شعار قسم ميدان

كولومبيا في قبضة اليسار.. هل خرجت أميركا اللاتينية من عباءة واشنطن إلى الأبد؟

في انتصار تاريخي لليسار، فاز المرشَّح "غوستافو بيترو"، رئيس بلدية العاصمة بوغوتا السابق، في جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية في كولومبيا في 19 يونيو/حزيران 2022، بعدما حصل على 50.4% من الأصوات مقابل 47.3% لمنافسه مرشَّح اليمين المستقل "رودولفو هيرنانديز". وبهذا الانتصار أصبح "بيترو"، الذي كان ينتمي إلى إحدى حركات التمرد اليسارية في الثمانينيات، أول رئيس يساري في تاريخ كولومبيا. ورغم أن حكومات اليسار لا تُعَدُّ ظاهرة جديدة على أميركا اللاتينية، فإن كولومبيا ظلَّت هي الاستثناء دوما؛ حيث هيمن يمين الوسط تاريخيا على مؤسسة الحكم في البلاد، وهو أحد الأسباب التي عزَّزت موقع كولومبيا حليفا رئيسيا للولايات المتحدة.

قدَّم "بيترو" برنامجا سياسيا يساريا يفتح المجال لتحوُّل ملموس في السياسة الداخلية والخارجية لكولومبيا يُمثِّل الانتقال إلى الطاقة النظيفة إحدى ركائزه؛ إذ يتعهَّد بإلغاء التراخيص الجديدة للتنقيب عن النفط، وإلغاء الحوافز الضريبية لمستثمري النفط والتعدين. كما يشمل البرنامج إصلاحات جذرية وإعادة توزيع الثروة ودورا أكبر للدولة في الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي لمواجهة غياب المساواة الاقتصادية. فبينما حقَّقت البلاد معدلات نمو اقتصادي قوية نسبيا خلال العقدين الماضيين، وظهرت بوصفها واحدة من الوجهات الاستثمارية الأكثر جاذبية في أميركا اللاتينية، يعاني ما يقرب من نصف السكان من الفقر، كما أن الحصول على مستوى جيد من التعليم العالي والرعاية الصحية يُعَدُّ أمرا صعبا ومحدودا.

تعهَّد "بيترو" كذلك بزيادة الضرائب على أغنى 4 آلاف أسرة (5% فقط من السكان يدفعون ضرائب على الدخل الشخصي) وفرض ضريبة على أرباح الشركات من أجل تمويل الإنفاق الاجتماعي للسكان الفقراء. وأعلن التزامه بتسريع تنفيذ اتفاق السلام الموقَّع بين الحكومة الكولومبية وحركة القوات المسلحة الثورية المتمردة "فارك" (FARC) عام 2016، الذي أنهى خمسة عقود من الحرب بين الجانبين.

من غير المرجَّح أن يدعم الكونغرس برنامج "غوستافو بيترو" السياسي بصورة كاملة، وهو ما سيحد من قدرته على الوفاء بالكثير من وعوده.

لكنّ فوز "بيترو" بفارق ضئيل عن منافسه يُسلِّط الضوء على الاستقطاب الكبير في كولومبيا، كما أن الكونغرس الكولومبي المفتَّت بين القوى السياسية يُمثِّل تحديا رئيسيا للرئيس المُنتخَب؛ إذ يُشكِّل ائتلاف "الميثاق التاريخي" الذي ينتمي إليه "بيترو" 23% فقط من مقاعده، بينما تمتلك الأحزاب اليمينية 60% من المقاعد.

لذلك، من المرجَّح أن تصبح سياسة الانتقال إلى الطاقة النظيفة في مقدمة قضايا الخلاف الرئيسية بين الرئيس المنتخب من جهة، والأحزاب اليمينية ومستثمري النفط من جهة أخرى، خاصة أن صادرات النفط توفر عائدات حكومية رئيسية وفرصا للاستثمار والتوظيف، حيث شكَّلت أكثر من 40% من إجمالي الصادرات، ونحو 20% من الإيرادات الضريبية عام 2021، ونحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي.

وبصورة عامة، من غير المرجَّح أن يدعم الكونغرس برنامج "بيترو" السياسي بصورة كاملة، وهو ما سيحد من قدرته على الوفاء بالكثير من وعوده، ومن ثم يمكن أن يؤدي إلى تراجع شعبيته وزيادة مخاطر الاضطرابات الاجتماعية. لذا قد يلجأ الرئيس الجديد إلى تقديم تنازلات بشأن مقترحاته من أجل الحصول على دعم كافٍ من الكونغرس.

إعادة ضبط العلاقات مع واشنطن

الرئيس الكولومبي المنتخب "غوستافو بيترو" (يمين) ونائب مستشار الأمن القومي الأمريكي "جوناثان فينر" في بوغوتا. (رويترز)

تَعتبر واشنطن كولومبيا أهم حليف إستراتيجي في أميركا الجنوبية ومنطقة الكاريبي؛ حيث قدَّمت الولايات المتحدة أكثر من 13 مليار دولار من المساعدات العسكرية والاقتصادية لبوغوتا منذ عام 2000. وفي عام 2017 أصبحت كولومبيا أول دولة في أميركا الجنوبية تحصل على وضع "الشريك العالمي" لحلف شمال الأطلسي "الناتو". وأعلنت أميركا في مارس/آذار الماضي تصنيف كولومبيا حليفا رئيسيا من خارج الناتو. وفي الجانب الاقتصادي، أدَّت اتفاقية التجارة الحرة بين واشنطن وبوغوتا في عام 2012 إلى توسيع التجارة بين الجانبين لتصبح الولايات المتحدة الشريك التجاري الأول لكولومبيا.

بالنظر إلى أجندته السياسية، فإن فوز "بيترو" يعني أن علاقات واشنطن القوية مع بوغوتا يمكن أن تتعرَّض لاختبار. وفي حين دعمت واشنطن حملات مكافحة التمرد ومكافحة الاتجار بالمخدرات في العقدين الماضيين، فإن الرئيس الجديد وعد بإعادة تقييم هذا التعاون مع واشنطن، كما دعا إلى إعادة التفاوض على أجزاء من اتفاقية التجارة الحرة بهدف دعم المزارعين والصناعات المحلية. وإضافة إلى ذلك، فإن سياسة التحوُّل إلى الطاقة النظيفة ستنعكس سلبا على مصالح شركات النفط الأميركية التي تلعب دورا مهما في قطاع الطاقة في كولومبيا. أخيرا، من المرجَّح أن يُعيد "بيترو" العلاقات الدبلوماسية مع حكومة "مادورو" في فنزويلا بعد أن قُطعت في عام 2019 بتشجيع من واشنطن.

لكن كان من اللافت في خطاب الموافقة الذي ألقاه عقب فوزه أن "بيترو" لم يُدلِ بأي تعليقات تُشير إلى أنه سيتخذ نهجا عدائيا تجاه الولايات المتحدة. وثمة شك واسع في أنه سيفعل ذلك في ظل الشراكة الاقتصادية والأمنية طويلة الأمد، واعتماد البلاد الواسع على تدفق أموال القطاع الخاص الأميركي. ومن المرجَّح تماما أن واشنطن ستنتهج أيضا سياسة منفتحة للتعامل مع الرئيس الجديد، حيث سارع وزير الخارجية الأميركية "أنتوني بلينكين" إلى تهنئة "بيترو"، وقالت واشنطن إن لديها العديد من نقاط الاتفاق مع اليسار القادم.

وحتى مسألة استعادة العلاقة مع فنزويلا من الممكن أن تمضي دون إثارة غضب واشنطن بصورة كبيرة؛ فقد جدَّدت الحرب في أوكرانيا اهتمام الولايات المتحدة نفسها بإصلاح العلاقات مع فنزويلا، حيث أجرت واشنطن محادثات مباشرة مع نظام "مادورو"، ودعمت استئناف الحوار بين النظام والمعارضة، وخفَّفت العقوبات النفطية على فنزويلا للسماح بصادرات محدودة إلى إسبانيا وإيطاليا. وتبدو البيئة الحالية هي الأكثر ملاءمة لاحتواء التوترات الأميركية الفنزويلية منذ سنوات.

يُدرك "بيترو" حاجة كولومبيا إلى الحصول على مساعدة فنزويلا في السيطرة على الهجرة ومكافحة التجارة غير المشروعة عبر الحدود. وقد أعلن بالفعل في 23 يونيو/حزيران أنه اتصل بالحكومة الفنزويلية بشأن إعادة فتح الحدود بين كولومبيا وفنزويلا، التي أُغلِقت منذ عام 2015. وبينما سيمضي في استعادة العلاقات مع فنزويلا، فإن "بيترو" على الأرجح سيسعى لعدم تأثير ذلك على علاقات الشراكة مع واشنطن والاستمرار في تلقي الدعم الاقتصادي والأمني.

وبالمثل، فليس لدى الولايات المتحدة بدائل جيدة لضمان نفوذها في أميركا الجنوبية ومنطقة الكاريبي الذي طالما وفرت كولومبيا إحدى أهم ركائزه؛ لأن من المبكر تماما تصوُّر أن فنزويلا يمكن أن تحل محل كولومبيا، أي إن التوقعات بشأن انقسام قريب بين الولايات المتحدة وكولومبيا تبدو غير مرجَّحة؛ لأن الهيمنة على الكاريبي ستظل أولوية جيوسياسية للولايات المتحدة لا تقبل المساومة.

بعيدا عن الراديكالية.. يسار أميركا اللاتينية الجديد

في حالتَيْ "بيترو" و"بوريك". فصعود اليسار الجديد لا يُمثِّل نسخة أيديولوجية تقليدية بقدر ما يتبنَّى نهجا أكثر واقعية لتلبية الاحتياجات الاقتصادية. (مواقع التواصل)

يُعَدُّ فوز "بيترو" هو الحلقة الأحدث لتداعيات سياسية واجتماعية لجائحة كوفيد في أميركا الجنوبية، حيث ضرب الوباء اقتصادات هذه المنطقة بشكل عنيف، نتج عنه خروج 12 مليون شخص من الطبقة الوسطى في عام واحد. لذلك، عاقب الناخبون في جميع أنحاء القارة الحكومات، وكان الفائز هو اليسار. في بيرو، انتُخب العام الماضي المعلم الماركسي "بيدرو كاستيلو"، في حين أعاد الناشط الطلابي السابق "غابرييل بوريك" (36 عاما) حكم اليسار إلى تشيلي التي تُمثِّل نموذجا للسوق الحرة في المنطقة. وبعد كولومبيا، تتجه الأنظار الآن إلى البرازيل، أكبر دول أميركا اللاتينية، حيث يتصدر الرئيس السابق "لويس لولا دي سيلفا" استطلاعات الرأي للعودة إلى الحكم في أكتوبر/تشرين الأول المقبل. وإذا حدث ذلك فستكون كل الدول الكبرى في المنطقة -بما في ذلك المكسيك والأرجنتين- تحت قيادة رؤساء يساريين.

لكن قادة اليسار هؤلاء يبدون مختلفين عن قادة الماضي، خاصة في حالتَيْ "بيترو" و"بوريك". فصعود اليسار الجديد هو نتاج للتطور السياسي في المنطقة، وتداعيات الوباء، وتحوُّلات جيوسياسية أوسع في العالم، أي إنه لا يُمثِّل نسخة أيديولوجية تقليدية بقدر ما يتبنَّى نهجا أكثر واقعية لتلبية الاحتياجات الاقتصادية، حيث تتصدر أولوياتهم قضايا تغير المناخ، ووعود التصدي لعدم المساواة الاقتصادية، ومحاربة الفساد، وزيادة دور الدول في توفير خدمات الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي. كما يعكس نجاحهم تحوُّلات اجتماعية؛ حيث دفعت الحركات النسوية كولومبيا والأرجنتين والمكسيك إلى إلغاء تجريم الإجهاض، واعترفت تشيلي العام الماضي بزواج المثليين. لذلك، كانت وعود حماية النساء والمثليين حاضرة في حملاتهم الانتخابية.

في بيرو منعت المعارضة الرئيس "كاستيلو" من إجراء أي تغييرات رئيسية.

وكما في حالة "بيترو"، يواجه الرؤساء اليساريون الجدد تحديات مماثلة تفرض عليهم أولويات غير أيديولوجية. ففي بيرو منعت المعارضة الرئيس "كاستيلو" من إجراء أي تغييرات رئيسية، وفي تشيلي رفضت الجمعية الدستورية اقتراحات صارمة بشأن تدابير حماية البيئة في قطاع التعدين الذي يُعَدُّ المحرك الأساسي للنمو، وفي كلا البلدين يواجه الزعيمان بالفعل تراجعا في الشعبية على وقع ارتفاع التضخم، أما في المكسيك، فقد منع الكونغرس المكسيكي بعض مقترحات الرئيس "أوبرادور" الأكثر راديكالية.

لذلك، من المبكر التقدير بأن المنطقة تتجه إلى مواقف معادية لأميركا ومعادية للسوق الحرة، حيث لا يستند فوز هؤلاء اليساريين بصورة أساسية إلى دوافع شعبية أيديولوجية معادية للولايات المتحدة والديمقراطية الليبرالية، بقدر ما يعكس الإحباط تجاه الأوضاع الاقتصادية، والرغبة في تجربة بديل لمؤسسة الحكم التي فقدت ثقة الناخبين. فمثلا، في كولومبيا اندلعت احتجاجات اقتصادية العام الماضي شارك فيها مئات الآلاف، وشهدت مقتل 43 مواطنا، وأظهرت استطلاعات الرأي أن 75% من الشعب يرفضون أداء الرئيس السابق. من المرجَّح أن الخلافات ستكون حاضرة في علاقة الولايات المتحدة مع هؤلاء القادة، لكنّها ستكون خلافات على السياسة وأولوياتها، وليست مواجهة بين أطراف تُحرِّكها دوافع العداء.

أميركا اللاتينية.. نحو تموضع أكثر استقلالا

ما يُعزِّز هذا الافتراض أن الولايات المتحدة لديها بالفعل تاريخ من علاقات العمل الناجحة مع بعض الرؤساء اليساريين في أميركا الجنوبية، مثل رئيس أوروغواي "خوسيه موخيكا"، وحتى الرئيس البرازيلي الأسبق "لولا دا سيلفا". ومؤخرا يُظهِر آخرون انفتاحا على واشنطن، كما في هندوراس حيث يتبنَّى الرئيس "شيومارا كاسترو" سياسة تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة، مُختارا استمرار العلاقة مع تايوان على توثيق العلاقة مع الصين. وحتى الرئيس الأرجنتيني "ألبرتو فرنانديز" اتجه لانفتاح تجاري لافت مع واشنطن رغم العلاقات القوية مع الصين.

ورغم أن الصين أصبحت الشريك التجاري الأول لبعض دول أميركا اللاتينية (البرازيل وبيرو وتشيلي)، فإن الولايات المتحدة ما زالت هي أكبر شريك تجاري للمنطقة بصورة إجمالية، ويُمثِّل كبار شركاء الولايات المتحدة كلًّا من كولومبيا والإكوادور والمكسيك. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال الولايات المتحدة تتفوق بفارق كبير على الصين في حجم الاستثمار الأجنبي المباشر مع دول أميركا اللاتينية، حيث قدَّمت الولايات المتحدة 22.6% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة لدول المنطقة في الفترة من 2015-2019، مقابل 5.6% استثمارات مباشرة من الصين في الفترة نفسها.

كانت لقاحات "سبوتنيك" الروسية أول ما وصل إلى الأرجنتين وباراغواي ونيكاراغوا وبوليفيا وحتى الإكوادور. لذا لم يكن من المستغرب أن بعض هذه البلدان لم تُوقِّع على إعلان منظمة الدول الأميركية تعليق وضع روسيا بوصفها مراقبا في المنظمة، حيث امتنعت عن التصويت 8 دول من بينها الأرجنتين والبرازيل والمكسيك وبوليفيا، وغابت نيكاراغوا. لكنّ 25 دولة في المنظمة -ومنهم تشيلي وبيرو والإكوادور- وافقت. وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، أدانت كل دول أميركا اللاتينية غزو روسيا لأوكرانيا، باستثناء كوبا ونيكاراغوا. وبينما تَحفَّظ رؤساء المكسيك والبرازيل والأرجنتين على إدانة "بوتين" علانية، وجَّه "بوريك" -المنتخب حديثا في تشيلي- انتقادات حادة للرئيس الروسي عقب الغزو.

تعكس هذه المواقف المتنوعة تباينات داخل نسيج قادة اليسار تجاه قضايا دولية ترتبط بالنظام الليبرالي ونفوذ روسيا، ولا تستند هذه التباينات إلى مواقف أيديولوجية فقط؛ باعتبار أن غالبية هؤلاء القادة من اليسار، ولكن أيضا يلعب توازن مصالحهم التجارية والجيوسياسية مع الولايات المتحدة وروسيا والصين دورا مهما في صياغة هذه المواقف.

بالنسبة إلى روسيا، تتمثَّل القيمة الأساسية لأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي في قُربها الجغرافي من الولايات المتحدة. وتعتقد موسكو أنه ما دامت واشنطن تتجاهل مصالح روسيا في جوارها، فإن على روسيا تضخيم وجودها في أميركا اللاتينية. وفي عام 1997، أعلن "بوريس نيمتسوف"، نائب رئيس الوزراء الروسي، أنه إذا حافظت روسيا على وجود في أميركا اللاتينية، فقد يساعد ذلك روسيا في التعامل مع الغرب في الأراضي المجاورة لروسيا. وقد تعزَّزت هذه الرؤية في السنوات التالية؛ حيث أرسلت موسكو للمرة الأولى طائراتها وسفنها الحربية إلى نصف الكرة الغربي بعد الحرب الروسية الجورجية عام 2008 بفترة وجيزة، في حين تزامنت بوادر التعاون العسكري المتزايد مع نيكاراغوا مع ضم شبه جزيرة القرم. وفي عام 2013 أعلنت موسكو أن علاقاتها مع أميركا اللاتينية ذات أهمية إستراتيجية.

وما دامت المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة على المسرح العالمي لا يمكن تجنُّبها، فمن المرجَّح استمرار اهتمام موسكو بتعزيز علاقاتها في أميركا اللاتينية. لكنّ روسيا غير قادرة بعد على تحمُّل وجود عسكري في المنطقة، كما أن تقديم التزام مالي طويل الأمد لأميركا اللاتينية لا يبدو ضمن أولويات الكرملين، ومن ثم فإن العلاقات الروسية ستظل محدودة نسبيا في المستقبل القريب مقارنة بوتيرة صعود النفوذ الاقتصادي الصيني في المنطقة.

يعني ذلك أن قادة اليسار يمكنهم تغيير وجهة السياسة في القارة رغم كل شيء؛ فبينما يمتلكون مجالا أقل للمناورة حاليا في مواجهة الضغوط الاقتصادية، فإن بعض الفرص متاحة أيضا، خاصة فيما يتعلق بالتحالفات الأجنبية، نظرا إلى التحولات التي يمر بها التوازن الدولي بين قوى متنافسة.

كذلك من الممكن أن تتطور علاقاتهم إلى ترتيبات أكثر استقلالية، فقد أشار "بيترو" في مقابلة مع صحيفة واشنطن بوست في وقت سابق من هذا العام إلى أنه يتصور تحالفا تقدُّميا مع تشيلي والبرازيل. وإذا فاز "لولا"، فقد يكون هذا التحالف قوة معتبرة في نصف الكرة الغربي، ومن الممكن أن تكون هذه اللحظة التي تمتلك فيها أميركا الجنوبية زمام المبادرة، بحسب ما يتوقع "برنارد أرونسون"، كبير الدبلوماسيين الأميركيين لأميركا اللاتينية في عهد الرئيسين "جورج بوش" الأب و"بيل كلينتون".
لذلك، فإن انفتاحهم على العلاقات مع أميركا لا ينفي تمتُّعهم باتجاه أكثر استقلالية يجب عدم تجاهله. فقد غاب الرئيس المكسيكي "لوبيز" عن قمة الأميركيتين في لوس أنجلوس الشهر الماضي؛ بعد أن رفض الرئيس "بايدن" دعوة كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا. وأثناء حضور "بوريك" انتقد "بايدن" أيضا قائلا إن واشنطن تُضيِّع فرص تعزيز أهدافها الديمقراطية في أميركا اللاتينية من خلال رفض التعامل مع خصومها.

الخلاصة، إن دول أميركا اللاتينية ستتجه أكثر مع الوقت للعمل بشكل أكثر استقلالية إذا استمرت تحت حكم اليسار، مما يفتح المجال أمامها لإعادة تحديد العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة وغيرها من القوى الدولية، خاصة الصين. في المقابل، ستُعزِّز الولايات المتحدة نهجها الحالي الذي يقوم على تعزيز الشراكة الاقتصادية والأمنية مع دول المنطقة، أو استخدام الإكراه الاقتصادي من خلال العقوبات.

___________________________________________________

هذا المقال منشور بالاتفاق مع موقع أسباب. للاطلاع على المقال الأصلي من هنا.

المصدر : الجزيرة