شعار قسم ميدان

من رأس سدر إلى القُدس.. هذه أبشع مجازر إسرائيل بحق الأسرى المصريين

"عند رؤيتنا، بدا السجناء مرعوبين للغاية، لقد اعتقدوا بأننا سنرسلهم إلى فرقة الإعدام". هكذا وصف اللواء "حسن الجندلي"، رئيس العمليات السابق بالجيش المصري، نحو 150 أسيرا من أسرى الحرب الإسرائيليين في المعسكرات المصرية عام 1973 في خضم حرب أكتوبر. ورغم أنه لم يثبت حتى يومنا هذا أن مصر تعاملت مع أي أسرى إسرائيليين بما يخالف مواثيق جنيف، بل وعالجت بنفسها المرضى من الأسرى كما أورد الجندلي سابقا، فإن رُعب الإسرائليين لم ينمَّ عن اعتقادهم بأن مَن يقع في يد الجيش المصري تجري تصفيته، بل عن علمهم بما فعلته قواتهم بأسرى الحرب المصريين والعرب طيلة حروبهم من مجازر، وخشيتهم من ملاقاة مصير مشابه إذا ما انطبقت عليهم قاعدة "المعاملة بالمثل". وقد تعدَّدت المجازر والمذابح الإسرائيلية بحق الأسرى حتى بدا جليا أنها تعكس سياسة مُمَنهجَة تركت آثارها على الأرض، وخلَّفت مقابر جماعية عديدة ما انفكت تكشف عنها أراضي فلسطين وشبه جزيرة سيناء على مرِّ السنين.

رأس سدر.. خاتم زواج وجواب لم يصل

"في صبيحة التاسع من يونيو/حزيران، أُنزلت فرقة من قوات المظلات الإسرائيلية إلى مدينة رأس سدر، واستولت من فورها على الموقع، وقد انضمت لاحقا إلى قوات من الإسماعيلية وأخرى انطلقت من شرم الشيخ للاستحواذ على شاطئ خليج السويس بالكامل يومي 8 و9 يونيو/حزيران، وهي تحركات أتمَّت مهمة السيطرة على شبه جزيرة سيناء". هكذا أعلنها المتحدِّث الرسمي باسم القوات الإسرائيلية أثناء حرب يونيو/حزيران 1967، تاليا على أسماع مواطنيه أنباء النصر الأهم في تاريخ دولة الاحتلال. بيد أنه لم يأتِ على ذِكر الجريمة المروِّعة التي ارتكبتها دولته للتوِّ على أرض سيناء مخالفة الأعراف الدولية كافة.

علم المخرج التلفزيوني الإسرائيلي "رام لويفي" بأمر المذبحة بعد الحرب بوقت وجيز من ضباط بقوات المظلات في الوحدة العسكرية التي عمل بها، وبعد أن أبلغ قسم التحقيقات الجنائية بالجيش الإسرائيلي أُعفي من عمله بالوحدة، وبقيت الجريمة طي الكتمان. مجددا، وبُعَيد الحرب أيضا، عمل المؤرِّخ العسكري الإسرائيلي "أرييه إسحاقي" في قسم التاريخ بالجيش الإسرائيلي، وقال إنه جمع شهادات من عشرات الضباط الذين أقرُّوا بقتل أسرى الحرب المصريين. ومن ثمَّ رفع "إسحاقي" تقريرا إلى رؤسائه في العمل آنذاك عن القضية، بيد أن التقرير لم يبرح مكانه في أحد مخازن مقر الجيش الإسرائيلي، كما أوردت صحيفة "واشنطن بوست" عام 1995.

احتجنا إلى سنوات وسنوات حتى كشفت رمال سيناء نفسها عن رفات الجنود وأمتعتهم. ففي عام 2000، وجد عُمَّال مصريون في سيناء مقبرة تضم جثث 52 جنديا مصريا قتلهم جنود الاحتلال رميا بالرصاص، ونشرت صحيفة "الوفد" المصرية حينئذ صورَ رفات الجنود على صفحاتها مع بعض أمتعتهم، ومنها ساعة وخاتم زواج وخطاب كتبه أحد الجنود إلى أسرته ولم يصِل. وأفادت "الوفد" أن السلطات عثرت على بعض الجماجم وبها آثار رصاصات اخترقتها، مما يؤكِّد أنها رفات أسرى تمت تصفيتهم. وتفاعلا مع الاكتشاف الذي هزَّ الرأي العام المصري وقتها وألقى بظلاله على العلاقات بين مصر وإسرائيل، أنكر "يشياهو جافيش"، قائد الجبهة الجنوبية الإسرائيلية في الحرب، معرفته بالجريمة، وأصرَّ على أن دخول "رأس سدر" تمَّ دون قتال بعد انسحاب الجيش المصري.

بعد ستة أعوام، ظهرت إلى النور روايات مغايرة كذَّبت "جافيش"، حين تحدَّث ضباط وجنود إسرائيليون على صفحات "هآرتس" عام 2006 عن تفاصيل الجرائم التي ارتكبوها وشهدوها. وبدوره، عاد المخرج "لويفي" بما في جعبته من حقائق، وأجرى حوارا مع الموقع الإسرائيلي "تقريب" (Takriv) في يناير/كانون الثاني الماضي، وروى تفاصيل المحاكمة التي جرَّدت القائد العسكري الميداني الذي نفَّذ جريمة "رأس سدر" من رُتبته، وتركت قائده المُباشر الذي أعطاه الأوامر حُرًّا حتى صار رئيسا للأركان فيما بعد. (يقصد "موشيه لِفي" الذي قاد عملية دخول "رأس سدر" في حرب 1967 وصار رئيسا للأركان عام 1983)*.

"بعد بضع ساعات (من أسر الجنود المصريين)، صدرت أوامر لقوات المظلات الإسرائيلية بالعودة إلى الشمال، وأتت قوة مُدرَّعة لتحلَّ محلَّهم. وقد طُرِح السؤال حيال الأسرى والعمل معهم. فقد رفض ضباط المظلَّات إطلاق سراحهم، في حين رفضت القوة المُدرَّعة التكفُّل بحمايتهم، ومن ثمَّ صدر الأمر (بقتلهم). أُوقِف الأسرى في صفوف من ثلاثة، ووقفوا بظهورهم إلى الجنود (الإسرائيليين)، وأُطلقت النيران عليهم جميعا، ثم جلبت القوة المُدرَّعة (الإسرائيلية) جرَّافة آلية (بلدوزر)، وحفرت حفرة كبيرة، وألقت بالخمسين جثة فيها وغطتهم بالتراب".

مصاحف وسُترات ورُفات

على مدار العقود الماضية، احتفظت كثبان الصحارى في سيناء وفلسطين بجثامين الشهداء الذين قُتلوا في الحروب العربية-الإسرائيلية، لا سيما حرب يونيو/حزيران 1967، حين دفع آلاف الجنود ثمن الانسحاب غير المُخطَّط؛ فوجدوا أنفسهم في قلب الصحراء بلا عتاد ولا مداد ولا غطاء جوي، فريسة للإسرائيليين الذين رأوهم يتجوَّلون في الصحراء عطشى وجوعى، ومن ثمَّ قرَّروا قتلهم بعد أن استسلموا للقوات الإسرائيلية. وقد ظلَّ المصريون يكتشفون المرة تلو المرة العشرات من السُّترات العسكرية هنا وهناك في سيناء، التي أنبأتنا بجريمة إسرائيلية قديمة (من حيث وقوعها) وجديدة (من حيث معرفتنا بها) لإضافتها إلى سجل جرائم الاحتلال. وآخر تلك الاكتشافات ما وجده مواطن مصري عام 2008 أثناء وضع حجر أساس لمنزل جديد بمدينة "الشيخ زويد" في شمال سيناء، حيث كشفت له أرض سيناء عن رفات 120 جنديا مصريا بلباسهم العسكري.

في العام نفسه، قاد فلسطينيو الداخل المُحتل (عرب 48) حملة لتحريك الرأي العام بعد اكتشافهم مقبرة قُرب مدينة "إيلات" في جنوب دولة الاحتلال، التي حَوَت هي الأخرى رفات العشرات من الجنود المصريين. وقد قادت تلك الحملة مؤسسة الأقصى لإعمار المقدسات الإسلامية، التي حظرتها دولة الاحتلال عام 2015، إذ أوضحت المؤسسة آنذاك أن المقبرة ضمَّت رفات جنود اخترقت الرصاصات ملابسهم العسكرية وظلوا محتفظين بالمصاحف والشارات العسكرية وقِطع من السلاح الأبيض حتى لفظوا أنفاسهم الأخيرة. وفي عام 1995، روى "عبد السلام موسى"، المرشد السياحي الذي خدم في الجيش المصري برُتبة رقيب أثناء حرب 1967، كيف أُجبِر على دفن بعض الجنود بعدما وقع أسيرا، ثمَّ دلَّ السلطات على مقبرتين دفن فيهما بنفسه جنودا بعد أن قتلهم جنود الاحتلال، وكانت إحدى المقبرتين بالقُرب من قاعدة جوية مصرية سابقة على بُعد نحو خمسة كيلومترات من مدينة "العريش"، والأخرى على بُعد نحو 30 كيلومترا من المدينة.

لا تقتصر جرائم إسرائيل بحق الأسرى على حرب 1967، فقد كشفت مقابر عدة عن جرائم شبيهة ارتكبتها دولة الاحتلال الوليدة عام 1956 أثناء حرب السويس المعروفة بالعدوان الثلاثي، التي شنَّتها إنجلترا وفرنسا وإسرائيل بعد أن أعلن الرئيس المصري "جمال عبد الناصر" تأميم قناة السويس. وأفادت صحيفة "هآرتس" نفسها عام 2000 على لسان الجنرال الإسرائيلي المتقاعد "أرييه بيرو" أن عددا من حوادث القتل "غير الضرورية" وقعت أثناء حرب 1956 وراح ضحيتها مئات الجنود المصريين، وأن "بيرو" أشرف بنفسه على قتل 49 مصريا. وقد عرفت مصر سابقا ببعض تلك الجرائم، ففي عام 1997، أذاعت "هيئة الإذاعة البريطانية" (BBC) مؤتمرا صحافيا عقدته منظمة حقوق الإنسان المصرية، حيث أعلن رئيسها آنذاك "محمد منيب" أن المنظمة لديها تقرير عن "شهادات موثَّقة من عدد من الجنود والضباط المصريين الذي شهدوا بأنفسهم قتل أسرى الحرب المصريين بواسطة القوات الإسرائيلية عامي 1956 و1967".

ورغم أن أعداد المفقودين في الحربَيْن لم تُعرف أبدا على وجه الدقة، فإن هناك أرقاما أصدرتها بعض الهيئات الدولية تُشير إلى أن إسرائيل قتلت بين 7000 إلى 15000 أسير حرب مصري خلال حربَيْ 1956 و1967، دون أن تُخطِر أي جهة دولية بمواقع المقابر التي دفنت فيها الجثث، ومن ثمَّ بقيت آثار جرائمها مدفونة في رمال سيناء وفلسطين؛ شاهدا تحت الأرض بانتظار مصادفة تكشف عنها وتُضيفها إلى قائمة مئات الجرائم التي ارتكبتها وشهدها العرب فوق الأرض طيلة العقود الماضية.

اللطرون.. جريمة مدفونة أسفل حديقة "ميني إسرائيل"

مع مرور قرابة خمسة عقود على آخر حروب دولة الاحتلال الإسرائيلي مع المصريين (عام 1973)، لربما اعتقد البعض أن سجل الجرائم الإسرائيلية بحق الأسرى المصريين في سيناء وفلسطين قد وارى الثرى. بيد أن تراب القدس هو مَن كشف النقاب هذه المرة عن مجزرة جديدة بحق قوات الصاعقة المصرية لم يعد إخفاؤها بالسهولة نفسها التي أُخفيت بها أول مرة. ففي يوليو/تموز الحالي، سرت الأنباء عن آثار مجزرة وقعت أثناء حرب 1967 على أرض القدس المحتلة في موقع "اللَّطرون"، وتحكي التفاصيل أن نحو 20 جنديا مصريا قُتلوا في هجوم بعد أن أقدم الاحتلال على حرقهم أحياء، ودُفنوا في مقبرة جماعية مع 60 آخرين، وأن جثثهم الآن تقع أسفل حديقة شعبية تُسمى "ميني إسرائيل".

وفقا للرواية التي وثَّقها تحقيق استقصائي في صحيفة "هآرتس"، قرَّر الرئيس المصري "عبد الناصر" والملك الأردني "الحسين بن طلال" نشر وحدة من قوات الصاعقة التابعة للجيش المصري، وقوة صغيرة من الفيلق الأردني، في جيب اللَّطرون شمالي القدس عام 1967، وهي منطقة تم الاتفاق بين إسرائيل والأردن على تحويلها إلى منطقة محظورة في أعقاب حرب 1948، قبل أن تحتلها إسرائيل في حرب 1967. ولكن بعد معركة قصيرة دارت أثناء حرب 1967، وقبل أن تبدأ قوة الصاعقة المصرية مهمتها التي أُوكلت إليها داخل إسرائيل صبيحة الحرب، التي قضت بالاستيلاء على القواعد الجوية في مُدُن "اللد" و"تل نوف" و"الرملة"، اكتشف جنود الاحتلال مُخطَّط القوات المصرية. وبعد انهيار الجيوش العربية المفاجئ ومن ثمَّ غياب القيادة في يوم وليلة، بات سهلا اكتشاف أمر القوة المصرية التي اخترقت إسرائيل والإجهاز عليها.

وقع الاشتباك في 6 يونيو/حزيران 1967، واضطرت قوة الصاعقة المصرية للاختباء في حقول مجاورة لمستوطنة "كيبوتس" إسرائيلية اسمها "نحشون" غربي القدس. وبعد ثلاثة أيام من اكتشاف مخبئهم، حاصرت كتيبة مشاة إسرائيلية الجنودَ ثم أطلقت قذائف الهاون والفسفور لحرقهم. وقد قُتل حينذاك نحو 25 من الجنود بسبب الحريق، وأدى تبادل إطلاق النار الإضافي حينها إلى ارتفاع عدد القتلى المصريين إلى نحو 80 وفقا لتحقيق "هآرتس". لقد كانت المجزرة مُرعبة على حد قول الإسرائيليين الذين شهدوها أنفسهم، حيث تناثرت الجثث على طول الطريق بعد أن نهب الإسرائيليون متعلَّقات أصحابها. وفي اليوم التالي، جاء جنود الاحتلال بجرَّافات إلى موقع المجرزة وحفروا قبرا يسع الجثامين ثم دفعوا بالجثث المصرية فيه وغطوا جريمتهم بالتراب.

كتب "رامي يزرائيل"، أحد قاطني مستوطنة "نحشون" الذي شارك في الجريمة وشهدها: "شعرت برائحة كريهة من المقبرة الجماعية الكبيرة لقوات الصاعقة، واكتشفت ذراعين ورجلين مقطوعتين لأحد الضباط المصريين، لعلَّها (انقطعت) بعد أن أصابتهم المتفجرات وأردتهم أشلاء، ثم دفتنها بمجرفة". في تسعينيات القرن الماضي، حاول عضو آخر من "نحشون" يُدعَى "دان مئير" الحديث مع الإعلام عن تلك الجريمة، لكن الرقيب العسكري، وهو وحدة تابعة للمخابرات العسكرية الإسرائيلية، منع نشر تصريحاته الإعلامية. وقد قال "مئير" في مقابلة محظورة حينئذ: "في اليوم التالي لعملية الدفن، شاهدت كومة كبيرة من التراب، وأدهشني أن الجيش لم يُحدِّد موقع القبر، بل ولم يضع حتى لافتة صغيرة".

العلاقات الوطيدة في قبضة الماضي المرير

"لم يكن لديَّ القوات لحراسة الأسرى، وكان علينا الانتقال إلى رأس سدر، لذا قررت تصفيتهم.. في ظل الظروف نفسها، أعتقد أنني سأفعل الشيء ذاته مرة أخرى". هكذا روى الجنرال الإسرائيلي المتقاعد "أريه بيرو" عام 1995 تفاصيل إعدام 49 جنديا مصريا أسيرا عندما قاد بنفسه كتيبة مظلات إسرائيلية في حرب 1956، وقد برَّر جريمته بدواعٍ عدة واهية، منها أن جنوده تعرَّضوا للسخرية من قِبَل الأسرى المصريين، علاوة على انشغاله بالمهام العسكرية التي وقعت على عاتقه ولم تكن تسمح له بالعناية بالأسرى، وخوفه من أن يُبلِّغ الجنود المصريون بعد إطلاق سراحهم عن موقع قواته للجيش المصري. وقد ظهر "بيرو" متماسكا وهو يُدلي باعترافاته المصوَّرة، فألمح تارة إلى إمكانية الكشف عن المزيد من الأسرار العسكرية لحرب السويس، وهدَّد تارة أخرى بفضح مَن تُسوِّل له نفسه إيذاءه من المسؤولين الإسرائيليين.

(Getty)

 

اشتعل الرأي العام المصري حينها وطالب بتعويض مالي واعتذار رسمي ومحاكمة للمتهمين، وتحرَّك الصحافيون المصريون من القاهرة نحو سيناء في رحلة استكشافية للبحث عن رفات الأسرى، فعثروا على مقبرتين جماعيتين قُرب العريش بهما رفات ما يقرب من 90 شخصا. وقد تناول "حديث المدينة"، البرنامج المصري الشهير في التسعينيات، رأي الشارع المصري الذي طالب بضرورة محاكمة وسجن الإسرائيليين الذين ثبتت إدانتهم بقتل أسرى الحرب، كما هاجمت صحف مصرية بالمقالات والرسومات جرائم إسرائيل بحق الجنود المصريين.

أدركت تل أبيب أن قتل المصريين العُزَّل قد يُثير مشكلات خطيرة في العلاقة مع أول دولة وقَّعت معها معاهدة سلام، لكنها بقيت مطمئنة إلى أن الأزمة ستظل محدودة، وأن كل ما تحتاج إليه هو نزع فتيلها بالتفاهم مع الرئيس المصري وقتها "محمد حسنى مبارك"، الذي استمسك بمعاهدة كامب ديفيد بطبيعة الحال، لكنه سمح للشارع المصري بالتعبير عن غضبه حيال إسرائيل طيلة سنين عهده في إطار محدود. وزاد الطين بلَّة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك كان "إسحاق رابين" بنفسه، وهو رئيس الأركان الإسرائيلي وقت ارتكاب جرائم الحرب الإسرائيلية عام 1967. وقد خرج مكتب "رابين" حينئذ ببيان قال فيه: "إن قوات الدفاع الإسرائيلية حازت مجدها بوصفها جيشا ذا حسٍّ إنساني وهبَ (الله) جنودَه قِيَما أخلاقية مميزة"، مُشيرا إلى أنه يُندِّد بأي جرائم وقعت حينها، وأنها ليست سوى "حوادث مُنعزلة".

 

مع نمو العلاقات بين الجانبين على نحو غير مسبوق في عهد السيسي، لا يُستبعَد أن تعتذر إسرائيل عن الحادث وتُعيد رفات الجنود في إطار اهتمامها باحتواء الاستياء المصري والحفاظ على العلاقة الجيدة مع القاهرة. (مواقع التواصل الاجتماعي)

مرة أخرى يُعيد التاريخ نفسه مع الكشف مؤخرا (يوليو 2022) عن جريمة اللطرون، التي ألهبت قلوب المصريين من جديد على ما لحق بأبنائهم. وفي هذه المرة، أخذت القاهرة مباشرة زمام المبادرة قبل أن يتأجج الرأي العام، وطالبت دولة الاحتلال بإجراء تحقيق كامل وشفاف بشأن القضية، في غياب أي آثار للاحتجاج الشعبي بسبب عدم تسامح السلطات مع هذا النوع من التعبير. ومع أن القاهرة من حقها في إطار دعوى المسؤولية الدولية أن تطالب إسرائيل بالكشف عن الحقائق ودفع التعويض الملائم لها وللضحايا، يبدو أن تل أبيب واثقة بأن القيادة المصرية الحالية حريصة على حماية علاقاتها الجيدة مع إسرائيل مثلها مثل مبارك.

وقد ذهب الكاتب الإسرائيلي "يوسِّي مِلمان" إلى أن السماح بنشر الحقائق عن هذه المجرزة في إسرائيل الآن إنما يُشير إلى ثقة تل أبيب بأن العلاقات مع القاهرة قوية بما فيه الكفاية لمنع حدوث أي أزمة أو ضرر يُحدِث قطيعة كُبرى أو يُجبر إسرائيل على مواجهة التبعات القانونية لجرائمها. ومع نمو العلاقات بين الجانبين على نحو غير مسبوق في عهد السيسي، لا يُستبعَد أن تعتذر إسرائيل عن الحادث وتُعيد رفات الجنود في إطار اهتمامها باحتواء الاستياء المصري والحفاظ على العلاقة الجيدة مع القاهرة. ولذا، أجرى رئيس الوزراء الإسرائيلي "يائير لَبيد" مكالمة هاتفية في 10 يوليو/تموز مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لإبلاغه باكتشاف المقبرة الجماعية للجنود المصريين، فيما قال المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية إن "لَبيد" أصدر تعليماته لسكرتيره العسكري كي يبحث القضية بدقة ويُبلِغ السلطات المصرية بتطوُّراتها، كما تحدَّث وزير الدفاع الإسرائيلي "بيني غانتس" مع رئيس المخابرات المصرية "عباس كامل"، وقال عن المكالمة في تغريدة على موقع "تويتر": "لقد تناولت التقارير المتعلقة بمقابر الجنود المصريين الذين قاتلوا في حرب الأيام الستة، وأكَّدت للمدير "كامل" أن مؤسسة الدفاع ستدرس القضية باحترام كبير".

بيد أن الرياح تجري أحيانا بما لا تشتهيه السفن، إذ تزامن مع فتح ملف جريمة اللَّطرون اشتعال النيران مُجددا في قطاع غزة بين حركة الجهاد الإسلامي وقوات الاحتلال، وهو ما نجم عنه توتُّر إضافي بين القاهرة وتل أبيب بسبب ما أفادت تقارير أنه تقاعس إسرائيلي عن تنفيذ تعهُّداتها السابقة لمصر أثناء وساطة الأخيرة بين غزة وإسرائيل العام الماضي، حين اشتعلت الحرب بين حماس وقوات الاحتلال. بينما تناقلت وسائل الإعلام خبر إلغاء رحلة "عباس كامل" إلى إسرائيل، وسرت التكهُّنات بأن العلاقات ليست على ما يُرام، لا يبدو واضحا بعد ما إن كانت العلاقة قد توتَّرت ولو لفترة وجيزة بسبب نيران الإسرائيليين في غزة اليوم، أم بسبب رصاصاتهم في القدس بالأمس، أم كليهما (أوفدت إسرائيل لاحقا رئيس الشاباك إلى مصر مُعترفة بوجود أزمة مع القاهرة*. وحدها الأيام ستكشف إلى أي مدى سيؤثر التوتر الأخير على ما حازته إسرائيل من علاقة مميزة مع مصر، وإلى متى سيدوم، وما إن كانت رغبة إسرائيل بالحفاظ على صداقتها مع القاهرة ستُجبرها على تسوية ما تَعقَّد من خيوط بينهما بخصوص الحاضر والماضي معا؛ تسوية قد يعود معها ولو القليل من الاعتبار لشهداء الجيش المصري في القدس.

المصدر : الجزيرة