار من تركيا إلى الصين إلا بحلول عام 2020، وبعد تلك الرحلة حقق الممر نجاحا نسبيا، فارتفعت شحنات البضائع على طوله من 350 ألف طن إلى 530 ألف طن تقريبا بين عامي 2020 و2021. ولكن بحلول عام 2022، كان الممر الأوسط على موعد مع فرصة قدمها له التاريخ على طبق من ذهب في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية.

 

حتى لحظة الحرب، كان الطريق الرئيسي الرابط بين آسيا وأوروبا هو الممر الشمالي، والمتكون بالأساس من السكك الحديدية العابرة من شرق روسيا لسيبيريا والفروع ذاتها في كازاخستان ومنغوليا، ومُشغل هذا الممر هو ما يُعرف بتحالف سكك الحديد الأوراسي "UTLC"، المملوك لروسيا وبيلاروسيا وكازاخستان.

 

ولكن بعد "الغزو" الروسي، وفي ظل محاولة الدول الأوروبية الضغط على روسيا اقتصاديا بكل الوسائل الممكنة، باتت الحاجة الغربية إلى عزل موسكو واستخدام طريق يربط أوروبا بالصين دون الحاجة إلى المرور بروسيا حاجة ماسة، ومن ثم بدأ الممر الأوسط يكتسب كل هذا الزخم، إذ تقود ألمانيا الجهود الأوروبية لتطوير البنية التحتية للممر ليصير قادرا على استبدال الممر الشمالي، وبخلاف الحرب كان العبور من خلال الممر الشمالي قد ارتفع سعره في عام 2021 بمقدار النصف، وكان خط السكة الحديدية بين الصين وروسيا قد بلغ حده الأقصى من ناحية حجم الحاويات، وكل هذا إضافة إلى الحرب جعل أوروبا متحمسة للغاية لتطوير الممر الأوسط.

 

صورة عن قرب للممر الأوسط

يُمثِّل الممر أقصر طريق جغرافي يربط بين غرب الصين وأوروبا.
يُمثِّل الممر أقصر طريق جغرافي يربط بين غرب الصين وأوروبا. (الجزيرة)

يُعدُّ الممر الأوسط المعروف واحدا من بين ثلاثة ممرات للتجارة العالمية بين الصين وأوروبا اليوم، لكنه بدأ يأخذ الكثير من الزخم مؤخرا كما ذكرنا، إذ انخفضت الشحنات بين الصين والاتحاد الأوروبي عبر الممر الشمالي بمقدار 40% وفقا لبيانات من أكتوبر/تشرين الأول 2022 نتيجة العقوبات الاقتصادية على روسيا. ويبدأ الممر الأوسط من مدينة كَشْغَر الصينية ويمر بقرغزستان وأوزبكستان، ثم ميناء تركمانباشي في تركمانستان، ومن هذا الميناء تنتقل البضائع بواسطة الحاويات إلى أذربيجان وجورجيا ثم تركيا (سواء عبر إسطنبول أو موانئ تركيا البحرية). ومن تركيا تنتقل البضائع إلى بقية دول العالم وأبرزها بالطبع أوروبا.

 

يُمثِّل الممر أقصر طريق جغرافي يربط بين غرب الصين وأوروبا، ويتشكَّل تفصيلا من خط السكك الحديدية بين باكو وقارص الذي سبق وأشرنا إليه، وطريق النقل العابر لبحر قزوين الذي يربط تركمانستان وكازاخستان وأذربيجان عن طريق البحر، بالإضافة إلى البنية التحتية في تركيا وأوروبا من موانئ وطرق سريعة وسكك حديدية، ويرتبط من خلالها الممر ببقية أوروبا. وقد تضخمت شحنات البضائع عبر الممر الأوسط في عام 2022 إلى 3.2 ملايين طن، ما يعني زيادة بمقدار 6 أضعاف مقارنة بالعام السابق 2021، ويتوقع بعض المراقبين أن ترتفع قدرة الممر إلى 10 ملايين طن، إذ إن سعة الممر حاليا تُمثِّل 5% فقط من سعة الممر الشمالي. وقد يتحقق هدف العشرة ملايين طن بالفعل، خاصة بعد استكمال تركيا لخط سكة حديد مرمرة تحت مضيق البوسفور.

 

وبحسب معلومات وزارة النقل والبنية التحتية التركية، فإن قطار الشحن الذي ينطلق من الصين إلى أوروبا عبر الممر الأوسط يقطع 7 آلاف كيلومتر في 12 يوما بينما يتطلب المرور عبر الممر الشمالي قطع 10 آلاف كيلومترات في مدة لا تقل عن 15 يوما، في حين تصل المسافة إلى 20 ألف كيلومتر والمدة إلى ما بين 45-60 يوما إذا تم اختيار الطريق الجنوبي عبر المحيط. هذا وتتوقع دول الممر أن تصل أرباحه السنوية إلى مليار دولار تقريبا، وهو رقم مرشح للزيادة إذا ما تم تطويره وزاد الاعتماد عليه مستقبلا.

 

تركيا مستفيدة وإيران خاسرة والصين مترددة

Turkish President Recep Tayyip Erdogan and China's President Xi Jinping attend a welcome ceremony at the Great Hall of the People in Beijing, China, July 2, 2019. Picture taken July 2, 2019. Roman Pilipey/Pool via REUTERS
كانت الصين تنظر إلى تركيا باعتبارها منافسا على النفوذ في آسيا الوسطى، وإن كان ذلك قد تغير بعد الحرب الروسية نوعا ما وصارت الاتصالات بينهما تركز على دعم طرق التجارة. (رويترز)

تُعَدُّ تركيا واحدة من أكثر الدول استفادة من الممر الأوسط في حال اكتمل تطويره وأصبح الطريق الأساسي للنقل بين الصين وأوروبا، إذ إنها ستصبح نقطة الوصل المحورية بين آسيا وأوروبا. ولذلك كانت أنقرة المُتحمس الأكبر للممر الأوسط منذ البداية، والمفاوض الأساسي بين الدول المختلفة المُطِلة على الممر من أجل تحفيز تطويره واستخدامه.

 

وبخلاف الفوائد الاقتصادية، هناك أبعاد سياسية للممر أيضا بالنسبة لأنقرة، فهو يقلل من اعتماد الجمهوريات الناطقة بالتركية على روسيا وإيران من أجل التجارة مع العالم. وتهدف تركيا إلى اجتذاب 30% على الأقل من التدفقات التي تمر عبر الممر الشمالي إلى الممر الأوسط. وسيوفر الممر للدول الواقعة عليه حال نجاحه فرصة تنموية متوقعة في حال ضمان الأمن والاستقرار والإدارة الفعَّالة في تلك الدول؛ أولا بتعزيز فرص التجارة، لا سيما أن بلدان الممر غنية بموارد الطاقة، وسيُمكِّنها الممر من تسهيل وصول صادراتها إلى أوروبا، وثانيا بتسهيل التكامل الإقليمي بين تلك الدول وتعزيز التجارة بينها، بدلا من الاعتماد المُفرِط لكلٍّ منها منفردة على التجارة مع الصين أو روسيا.

 

على الجانب المقابل، يُمثِّل الممر خسارة لإيران، التي لطالما استفادت من موقعها الإستراتيجي مع دول آسيا الوسطى لتكون حلقة الوصل بينها وبين الهند وبينها وبين الخليج وتركيا. ولذا تراقب إيران الممرات التجارية التي تتجاوزها بالكثير من القلق، لا سيما وقد بدأ جيرانها في تخطيها بالفعل عبر طرق مختلفة، وأبرزهم باكستان والعراق والإمارات وتركيا. ومن جهة أخرى، لا يمكن تحديد التأثير المحتمل على الدول العربية، فمن الممكن أن يجلب الممر لبعضها فرصا تنموية بسبب قربها منه، لكنه سينافس الطريق الجنوبي بما في ذلك قناة السويس وموانئ البحر الأحمر، ما يعني احتمال اجتذاب الممر للكثير من التدفقات التجارية بعيدا عن دول مهمة في العالم العربي، وهو ما سيُترجم إلى خسائر إيرادات في بلدان ما زالت تعتمد على الريع في اقتصادها إلى حدٍّ بعيد.

 

ماذا إذن عن موقف الصين؟ تُعدُّ بكين أهم اللاعبين في هذا الممر، ومن مصلحتها نظريا على المدى الطويل أن يكون طريقها التجاري إلى أوروبا طريقا لا تهيمن عليه روسيا، ولا تستطيع الولايات المتحدة اعتراضه. كما أن وضع موسكو الحالي يجعل من الصعب الاعتماد عليها في خطة طريق الحرير، على الأقل على المدى القصير. وقد استثمرت الصين بالفعل في البنية التحتية لدعم الممر من خلال تمويل منطقة "خورجوس" الاقتصادية في شرق كازاخستان، بحيث تكون مركزا ضخما لإعادة الشحن بالسكك الحديدية عبر الحدود بين البلدين.

 

ورغم ذلك، تبدو الصين متحفظة في حماسها للطريق في أفضل الأحوال، فهي لم تستثمر في تطويره إلا القليل على الرغم من قدراتها الاقتصادية الكبيرة، فالطريق ليس سهلا وبه العديد من التعقيدات والخطوط البرية والبحرية، فضلا عن أنه يَعبُر العديد من الدول المستفيدة التي ربما لم تبذل جهدا ومالا كافيا قبل الحرب الروسية على أوكرانيا لتطويره في نظر بكين. كما أنه قبل الحرب، كانت الصين تنظر إلى تركيا باعتبارها منافسا على النفوذ في آسيا الوسطى، وإن كان ذلك قد تغير بعد الحرب نوعا ما وصارت الاتصالات بينهما تركز على دعم طرق التجارة، هذا كله بالإضافة إلى مراقبة الصين لرد فعل روسيا على تطوير ممر تجاري يتجاوزها كليا، وجميعها عوامل تساهم في تقليل حماس الصين للمشروع.

 

الطريق الوعر

Ministers of four states discussed the development of TITM
الكثير من دول الممر لا يمكن تصنيفها كبيئات سياسية واستثمارية مستقرة، فقد شهد الكثير منها اضطرابات في السنوات الماضية. (Middle Corridor News)

رغم كل الطموحات التي تعلقها أوروبا ودول الممر عليه، لا تزال هناك العديد من التحديات تواجه الممر الأوسط الذي يمر عبر الكثير من الحدود، ما يعني أنه عُرضة للكثير من المتغيرات. فبينما تسعى دول الممر إلى مضاعفة قدرات تحميله لتصل إلى 10 ملايين طن من البضائع، كانت السكك الحديدية الروسية في المنطقة العابرة لسيبيريا وحدها قبل الحرب في عام 2020 قد نقلت 144 مليون طن من البضائع، بينما من المرجح أن ينقل الطريق الجنوبي في عام 2023 أكثر من مليار طن. ولا يزال الممر الأوسط -بقدراته الراهنة- غير قادر على استيعاب أكثر من 5% من التجارة بين الصين وأوروبا.

 

واحد من أكبر التحديات الخارجة عن السيطرة هو المناخ في بحر قزوين، الذي قد يؤدي في فصل الصيف إلى تعطيل حركة مرور البضائع لأسابيع في بعض الأحيان، علاوة على أن المراكز السكانية والصناعية في آسيا الوسطى لا يمكن أن تقارن بنظيرتها الروسية التي ورثت خدمات تم تطويرها في الحقبة السوفيتية، ما يجعل نقل البضائع وتكاليفها أفضل عبر روسيا. هذا ولا تزال التأخيرات على الحدود في الممر الأوسط بسبب الجمارك والإجراءات الروتينية تُمثِّل عقبة كبيرة أمام تسريع عمله، ورغم أنه أقصر ممر جغرافيًّا للربط بين الصين وأوروبا، فإن بعض الشركات تُقدِّر مدة المرور الفعلي من خلاله بفترة تصل إلى 40 يوما.

 

الأهم أن الكثير من دول الممر لا يمكن تصنيفها كبيئات سياسية واستثمارية مستقرة، فقد شهد الكثير منها اضطرابات في السنوات الماضية، ولعل أبرزها حرب أذربيجان وأرمينيا اللتين لم ينتهِ الصراع بينهما، هذا بخلاف الاضطرابات السياسية المختلفة في آسيا الوسطى. ويظل شبح روسيا حاضرا أيضا، فهي من كبار المستثمرين في السكك الحديدية في المنطقة، كما أن أرمينيا وكازاخستان وقرغزستان أعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي تتزعمه روسيا، ومن ثمَّ ما زالت موسكو ومعها إيران تمتلكان العديد من الأوراق التي لم تلعباها في مواجهة الممر الأوسط.

 

في السياق ذاته، يُعَدُّ تمويل تطوير البنية التحتية للممر واحدا من التحديات الأساسية، حتى بالأخذ في الاعتبار مساعدة الاتحاد الأوروبي، في ظل تراجع الطلب وتباطؤ الاقتصاد العالمي. فبحسب تقديرات البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، تُقدَّر الاحتياجات الاستثمارية الفورية لتحديث البنية التحتية في الممر الأوسط بنحو 3.5 مليارات يورو، وهو ما يعني أن هناك شوطا طويلا ينبغي قطعه كي يتحول الممر إلى رافد أساسي للتجارة بين أوروبا وآسيا.

—————————————————————————

المصادر

  1. Russia’s War on Ukraine and the Rise of the Middle Corridor as a Third Vector of Eurasian Connectivity
  2. Middle Corridor joint venture to be established in 2023
  3. Kazakhstan moves uranium exports through Middle Corridor
  4. MIDDLE CORRIDOR—POLICY DEVELOPMENT AND TRADE POTENTIAL OF THE TRANS-CASPIAN INTERNATIONAL TRANSPORT ROUTE
  5. China Still Ambivalent About the Middle Corridor
  6. الممر الأوسط.. شريان حياة أوروبا وبديل التجارة العالمية
  7. Why Israel should support the establishment of the Middle Corridor
  8. Silk Road’s middle corridor growing in importance
  9. Central Asia’s Middle Corridor gains traction at Russia’s expense
  10. EDRB Says Significant Transport Infrastructure Investment Needed Across Central Asia & Middle Corridor
  11. طريق التجارة المتجاوز لروسيا.. 4 تحديات تهدد نجاح الممر الأوسط
المصدر : الجزيرة