شعار قسم ميدان

الحُكم أصعب من الحرب.. 4 تحديات تواجه طالبان بعد عام من سيطرتها على كابول

KABUL, AFGHANISTAN - AUGUST 15: Men ride on top of an armored vehicle during a celebration of the first anniversary of the Taliban's return to power on August 15, 2022 in Kabul, Afghanistan. A year after the Taliban retook Kabul, cementing their rule of Afghanistan after a two-decade insurgency, the country is beset by economic and humanitarian crises. Western governments have frozen billions of dollars in Afghan assets as it presses the Taliban to honor unmet promises on security, governance and human rights, including allowing all girls to be educated. (Photo by Nava Jamshidi/Getty Images)

قبل عام من الآن، كان العالم قد تطلَّع إلى حركة طالبان، بعدما نجح جيلها الثاني في محو انكسارات الرعيل الأول المؤسِّس الذي حكم أفغانستان بين عامَيْ 1996 إلى 2001، قبل أن يتمكَّن الغزو الأميركي من إزاحة الحركة برُمَّتها من الحكم، وإعادتها إلى بطون الجبال وقاع الوديان في الأطراف والبلدات المترامية، بيد أن النصر الأميركي كان في حقيقته وهما قصير الأمد؛ فلم يترك المسلحون أسلحتهم أبدا، وعلى مدى السنوات الماضية، ناشدت طالبان ثأرها، وخاضت مقاومة شرسة من دون أن تتمكَّن الحكومة المركزية الأفغانية، ومن ورائها ثلاثة رؤساء أميركيون، من إخضاعها بالقوة، ومع استحالة النصر العسكري، قرَّرت إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، التفاوض من أجل الرحيل، وتركت البلاد مرة أخرى في يد طالبان، ولكن الخريطة السياسية للبلاد وما حولها كانت قد تغيرت بالفعل عما كانت عليه في تلك الأيام الأولى.

 

في اللحظة ذاتها تقدَّمت طالبان خطوة إلى الإمام، فوجدت كلَّ ما حولها قد تحرَّك ضدها عدة خطوات تُجبرها على التروي إن لم يكُن العودة إلى الخلف. لقد بدا المشهد مُعقَّدا للغاية بالنسبة لها، لا سيما بعد أن أفرز الوجود الأميركي جيلا جديدا من الأفغان ذا هوية ليبرالية أكثر انفتاحا على الغرب، مقابل جيل آخر محافظ أكثر خبرة وتمرُّسا في الحروب وطرق السياسة يهيمن على صفوف الحركة ومؤيديها. وفي بلد سمتُه التعدُّد العِرقي والمذهبي، بل وتعدُّد الجماعات المُسلَّحة أيضا، لا يمكن لطالبان فرض شرعيتها الجديدة دون تفاوض، وإلا كرَّرت خطأها القديم نفسه بحذافيره. يُضاف إلى ذلك أن الوضع ليس أفضل حالا على مستوى العلاقات الخارجية، فعلى تخوم الإمارة الإسلامية تقف عدة دول مُتحفزة أهمها باكستان والصين وإيران ومن ورائهم الهند وروسيا، وجميعهم تحكمهم أيدولوجيات مختلفة ومصالح متنافرة، منها ما يُهدِّد الدولة الوليدة ومنها ما يمنحها نافذة لتنفُّس الصعداء سياسيا واقتصاديا. وعلى مدار العام الماضي -الأول لها في السلطة منذ 2001- احتفظت طالبان التي تحكم منفردة بزمام السلطة، لكنها أخفقت في تحقيق الاستقرار وكسب الشرعية الدولية، فقد استمرت عزلتها الدولية وجلبت معها شبح أخطائها القديمة حين حكمت البلاد في التسعينيات، كما واجهت مشكلات جديدة مستعصية في بنية الحكم بعد عشرين عاما من الاحتلال والحُكم المدعوم أميركيا.

 

الحكم أصعب من الحرب

Taliban leaders attend the first-anniversary ceremony of the takeover of Kabul by the Taliban in Kabul, Afghanistan, August 15, 2022. REUTERS/Ali Khara
قادة طالبان يحضرون مراسم الذكرى السنوية الأولى لحكم طالبان (رويترز)

في الساعات التي سبقت انتصار واقتحام مقاتلي طالبان القصر الرئاسي في كابول، هرب الرئيس الأفغاني السابق "محمد أشرف غني" خارج البلاد دون أن تسنده دبابات الجيش الأميركي. فرَّ الرجل الذي تعلَّم في أرقى الجامعات الغربية، وكان خبيرا في البنك الدولي، وللمفارقة متخصصا في برامج الفقراء. وبالمثل تتابعت مشاهد الفرار الجماعي لأُسَر أفغانية إلى الخارج، غير أن الطائرات الأميركية والبريطانية غادرت دون نقل جميع الفارين من الحكام الجُدد. كان من الواضح أن الحركة ستواجه أصعب أيامها، لأن الحكم دوما أصعب من الحرب.

 

لم تتغيَّر طالبان تغييرا جذريا كما قال بعض أنصارها عمَّا كانت عليه سابقا قبل عقدين من الزمان، وإن اكتسبت الخبرة السياسية والقدرة على المناورة والجلوس إلى طاولات المفاوضات. وبمقارنة إسقاطها للعاصمة كابول عام 1996 بدخولها كابول بعد الانسحاب الأميركي العام الماضي، نجد أن الجيش في المرتين انسحب إلى خارج المدينة اعتقادا منه بأن مقاومته لن تُغيِّر شيئا في مسار المعركة، وأن الأوان قد فات لاستدراك الموقف. على جانب آخر، تعلَّمت طالبان من أخطائها العسكرية السابقة وغيَّرت إستراتيجية القتال، مُركِّزة السيطرة على الأطراف وخنق المعابر الحدودية، وإحكام السيطرة على شرايين الاقتصاد الأفغاني، وخنق الموارد المالية للحكومة، وهي خطة أسقطت العاصمة كابول في غضون أسابيع.

 

بيد أن طالبان على ما يبدو لم تتعلَّم بعض الدروس من ماضيها. فلا يخفى على أحد رغبتها المُعلنة الآن في إعلان عودة الإمارة الإسلامية، ورفضها تقاسم السلطة مع القوى السياسية الأخرى، حتى إن حكومة تصريف الأعمال التي تشكَّلت بعد ثلاثة أسابيع من سيطرتها على العاصمة الأفغانية تشكَّلت حصرا من أفراد ينتمون إلى الحركة أو مقربين منها. علاوة على ذلك، أفرغت طالبان المؤسسات من أي دور للنساء مع تزايد الحديث عن تقييد تعليم الفتيات في تكرار للسياسات نفسها التي انتهجتها في التسعينيات. ولم تحدد الحركة موعدا محددا لانتهاء عملها وصولا إلى إجراء انتخابات رئاسية كما قالت ووعدت سابقا، كما عاد عمل وزارة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وهي واحدة من أقوى المؤسسات الدينية التي تمارس بها الحركة سيطرتها.

 

أعادت طالبان تشكيل الحياة السياسية إلى حد تعطيل الدستور نفسه الذي أُقِرَّ قبل 20 عاما. وحتى تلك اللحظة، رغم تشكيل حكومة من أعضاء الحركة، فإن الحكم والقرار المرتبط بمصير 40 مليونا من الأفغان يصدر حصرا من مكتب زعيم طالبان الحالي الشيخ "هبة الله أخوند زاده"، المقيم في ولاية قندهار بجنوب البلاد، وهو رجل قليل الظهور خوفا من تعرُّضه للاغتيال. وقد تنتهي على الأرجح تسوية الصراع الحالي بتسلُّمه رسميا مقاليد السلطة على غرار ما حدث سابقا للزعيم الروحي للحركة "الملا محمد عمر"، الرئيس الأفغاني الحادي عشر.

 

هل تتكرر الأخطاء القديمة؟

Taliban celebrates one year in power in Afghanistan
حركة طالبان في خضم عملية استنساخ لشكل إمارتها الإسلامية التسعينية من جديد (حتى الآن)، دون معالم واضحة على استيعاب دروس الماضي، خاصة فيما يتعلق بالحكم وإدارة البلاد. (الأناضول)

بدا سيناريو صعود طالبان السريع مُكرَّرا ومشابها إلى حدٍّ بعيد لما حدث في تجربتها الأولى في التسعينيات. فحين استيقظ العالم على إمارة أفغانستان الإسلامية، تفاجأ الجميع مما آلت إليه الأحداث ومن هشاشة الدولة القائمة، بل إن الحركة نفسها لم تتوقَّع انتصاراتها السريعة تلك ومن ثمَّ منحها ذلك ثقة مفرِطة في الانفراد بمقاليد السلطة دون أن تدرك أن مقاتليها الأشداء ليسوا بالضرورة على المستوى ذاته في الحُكم والإدارة. ولذا يبدو الآن أن رجال طالبان بصدد مهمة متناقضة لا تتماشى مع عقيدة "المقاتل المجاهد" الذي لم يكتسب خبرة جديدة سوى القدرة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع صناع القرار الغربيين، دون إحاطة بعد بمهام رجل الدولة في النظام الدولي الحديث القائم الآن. ولم يكن مفاجئا إذن أن تلجأ الحركة إلى تعطيل الدستور مرتين، وإلى إصدار القرارات عبر مجلس "شورى كويته"، الذي يضم قادة الصف الأول مجتمعين.

 

زاد الطين بلَّة هروب أعداد كبيرة من المسؤولين في الحكومة الأفغانية، وفي مختلف المؤسسات التابعة لها، وبعضهم من الكوادر العلمية في جميع المجالات، كما أن الباقي ممن لم يسعفه الهرب تعرَّض للإقصاء، وحلَّ بدلا منه مسؤولون جُدُد جاءوا من الحرب ليسوا بالخبرة ذاتها. وبينما احتكرت طالبان السلطة فعليا، فإنها ألقت بنفسها في غمار السياسة والفتوى والاقتصاد معا، علاوة على ممارسة السلطة العسكرية عبر مقاتليها دون تفرقة بالضرورة بين أولويات الجماعة المسلحة وضرورات تنظيم القوة المسلحة الحديثة لحُكم شتى ربوع أفغانستان بصورة مؤسسية حديثة.

 

أدَّت إنجازات طالبان في أرض المعركة في التسعينيات والعام الماضي على السواء إلى حُكمها البلاد بشروطها الخاصة بعد نصر سريع، فاحتكرت السلطة فعليا في وقت وجيز دون ضغط حقيقي يُجبرها على مشاركة السلطة أو التفاوض مع مَن أداروا الدولة قبلها. ونتيجة أيديولوجيتها الأصولية، فإن الحركة تجاهلت تماما إشراك القوى المختلفة المُكوِّنة للمجتمع الأفغاني، وعطَّلت شكل الدولة المعهود في المرتين. وبذلك تكون الحركة في خضم عملية استنساخ لشكل إمارتها الإسلامية التسعينية من جديد (حتى الآن)، دون معالم واضحة على استيعاب دروس الماضي، خاصة فيما يتعلق بالحكم وإدارة البلاد.

 

الشرعية الدولية والاقتصاد والاقتتال الأهلي والخلافات الداخلية

Historic intra-Afghan peace talks launch in Qatar- - DOHA, QATAR - SEPTEMBER 12: (----EDITORIAL USE ONLY – MANDATORY CREDIT - "US Department of State / HANDOUT" - NO MARKETING NO ADVERTISING CAMPAIGNS - DISTRIBUTED AS A SERVICE TO CLIENTS----) Participants are seen during intra-Afghan peace talks between the Afghan government and Taliban insurgents commenced in the Qatari capital Doha on September 12, 2020. The historic talks aim to end nearly two decades of armed insurgency in the war-torn country.
تتلخص خلافات الحركة في وجود فريق يرى أن طالبان وافقت في اتفاق الدوحة على شروط كثيرة يجب تنفيذها لأنها لن تحصل على الاعتراف الدولي بدونها، وهو ما يعارضه فصيل أخرى يرى في الشروط نسفا لمبادئ الحركة الأصولية (الأناضول)

هنالك أدلة قوية على أن الحركة الأفغانية تواجه تحديات خطرة فشلت فيها حتى الآن، وهي تدرك تمام الإدراك أن اقتفاء آثار تجربتها القديمة قد يودي بتجربتها الثانية، ولربما يحدث ذلك على يد القطاعات الكبيرة التي تعاطفت معها قبل أربعة عقود، وساعدتها على الوصول إلى ما هي فيه الآن. ويبدأ أول الملفات التي ستُحدِّد مصير الحركة من تأخُّر حصولها على الاعتراف الدولي حتى اللحظة رغم تفاوضها مع أطراف دولية عديدة طيلة العام الماضي. فقد تعرقلت مساعي الحركة للحصول على الشرعية الدولية مؤخرا نتيجة تشابكها مع جماعات وأجنحة وشخصيات مصنفة من قِبل الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية ضمن قوائم العقوبات الدولية.

 

من جهة ثانية، يأتي الملف الأمني باعتباره أحد أهم التحديات التي تواجه حكومة طالبان، إذ ينشط تنظيم "داعش" في شرق أفغانستان، ويصل عدد أعضائه الآن إلى أربعة آلاف عضو، وهو مُصنَّف رسميا بوصفه التهديد العسكري الرئيسي لطالبان. وبالإضافة إلى ذلك، تشكَّلت حركة مقاومة من مسؤولين سابقين وأعضاء ميليشيات محلية، ومن قوات الأمن الأفغانية أيضا، ممن يُطلقون على أنفسهم جبهة المقاومة الوطنية لمعارضة حكم طالبان، وهم يتخذون من جبال مدينة "بنجشير" عاصمة لتمركزهم. ورغم أنها ليست قوية بما يكفي حاليا لتهديد طالبان، فإنها تُعبِّر عن جماعات وقبائل كانت وما زالت غير راضية عن استئثار كابول بالسلطة، وستظل صداعا لطالبان ولو على المستوى المحلي، لا سيما إن حصلت على دعم مالي وسياسي من أطراف مناوئة لطالبان في المستقبل.

 

من جهة ثالثة، ثمة تحدٍّ داخلي آخر ينتظر طالبان. ففي اللحظة التي انتهت فيها الحرب، بدأ فيها صراع الأجنحة من داخلها، حيث يتصارع داخل الحركة تياران، أحدهما يُمثِّله مكتبها السياسي المهتم ببناء علاقات دولية والحصول على اعتراف خارجي، والآخر يُعبِّر عنه جناحها العسكري المتمسك بأصولها التي تبنَّتها عند التأسيس. ويقول مصدر من الحركة للجزيرة نت: "نتيجة للصراعات الداخلية انسحب اثنان من وزراء الحكومة التي شُكِّلَت بعد السيطرة على كابل، وهما وزير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووزير التجارة". وتتلخص الخلافات في وجود فريق يرى أن طالبان وافقت في اتفاق الدوحة على شروط كثيرة يجب تنفيذها لأنها لن تحصل على الاعتراف الدولي بدونها، وهو ما يعارضه فصيل أخرى يرى في الشروط وما تؤدي إليه من انفتاح سياسي واجتماعي نسبي نسفا لمبادئ الحركة الأصولية، وربما تهديدا لشعبيتها في صفوف قطاع لا بأس به من قواعدها الاجتماعية التي يخشى البعض في طالبان أن تنشق عنها أو أن تنضم إلى داعش في أسوأ الأحوال.

وأخيرا، تأتي الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت منذ تولِّي الحركة بسبب عُزلتها الدولية، خاصة مع تجميد احتياطيات أفغانستان من العملات الأجنبية. ومن ثمَّ يلوح الآن خطر المجاعة في أفغانستان، فقد قدَّرت الأمم المتحدة أن 97% من المواطنين الأفغان قد يصبحون تحت خط الفقر قبل نهاية العام الجاري.

 

في نهاية المطاف، هناك أربعة ملفات تصنع كابوسا لطالبان، بل وبات مصير الحركة مرهونا بحلِّها، هي الاعتراف الدولي، والاقتصاد الذي ترتبط عُقَده بالاعتراف الدولي، وتأسيس حُكم موحَّد يُعبِّر عن جميع أطياف الأفغان، ومواجهة الانقسام الداخلي للحركة المرتبط هو الآخر بالملفات السابقة كافة، ويرتبط أيضا بالقدرة على مواجهة الجماعات المسلحة المناوئة لها وعلى رأسها داعش، والأيام القادمة وحدها ستُنبئنا ما إن كانت طالبان ستنجح في إحداث مواءمة داخل صفوفها لتنفيذ ما ينبغي من أجل حلحلة هذه الملفات، أم أن المشروع الوليد ستنفك عُراه سريعا تحت وطأة تلك التحديات رغم ما أحدثه العام الماضي من انتصارات عسكرية سريعة نحو العاصمة كابول.

المصدر : الجزيرة