شعار قسم ميدان

جوزيف مَسْعَد.. أكاديمي فلسطيني تريد الحركة الصهيونية اغتيال صوته

جوزيف مَسْعَد
الفلسطيني "جوزيف مَسْعَد" أستاذ السياسة العربية الحديثة وتاريخ الفِكر في جامعة كولومبيا العريقة بمدينة نيويورك في الولايات المتحدة. (الصورة: الجزيرة)

منذ يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تعيش دولة الاحتلال الإسرائيلي ومناصروها عبر العالم لحظات حزن وغضب واختلال توازن تدفعهم إلى التحرك باندفاع من أجل الترويج لوجهات نظر الاحتلال وفرضها على العالم، في حين تمضي إسرائيل في قصف قطاع غزة بوحشية وعشوائية، وألقت متفجرات تعادل قنبلتين نوويتين مثل تلك التي أُلقيت على مدينة هيروشيما اليابانية (1). أما على صعيد حرب السرديات، فإن أحد تكتيكات الضغط الصهيوني يَتمثَّل في قيادة حملات كبرى لإخراس الأصوات المؤيدة لحق الشعب الفلسطيني في الوجود على أرضه أولا، ثم حقه في المقاومة لتحرير تلك الأرض، وقد تركّزت تلك الحملات داخل أروقة الجامعات والمؤسسات الأكاديمية الأميركية، ولعل واحدا من أبرز تلك الأصوات في السنوات الأخيرة على المستوى الأكاديمي هو الفلسطيني "جوزيف مَسْعَد"، أستاذ السياسة العربية الحديثة وتاريخ الفِكر في جامعة كولومبيا العريقة بمدينة نيويورك الأميركية.

يُعَدُّ جوزيف من أهم مُفكِّكي السرديات الاستشراقية والصهيونية في المجال الأكاديمي الغربي طيلة العقدَيْن الأخيرين، ويعد امتدادا لحالة أكاديمية عربية تمحورت حول نقد الحداثة والرؤى الغربية عن الشرق، ويعد الأكاديمي الراحل إدوارد سعيد أحد أبرز رموزها. وكثيرا ما يمزح مسعد بالقول إن جامعة كولومبيا مستفيدة ماديا من وجوده، لأنه يدفع اليمين المحافظ إلى زيادة استثماراته في مجال الدراسات الإسرائيلية لمواجهة السردية التي يطرحها (2). ويتعرض جوزيف بين الحين والآخر لحملات تدعو لإقصائه عن موقعه تحت تهمة "معاداة السامية" والتحريض على العنف ضد إسرائيل.

 

ففي عام 2004، شنَّ الطلاب المناصرون لدولة الاحتلال حملة كبيرة في الجامعة اتهموه فيها بأنه يضغط عليهم بسبب موقفهم المؤيد لإسرائيل، وبأنه ينشر أفكارا "معادية للسامية"، لكن التحقيق خلص وقتها إلى تبرئة جوزيف (3). بالإضافة إلى ذلك، صدر فيلم وثائقي في العام نفسه بعنوان "Columbia Unbecoming" أو "سلوك كولومبيا غير اللائق" وشهَّر بجوزيف متهما إياه بنشر الرُّعب بين الطلاب المؤيدين لإسرائيل في الجامعة (4). والآن، بعدما أعلن جوزيف مسعد عن دعمه لحق الشعب الفلسطيني في المقاومة في مقال نُشر باللغة الإنجليزية بعنوان "مجرَّد معركة أخرى أم حرب التحرير الفلسطينية؟" (5) يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يتعرَّض الأكاديمي الفلسطيني لحملة كبرى تهدف إلى فصله من الجامعة.

 

حملة تقودها صانعة محتوى للجيش الإسرائيلي

بعد نشر المقال سابق الذكر، نظَّمت الطالبة "مايا بلاتيك" بجامعة كولومبيا عريضة من أجل الضغط على الجامعة لطرد مسعد، وقد تبيَّن فيما بعد أن الطالبة عملت سابقا صانعة محتوى لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي كما يتضح من حسابها على لينكد إن (6). وبحسب موقع "بيزنِس إنسايدر"، حصلت العريضة حتى يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول على 34 ألف توقيع (7). وتتهم العريضة جوزيف بأنه يدعم "الإرهاب" بحسب وصفها ويتسامح معه، وأنه يرفض استنكار أفعال حركة حماس، ومن ثم قالت بلاتيك إنها والكثير من زملائها الطلاب يشعرون بعدم "الأمان" حين يُدرِّسهم شخص مثل جوزيف يدعم قتل المدنيين، وإنه لا يجوز إساءة استخدام حرية التعبير في حالة أشخاص يمتلكون السلطة الأكاديمية مثله (8).

 

وسرعان ما تلقَّفت وسائل الإعلام الغربية المناصرة لإسرائيل، مثل "فوكس نيوز"، نبأ العريضة ونشرتها، مشيرة إلى أن الأكاديمي الفلسطيني وصف هجمات "طوفان الأقصى" بأنها نصر مذهل (9). وقد أورد تقرير بصحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية أن الأستاذ في جامعة كولومبيا أشاد بهجمات حماس "الإرهابية" ضد المدنيين الإسرائيليين بحسب وصفها، وأضاف التقرير بعض المعلومات غير الدقيقة، التي تبيَّن عدم صدقها، حيث قال إن مقال جوزيف يشيد بالإرهابيين رغم "المعلومات الأكيدة أنهم قطعوا الرؤوس وأحرقوا الأحياء واغتصبوا النساء". ولم تنسَ الصحيفة الإشارة إلى أن الطلاب اليهود في جامعة كولومبيا يشعرون بعدم الأمان بسبب تنامي الحراك المؤيد لفلسطين في الجامعة (10).

 

وبحسب تقرير لصحيفة "نيويورك بوست"، رفضت جامعة كولومبيا التعليق على العريضة أو إدانة جوزيف مسعد (11). وقد كُتِبَت عريضة أخرى وقَّعها المتضامنون مع حق جوزيف في التعبير عن رأيه، ومنهم أكاديميون لامعون مثل الفيلسوفة "جوديث باتلر"، أستاذ الأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا بيركلي، والبروفيسور "وائل حلاق"، ودَعَت العريضة رئاسة جامعة كولومبيا إلى ضمان سلامة جوزيف الجسدية وحريته الأكاديمية بعد تهديدات القتل التي وصلته. وقال الموقعون على البيان إن مسعد حظي بإعجابهم الثابت بسبب أبحاثه وتعليمه حول فلسطين والشرق الأوسط وبلدان الجنوب العالمي بحسب وصفهم، واعتبروا العريضة التي وُقِّعَت ضده تشهيرا به، وأن الرجل يمارس حقه الطبيعي في الحرية الأكاديمية.

 

لماذا أثار مقال جوزيف كل هذا الهجوم؟

جوزيف مسعد
ينزعج المتعاطفون مع التاريخ والفكر الاستعماري في الغرب من أن جوزيف لا يتعامل في مشروعه الفكري مع الحوادث بصيغة مُجزَّأة، وإنما يعمل على كشف الطبيعة الكامنة وراء المشروع الصهيوني. (الصورة: الجزيرة)

لقد تحوَّل سؤال "هل تدين هجمات حماس في السابع من أكتوبر؟" إلى سؤال روتيني تسأله كل وسائل الإعلام الأجنبية لأي ضيف عربي أو متعاطف مع حقوق الفلسطينيين، وتظن وسائل الإعلام أن هذا السؤال محرج وقادر على وضع الضيف في مأزق، لكنَّ مفكرين مثل جوزيف قادرون بسهولة على تفكيك الأساطير المؤسِّسة للعقلية الغربية المتحيزة ضد حقوق الفلسطينيين وتفنيدها، ومن ثم إفراغ سؤال مثل هذا من مضمونه قبل أن يبدأ. ففي المقال الذي كتبه جوزيف يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول على موقع الانتفاضة الإلكترونية، وأثار ضده كل هذا الغضب، سمَّى جوزيف الأشياء بأسمائها، فمَن يسميهم الغرب مدنيين إسرائيليين، يُسميهم هو بـ"المستعمرين الإسرائيليين"، مُضيفا أن الهجوم يُفقِدهم الثقة في جيشهم، وأن واحدة من مزايا "طوفان الأقصى" أنه سيجعلهم يدركون أخيرا أن العيش على أرض مسروقة له كلفة باهظة، يُضاف إلى ذلك أن جوزيف يصِف إسرائيل في المقال بـ"دولة الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري" (12).

 

وقد فنَّد جوزيف في مقاله، الحجة الغربية القائلة إن مشاركة النظام الإيراني في تمويل المقاومة الفلسطينية يجعلها جزءا من "محور الشر" بحسب التوصيف الأميركي، حيث يُحاجج جوزيف أنه بغض النظر عن الآراء المتباينة حيال النظام الإسلامي في إيران وأدوار طهران في المنطقة، فإن الحُكم على المقاومة من تلك الزاوية فيه ازدواجية كبيرة، إذ إن الأوروبيين الذين قاوموا الاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية تلقوا الدعم من الولايات المتحدة التي كانت تعيش تحت نظام فصل عنصري حينئذ، وتلقوا الدعم من أنظمة استعمارية مثل فرنسا وبريطانيا، دون أن يُوصَم مقاومو النازية بأي شكل (13).

 

وقد وصف جوزيف أيضا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا بأنهم الأعداء الرئيسيون للشعب الفلسطيني، ورفض ازدواجية المعايير الغربية التي ظهر في الاهتمام الغربي بالأسرى الإسرائيليين والتنديد بـ"خطفهم" بموجب حقوق الإنسان، في وقت الذي يتم فيه تجاهل الأسرى الفلسطينيين القابعين في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ سنوات ويبلغ عددهم نحو 5000. كما أن أيًّا من هؤلاء الليبراليين الذين يدَّعون تمثيل العالم الحر حد وصفهم، لم يتحدثوا للحظة عن حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال بموجب القانون الدولي (14).

 

إن السبب الذي يجعل مقال جوزيف "مثيرا للذعر" بالنسبة لأصدقاء الصهيونية في العالم هو أنهم ببساطة يحاولون تغييب الحقائق الأساسية المتعلقة بالصراع أمام الرأي العام العالمي بكل ما يمتلكونه من قوة كما يشير عدد من داعمي جوزيف، وهي حقائق تقول إن الفلسطينيين شعب مُحتَل، وإن دولة الاحتلال قامت على الاستعمار الاستيطاني وما زالت تمارسه بالفعل، وإن مقاومة الاحتلال حق يكفله القانون الدولي.

 

لماذا يكرهونه؟

On October 26, 2023 protesters gathered outside of a Rice University gala in Houston, Texas to condemn the school's hosting of Henry Kissinger and Hillary Clinton amid the Palestinian occupation and war. Many demonstrators held signs in support of Palestine, waved Palestinian flags
ينتفض اللوبي الداعم لدولة الاحتلال على المستوى الثقافي بقوة محاولا حصار كل الأصوات الثقافية التي تقاوم سردية إسرائيل على المستوى الأكاديمي. (الصورة: شترستوك)

كما يتضح من اسمه، فإن جوزيف مسيحي، وهو ما يخالف كل القوالب الثابتة التي وضع التيار السائد في الغرب الفلسطينيين داخلها كي يُسهِّل على نفسه تصنيفهم ومن ثم حرمانهم من حقوقهم الأصلية. صحيح أنه ليس الصوت المسيحي الأول أو الوحيد الذي يدافع عن المقاومة الفلسطينية، لكن تلك الأصوات تمتلك تأثيرا خاصا. ولا يمكن حين يدافع جوزيف عن المقاومة الإسلامية أن يتهمه أحدهم مثلا بأنه مسلم متطرف، ولا يمكن لأحد أيضا أن يتهم أستاذا في جامعة كولومبيا بأنه جاهل بحقائق الصراع وتاريخه. إن جوزيف ببساطة لا يمكن تكميمه بالتُّهَم المُعلَّبة الجاهزة التي يُنعَت بها العرب والفلسطينيون بين الحين والآخر، كما أنه أثبت في السنوات السابقة قدرته على تحمُّل حملات الاغتيال المعنوي دون أن يُغيِّر مواقفه وقناعاته الأكاديمية أو يرضخ للضغوط.

 

ينزعج المتعاطفون مع التاريخ والفكر الاستعماري في الغرب من أن جوزيف لا يتعامل في مشروعه الفكري مع الحوادث بصيغة مُجزَّأة، وإنما يعمل على كشف الطبيعة الكامنة وراء المشروع الصهيوني. ففيما يتعلق مثلا بموقف الغرب ضد فلسطين في الحرب الأخيرة، لا يتعامل جوزيف معه باعتباره حلقة منفصلة عن التاريخ، وإنما يراه امتدادا لما يُسميه "احتقار الغرب الأبيض للشعب الفلسطيني"، إذ يعتبر ذلك تقليدا قديما يعود للقرن التاسع عشر، منذ أن قاوم الفلسطينيون المستوطنين الأميركيين والإنجليز والألمان البروتستانت الذين أرادوا إنشاء مستعمرة لهم على أرض فلسطين، وما تبع ذلك من مشروع بريطانيا لتعميد اليهود الأوروبيين وتحويلهم للبروتستانتية ومن ثم إرسالهم لاستعمار فلسطين (15)، وهو النهج نفسه الذي استمر بعد ذلك ووصل إلى وعد بلفور الذي اعتبر الشعب الفلسطيني شعبا من درجة أدنى عِرقيا يمكن التخلص منه وإنكار حقوقه.

ما يتعرَّض له جوزيف مسعد اليوم يمثل امتدادا لما تعرَّض له من قبل أستاذه إدوارد سعيد الذي كان أستاذا للنقد الأدبي والأدب المقارن في الجامعة نفسها التي يعمل بها جوزيف حاليا
ما يتعرَّض له جوزيف مسعد اليوم يمثل امتدادا لما تعرَّض له من قبل أستاذه إدوارد سعيد الذي كان أستاذا للنقد الأدبي والأدب المقارن في الجامعة نفسها التي يعمل بها جوزيف حاليا. (الصورة: الجزيرة)

"لن أعترف بأن خطأ كبيرا قد ارتُكب بحق الهنود الحمر في أميركا أو السود في أستراليا بإحلال عِرق أقوى وأعلى نوعية مكانهما".

ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا السابق (16)

لقد وصل الأمر في الاختلاف مع جوزيف إلى حد تهديد أحد داعمي جامعته (جامعة كولومبيا) ماليا بأنه سيُعلق دعمه إذا لم يُطرَد منها، لكنه ليس وحده الذي يتعرَّض لحملة عدائية شرسة، إذ ينتفض اللوبي الداعم لدولة الاحتلال على المستوى الثقافي بقوة محاولا حصار كل الأصوات الثقافية التي تقاوم سردية إسرائيل على المستوى الأكاديمي. فقد تعرَّضت "زارينا غريِوَل"، أستاذة الدراسات الدينية والأنثروبولوجيا في جامعة ييل الأميركية، لحملة شملت عريضة مشابهة لتلك التي كتبتها طالبة كولومبيا ضد جوزيف، وحصدت 40 ألف توقيع بُغية إقالتها، وذلك لأن غريوَل تُصرِّح على وسائل التواصل الاجتماعي بحق الفلسطينيين في المقاومة (17). ومن جهة أخرى، تعرَّض طلاب جامعة هارفارد الذين حمَّلوا حكومة الاحتلال مسؤولية العنف في بيان لهم إلى تسريب بياناتهم الشخصية على الفضاء السيبراني، بما فيها عناوين إقامتهم بشكل قد يُعرِّضهم للخطر.

 

إن ما يتعرَّض له جوزيف مسعد اليوم يُمثِّل امتدادا لما تعرَّض له من قبل أستاذه إدوارد سعيد الذي كان أستاذا للنقد الأدبي والأدب المقارن في الجامعة نفسها التي يعمل بها جوزيف حاليا، وكان واحدا من أهم الرواد المؤسسين لمجال دراسات ما بعد الكولونيالية، حين التُقِطَت له صورة وهو يرمي حجرا على برج مراقبة إسرائيلي بعد تحرير جنوب لبنان. وقد بدأت بعدها حملة مشابهة تهدف إلى طرد سعيد من الجامعة، ولا تزال جماعات الضغط التي تستهدف الأكاديميين والمفكرين الذين يدافعون عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني نشطة في الغرب، بل وربما بحِدّة ونفوذ أكبر بعد العملية الأخيرة للمقاومة.

———————————————————————–

المصادر

  1. ماذا سيحدث لو جمعنا ما ألقته إسرائيل من متفجرات على غزة في قنبلة واحدة وفجرناها؟
  2. المقابلة مع علي الظفيري – أستاذ السياسة والفكر العربي الدكتور جوزيف مسعد.
  3. المكارثية الصهيونية تطارد جوزيف مسعد.
  4. المرجع السابق.
  5. Just another battle or the Palestinian war of liberation?
  6. Israel-Palestine war: Columbia professor faces calls for removal after op-ed analysis on war.
  7. A Columbia professor called Hamas terror attacks ‘awesome’ and ‘astounding’ in an article. A petition for his removal has passed 34,000 signatures.
  8. Israel-Palestine war: Columbia professor faces calls for removal after op-ed analysis on war.
  9. Columbia University professor describes Hamas terrorist attacks as ‘indigenous Palestinian resistance’.
  10. Columbia professor praises Hamas attacks on civilians.
  11. Columbia University refuses to condemn professor who called Hamas attack ‘awesome’.
  12.  Just another battle or the Palestinian war of liberation?
  13. المرجع السابق.
  14. المصدر نفسه
  15. The Balfour Declaration’s many questions
  16. Winston Churchill’s racist legacy in Palestine.
  17. حرب "إسرائيل" في جامعات الغرب.
المصدر : الجزيرة