شعار قسم ميدان

الثبات وتوظيف قوة العدو ضده.. كيف تفسر رياضة الجودو التفوق العسكري للمقاومة؟

مفهوم المقاومة الفلسطينية عن النصر يتعدى مجرد كسب معركة أو أخرى نحو تحقيق نتائج سياسية طويلة الأمد
مفهوم المقاومة الفلسطينية عن النصر يتعدى مجرد كسب معركة أو أخرى نحو تحقيق نتائج سياسية طويلة الأمد (مواقع التواصل)

في تقرير نُشر قبل أيام، طالبت صحيفة "يديعوت أحرنوت" (1) العبرية بخفض التوقعات الإسرائيلية حيال الحرب الدائرة في قطاع غزة، لأن النصر الكامل بات أمرا غير متوقع، خاصة مع تزايد ضغوط الإدارة الأميركية على الاحتلال بسبب الأعداد الهائلة للضحايا المدنيين. في غضون ذلك، نشر "جون ألترمان"، مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، تعليقا بعنوان "إسرائيل قد تخسر" (2) أشار خلاله إلى أنه "على الرغم من أن غالبية المناقشات الدائرة منذ بدء الحرب في غزة افترضت أن إسرائيل سوف تنتصر في نهاية المطاف نظرا لما تتمتع به من تفوق عسكري، فإن إمكانية هزيمة إسرائيل صارت مع مُضي الوقت واردة". وأشار "ألترمان" إلى أن مفهوم المقاومة الفلسطينية عن النصر يتعدى مجرد كسب معركة أو أخرى نحو تحقيق نتائج سياسية طويلة الأمد، ولا تحتاج المقاومة في ذلك إلى القوة قدر الحاجة إلى الثبات، الأمر الذي تطبقه المقاومة بشكل مثالي بينما تسعى لاستخدام قوة إسرائيل ضدها.

 

التاي ساباكي.. مقدرة الاتزان واستنزاف العدو

يطرح "ألترمان" فكرتين رئيسيتين تقفان إلى جانب المقاومة الفلسطينية في ظلّ العدوان الإسرائيلي على غزة، وهما "الثبات" و"توظيف قوة الخصم لصالحها". وتعود الفكرتان بشكلٍ ما إلى رياضة قتالية شهيرة وهي "الجودو" (Judo)، إذ يُعَدُّ الاتزان العامل الحاسم في تحقيق الانتصار في مباريات الجودو بخلاف الرياضات القتالية الأخرى.

والمفردة "جودو" تعني "الطريقة اللينة أو السهلة" في إشارة إلى مبدأ اللعبة الأساسي الذي يتلخص في استخدام قوة الخصم ضده والتكيف جيدا مع المتغيرات. فمثلا، يتحرك لاعب الجودو أثناء المباراة بطريقة دائرية "تاي ساباكي" (Tie Sapake)، فيما يحافظ على بقاء القدمين فوق الأرض خلال تحركه الأشبه بالزحف، في الوقت الذي تبقى الساقان فيه منفرجتين خلال الوضعية الدفاعية "جيجو تاي" (Gegu Tie)، مما يجعل مركز الثقل قريبا من الأرض ويساهم في حفظ الاتزان. وإذا ما أقدم المهاجم على ممارسة ضغط، ففي وسع المُدافع أن يتنحى جانبا في سياق حركته الدائرية مكتفيا بوضع قدمه أمام الخصم المندفع بشكلٍ يؤدي إلى اختلال توازن الأخير وسقوطه.

كان مؤسس اللعبة الياباني "جيجورو كانو" (3) صبيا واهنا، لا يتعدى وزنه 45 كيلوغراما، وكثيرا ما عانى من استبداد زملائه وتنمرهم وقتما كان طالبا في مدرسة "إيكوي جيجوكو"، مما دفعه إلى الاهتمام بفن "الجوجيتسو" القتالي. لكن محاولات "كانو" للانضمام إلى حلقات التدريب دائما ما قوبلت بالرفض، نظرا لافتقاره إلى القوة الجسدية المناسبة، إلى أن عثر على ضالّته في المعلم الياباني "هاتشينوسوكي فوكودا"، الذي كان يُمثِّل مزيجا فريدا من مدرستي "جوجيتسو" مختلفتين. ومع وفاة "فوكودا" طلبت عائلته من "جيجورو" أن يخلفه في رئاسة مدرسة "فوكودا دوجو"، نظرا للتفاني الذي أظهره خلال فترة تدربه، وفي الوقت ذاته، وفي إطار سعيه الدائم نحو التطور، التحق "جيجورو" بحلقة تدريبية جديدة تحت إشراف خبير "جوجيتسو" آخر هو الياباني "ماساتومو إيسو".

عمل "جيجورو" على تحسين معارفه المستمدة من مدارس "الجوجيتسو" المختلفة إلى أن ابتكر تقنيات لعبة الجودو وأساليب زعزعة استقرار الخصم وإلقائه. وسرعان ما لاقت مدرسته اهتماما وانتشارا داخل اليابان. وفي عام 1889، وبينما كان في طريقه إلى أوروبا في جولة دراسية، قدم عرضا للجودو على متن سفينة ركاب وكان معظمهم من غير اليابانيين، وخلال إبحارهم عبر المحيط الهندي تملّكت الركابَ دهشةٌ بالغة، حين تمكّن رجل صغير الحجم مثل "جيجورو" من طرح خصم ضخم على الأرض بكل سهولة؛ وهكذا أصبح الجودو معروفا خارج شواطئ اليابان، تماما كما عرف العالم عن فلسطين حين قذف الطفل الصغير حجرا على دبابة.

 

كوزوشي.. سقوط الثور الهائج

كانت كتائب القسام تدرك مسبقا أن جيش الاحتلال سوف يندفع مثل ثور هائج بغرض الثأر وحفظ ماء الوجه، وفي المقابل يتوجب عليها الثبات والدفاع بالصورة الملائمة
كانت كتائب القسام تدرك منذ طوفان الأقصى أن جيش الاحتلال سوف يندفع مثل ثور هائج بغرض الثأر وحفظ ماء الوجه، وفي المقابل يتوجب عليها الثبات والدفاع بالصورة الملائمة (الأناضول)

إلقاء نظرة على كيفية التحرك الدفاعي الذي تقوم به كتائب القسام يُحيلنا إلى الربط بينه وبين الحركة الدائرية "تاي ساباكي". ولا تنحصر المسألة في طبيعة حرب المُدن التي تفرض الدوران من منزل إلى آخر، بصورة تؤدي إلى إرهاق المهاجم وتعمل على تشتيت انتباهه، بل تتعداها إلى تحرك المقاومة أثناء عمليات الكر والفرّ خلال نقاط دفاعية (4) يمكن أن تتخذ أشكالا مختلفة بشرط ألا يتجاوزها المهاجم أو يلتف عبرها بسهولة. أضف إلى ذلك شبكة أنفاق معقدة، توفر للمقاومة القدرة على مباغتة العدو بعرقلة في الأمام أو الخلف.

منذ اللحظات الأولى لصباح السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ومع اختراق غلاف غزة من قِبَل مقاتلي المقاومة، توقع الجميع أن يكون ردّ فعل إسرائيل عنيفا بعد إذلالها بشكل غير مسبوق، وبالطبع كانت كتائب القسام تدرك مسبقا أن جيش الاحتلال سوف يندفع مثل ثور هائج بغرض الثأر وحفظ ماء الوجه، وفي المقابل يجب عليها الثبات والدفاع بالصورة الملائمة (5). هذه العلاقة الديناميكية بين الهجوم والدفاع يشرحها المؤرخ والمنظّر العسكري البروسي "كارل فون كلاوزفيتز" في كتابه الشهير "عن الحرب"، إذ يرى أن الدفاع يمتلك الأفضلية خلال القتال لأن الحفاظ على الأرض أيسر من الاستيلاء عليها.

يشير "كلاوزفيتز" إلى أن الاندفاع الهجومي ربما يؤثر سلبا على جودة الخدمات اللوجستية وخطوط الإمداد، وفي المقابل، يحظى المدافع بخطوط إمدادات أقصر وبروح معنوية أعلى (الأمر الذي ينطبق على كتائب القسام). ويدرك العسكريون أن الاندفاع غير المحسوب سوف يؤدي بالضرورة إلى ثغرات، كما هو الحال في رياضة الجودو، حين يتخلى المهاجم عن حذره وتبتعد قدماه لوهلة عن الأرض، لكن تلك اللحظة هي ما ينتظرها المدافع كي يضع قدمه في ساق خصمه ويُلقي به أرضا مستغلا اختلال توازنه، وهو ما يطلق عليه لاعبو الجودو "كوزوشي" (Kuzushi)، وهو أيضا ما عبّر عنه "كلاوزفيتز" بقوله: "إنه الوقت الذي يمكن فيه رفع سيف الانتقام الوامض وتوفير أعظم لحظة للدفاع".

 

لعنة القوة المفرطة

وحتى إذا ابتعدنا عن التكتيكات العسكرية، فسنجد أن رؤية المقاومة الفلسطينية تتسق مع مبدأ "كلاوزفيتز" الذي كان يرى الحرب في جوهرها امتدادا للسياسة وجولة من جولاتها. ومن هذا المنظور، يبدو أن كل القوة المفرطة التي يوجهها الاحتلال ضد قطاع غزة تعمل في الأخير ضد إسرائيل على المدى البعيد. بادئ ذي بدء، أدت عملية "طوفان الأقصى" والحرب الإسرائيلية الغاشمة التي أعقبتها إلى عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وتزايد المطالب العالمية بإقامة دولة فلسطينية (6).

ليس هذا فحسب، فكما يشير "إميل حكيم" (7)، مدير الأمن الإقليمي في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، فإن عملية "طوفان الأقصى" حطمت تصورات إسرائيل عن قوتها وكفاءة أجهزتها الأمنية وقياداتها السياسية. ويؤكد "إميل" أن السابع من أكتوبر/تشرين الأول برهن على خطأ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة حين اعتقدت أن بإمكانها "محاصرة الأزمة الفلسطينية وتقليصها أو تجاهلها في الوقت الذي تسعى فيه إلى التوسع في الضفة الغربية والتكامل الإقليمي والتطبيع مع الدول العربية". الأمر الذي يلخصه "جون ألترمان" (8) بقوله: "إن حماس لا ترى النصر في عام واحد أو خمسة أعوام، بل من خلال الانخراط في عقود من النضال الذي يزيد من التضامن الفلسطيني ويزيد من عزلة إسرائيل".

ومع مُضي الحرب وتخبط جيش الاحتلال بين كمائن المقاومة في غزة، تزداد تلك العزلة وفقدان الثقة وتتعزز حالة التخبط في إسرائيل. ولعل أبرز الدلائل ما أظهرته التقارير الإعلامية (9) عن الارتباط بين تفعيل بروتوكول "هانيبال" وتزايد أعداد القتلى الإسرائيليين، إذ يسمح البروتوكول بقتل الأسرى الإسرائيليين تجنبا للدخول في مفاوضات والتنازل عن شيء لقاء استردادهم، وتحدد التقارير (10) واقعة استهداف القوات الجوية الإسرائيلية لمهرجان موسيقي أُقيم في غلاف غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، الواقعة التي نسب الاحتلال مسؤوليتها إلى المقاومة قبل أن توضح تحقيقات الشرطة الإسرائيلية أن الاستهداف أتى من طائرة أباتشي تنتمي إلى سلاح الجو الإسرائيلي (11).

في السياق ذاته، يتضاءل الدعم الغربي لدولة الاحتلال مع تنامي الضغوط الشعبية (12)، مما دعا الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" إلى المطالبة بوقف الحرب، أضف إلى ذلك الدعم الصريح من دول ما يُعرف بـ"الجنوب العالمي" للحقوق الفلسطينية، وتجرّد إسرائيل من ادعاءاتها الزائفة حول كونها دولة ديمقراطية تسعى للسلام. وهكذا بات كل صمود يومي للمقاومة وسيلةً لإسقاط الأصباغ عن وجه إسرائيل وتعضيدا للوجود الفلسطيني، ما يُذكِّرنا بالمقولة الأيقونية للصحفية الشهيدة "شيرين أبو عاقلة": "بدها طول نفَس.. خلي المعنويات عالية".

————————————————————————-

المصادر:

1) يديعوت أحرونوت: النصر الكامل غير مرجح فلنخفض التوقعات – موقع الجزيرة – 5 ديسمبر/كانون أول 2023.

2) Israel Could Lose, John Alterman, Center for strategies and international studies, 7 Nov.

 2023.

3) The life of Jigoro Kano, Judo Channel.

4) بعد انتهاء الهدنة.. 5 تكتيكات عسكرية ستمارسها كتائب القسام ضد الاحتلال – موقع الجزيرة – 1 ديسمبر/ كانون أول 2023.

5) Israel’s Ground War Against Hamas: What to Know, Max Boot, Council of foreign relations, 23 Oct. 2023.

6) How the War in Gaza Is Reshaping Geopolitics, Bharat Bhushan, The wire.

7) The Gaza War and the Region, Emile Hokayem, Tylor and Francis, 4 Dec. 2023.

8) المصدر رقم 2

9) Israel carried out mass killing of own people under ‘Hannibal Directive’: Reports, Press TV, 27 Nov. 2023.

10) Israel admits it killed its own at Nova music festival, The Cradle, 19 Nov. 2023.

11) شتائم وصراخ وضرب في لقاء ذوي الأسرى بمجلس الحرب الإسرائيلي – موقع الجزيرة – 5 ديسمبر/ كانون أول 2023.

12) فرنسا: ألفا متظاهر في باريس يطالبون بوقف "فوري" لإطلاق النار في غزة، فرانس 24، 3 نوفمبر/ تشرين ثاني 2023.

المصدر : الجزيرة