شعار قسم ميدان

ليست كفؤ ولا تخرج بأفضل النتائج.. كيف تنظر الصين للديمقراطية؟

في أكتوبر/تشرين الأول 2013، انتشر مقطع فيديو بالرسوم المتحركة مجهول المصدر، وقدَّم صورة للتناقض في وسائل اختيار القادة في دول عديدة. تصدَّرت الديمقراطية الأميركية الفيديو بطبيعة الحال، حيث صُوِّر صعود الرئيس الأميركي "باراك أوباما" عبر حملة دعائية ضخمة قيمتها ملايين الدولارات، وهي حملة ظهر فيها "أوباما" أشبه ما يكون بنجم سينمائي، ووظَّف فيها قدراته الخطابية والشخصية، وتكلَّلت بالنجاح حين حاز أغلبية مريحة نسبيا من أصوات الناخبين الأميركيين. وفي المقابل عرض الفيديو قصة صعود الرئيس الصيني "شي جين بينغ" إلى السلطة في بلاده عبر مسيرة رتيبة استمرت عقودا من الزمن، حيث ترقَّى من مستوى القيادة المحلية إلى مستوى المدينة ثم المقاطعة وعدة مستويات إدارية، حتى صار أخيرا وزيرا على مستوى الإقليم، ثم حصل على عضوية اللجنة المركزية للحزب، ثم المكتب السياسي، ومنه إلى موقع القيادة في اللجنة المركزية للمكتب السياسي. وفي كل مرحلة من مراحل ترقيته خضع "شي" لعملية تقييم جادة قوامها المنافسة بغرض قياس إمكانياته ومؤهلاته للقيادة السياسية.

لا يخلو المقطع المرئي من طرافة وخفة تناسب منصات التواصل الاجتماعي، لكن المنتجات الثقافية كثيرا ما تعكس رؤية فلسفية وأخلاقية بعينها، وتُشير إلى أفكار أعمق ربما مما تظهر لمستهلكوها على منصات التواصل، بالنظرة الأولى نجد أننا أمام مقارنة بسيطة حول كيفية تشكُّل القيادة السياسية للبلدين الكبيرين، لكن بنظرة أعمق نجد أنفسنا أمام رؤية فلسفية سياسية حول معايير السلطة الأخلاقية ومصدر شرعيتها وطبيعة التمثيل السياسي بين الحُكَّام والمحكومين.

نحاول هنا عرض بعض السمات التي تُشكِّل النظامَيْن الأميركي والصيني بشكل مقارن، مع التركيز على الرؤية الصينية للديمقراطية الغربية، وكيف تحاول الصين تقديم نموذجها السياسي في الحُكم بوصفه النموذج الأفضل والأكثر أخلاقية وكفاءة في آنٍ واحد. وفي حين تُعَدُّ الانتخابات وحُكم الأغلبية هي أبرز الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية، فإن بكين ترى العالم من منظور مختلف. فكيف ترى الصين الاقتراعات الانتخابية؟ وكيف تَشكَّل نظامها السياسي المستقر ليُمثِّل مصالح متباينة للنخبة السياسية والاجتماعية في البلاد دون اقتراع انتخابي أو حُكم عن طريق الأغلبية؟

النقد الصيني.. حدود الأغلبية السياسية

غنيٌّ عن البيان أن المجتمعات الغربية هي مجتمعات تعدُّدية، وتفوق في ذلك جميع المجتمعات المعاصرة، إذ يسعنا في المجتمعات الغربية أن نناقش كل شيء تقريبا دون حدود، على أن يبقى مبدأ واحد غير قابل للنقاش أو المراجعة وهو القاعدة الديمقراطية الانتخابية نفسها، أي إن هناك صوتا انتخابيا واحدا لكُل مواطن، مما يُفضي إلى تشكيل حكم يُمثِّل الأغلبية الانتخابية في الأخير. ورغم ما حازته من قداسة، استفاد الغرب في الواقع من نقد واحد وُجِّه لفكرة حُكم الأغلبية، وهو نقد أتى من داخل السياق الغربي نفسه، إذ يُمكِن لحُكم الأغلبية أن يؤدي إلى قمع الأقليات، وتحفل الفلسفة الغربية منذ أفلاطون وأرسطو وحتى الفلاسفة الليبراليين لعصر النهضة والأنوار بانتقادات لمبدأ حُكم الأغلبية دفاعا عن الفرد باعتباره وحدة سياسية مستقلة عن الجماعة. ولذا تطورت الديمقراطيات الغربية في نسختها الأخيرة إلى مزيج بين الديمقراطية والليبرالية، وفرضت قيودا دستورية على حُكم الأغلبية تحمي الأقليات والأفراد وأصحاب التوجُّهات المخالفة وغير الشعبية.

هنا أتى التقليد الصيني بانتقادات هيكلية لمبدأ الاستناد إلى حكم الأغلبية، فرغم اعتراف النُّخَب الصينية بأن الديمقراطيات الليبرالية الغنية والراسخة تحمي حقوق المعارضين بشكل أفضل، فإن المشكلة الأولى من وجهة النظر الصينية هي أن أداء غالبية الناخبين ليس جيدا في اختيار قادة سياسيين لديهم القدرة على وضع سياسات حكيمة في مجالات اقتصادية وعلمية عديدة. وتتفاخر الصين اليوم بمقارنة سِجِل أدائها في محاصرة الموجتين الأولى والثانية من فيروس كورونا أمام الأداء الكارثي للرئيس الأميركي آنذاك "دونالد ترامب"، الذي انخفضت شعبيته مع وصول ضحايا الفيروس في أميركا إلى معدلات قياسية.

باستخدام المصطلحات الصينية، تكمُن المشكلة هنا في نسبة "الناخبين ذوي الجودة المنخفضة"، الذين لا يتصرَّفون بعقلانية ومنهج علمي في التفاعل مع مُعطيات الواقع، ومن ثمَّ يؤثرون سلبا على الجماعة السياسية ويُقوِّضون قدرتها على مواجهة الأزمات بكفاءة. وقد ذهب الأكاديمي الصيني "باي تونغدونغ" إلى أنه في العصر الرأسمالي الحالي لا يملك أغلب المواطنين الوقت الكافي للإحاطة بتفاصيل الواقع كافة. ويقول "تونغدونغ" في مناقشة الديمقراطية اليونانية القديمة إن استخدام العبيد حرَّر مواطني أثينا من أعباء العمل اليومي ومَكَّنهم من المشاركة في المجال السياسي الديمقراطي على نحو كامل، ولكن حتى مع هذه الوضعية الاستثنائية ظلَّت كفاءتهم موضع شك. ويُشير "تونغدونغ" هنا إلى الاختلاف بين أثينا والديمقراطيات الغربية المعاصرة، التي تحيا وفق قيود رأسمالية، ويقضي مواطنوها مُعظم أوقاتهم في عمل شاق من أجل الحفاظ على مستوى معيشتهم.

بالاستمرار مع المنظور الصيني، يقترح الأكاديمي الكندي "دانييل بِل"، الأستاذ في جامعة "تشينغهوا" الصينية، أن المجتمع الصيني غير المُستوَعَب بالكامل داخل آليات وأخلاقيات السوق، وينعم مواطنوه بنظام رعاية وتضامن اجتماعي فعَّال وقوي؛ تقع فيه مسؤولية مشتركة على الحكومة والمواطنين لتأهيل الأغلبية كي يكونوا ناخبين ذوي جودة مرتفعة ومعرفة بالاقتصاد والعلوم، ومُدرَّبين على التفكير العقلاني العلمي.

وهنا تنتقل النخبة الصينية إلى نموذج أكثر تجريدا في نقدها لفكرة الأغلبية الانتخابية، وهو أن الإجراء الانتخابي إجراء عادل في جوهره، لكنه لا يؤدي بالضرورة إلى نتائج عادلة. وقد أوضح الاقتصادي الأميركي "برايان كابلان" أن المعتقدات الشائعة بشأن الاقتصاد مثلا حافلة بالأخطاء المنهجية، مما يُفسِّر مثلا لا عقلانية الناخبين في فترة الحملات الانتخابية. ونتيجة لذلك، يتخلَّى السياسيون بعد انتخابهم عن وعودهم في العادة، مُدركين أن الناخبين انتخبوهم على أساس تحيُّزات غير علمية، ثم يتعامل السياسيون مع حقائق الواقع في الأخير بأساليب منهجية وعلمية بالاعتماد على الكفاءات البيروقراطية داخل الدولة. إذن، فالأغلبية بحدِّ ذاتها ليس لها أفضلية أخلاقية، بل الأهم وفق الرؤية الصينية جدارة النخبة السياسية الحاكمة.

الجدارة السياسية أم حُكم الخبراء؟

انطلاقا من هذا النقد للأغلبية السياسية بوصفها مرجعية، يبرز المفهوم الصيني للجدارة السياسية باعتباره أساسا أخلاقيا للنخبة السياسية الحاكمة، وينطلق مفهوم الجدارة السياسية من تقليد ثقافي طويل في الصين ومحيطها الجغرافي، وخاصة سنغافورة، وهو ينُص على مبدأ "الحُكم من قِبَل رجال شرفاء عليهم العمل لصالح الجماعة واكتساب ثقة الشعب تدريجيا عبر رحلة طويلة من تعلُّم الحكمة والفضيلة".

وفقا لما ذكره "لي كوان يو"، أول رئيس وزراء لسنغافورة، يحتاج الموظف العمومي السياسي إلى فترتين في عمله ليتمكَّن منه ويتأهَّل للمرحلة التالية في هيكل الإدارة والدولة.

وقد طوَّرت الصين وسنغافورة طيلة العقود القليلة الماضية أسلوبا صارما ومعقدا لتوظيف وترقية القادة السياسيين، يبدأ بالبحث عن الموهوبين في المراحل الدراسية المُبكِّرة، وبعدها يُنتَقى الطلبة الواعدون ويُدرَّبون على الاضطلاع بأدوار القيادة. وتُجرى امتحانات وطنية في مراحل رئيسية من حياة الطالب، ويعقُب ذلك اختيار أفضل الطلبة أداءً لتحديد قدراتهم ومدى انضباطهم النفسي والتزامهم وتوافر مهارات القيادة لديهم، وتُخصَّص منح حكومية للمُتميِّزين للدراسة بالجامعات المرموقة في الخارج، مع توقيعهم عقدا يلزمهم بالعودة إلى البلاد. وبعد التخرُّج، يعمل المتفوِّقون بالخدمة الإدارية والمناصب الحكومية والسياسية.

وبالمثل، تجري عملية اختيار الوزراء بصورة منهجية وصارمة، إذ يُحدَّد الأشخاص الصالحون للمنصب، الذي يُتوقَّع أن يبقوا فيه مدة لا تزيد على خمس سنوات. ووفقا لما ذكره "لي كوان يو"، أول رئيس وزراء لسنغافورة، يحتاج الموظف العمومي السياسي إلى فترتين في عمله ليتمكَّن منه ويتأهَّل للمرحلة التالية في هيكل الإدارة والدولة. ونتيجة لذلك، تمتلك الصين وسنغافورة نسبة عالية من الكوادر المُدرَّبة في مجالات الاقتصاد والإدارة والعلوم والسياسة الدولية، الذين يُمكِن توظيفهم داخل الحكومة ودوائر صنع القرار.

حاز نموذج الجدارة السياسية والامتحانات جاذبية بسبب النجاح الاقتصادي الذي حقَّقته الصين وسنغافورة في العقود الماضية. وينطلق نموذج الجدارة من افتراض أن القادة السياسيين المُدرَّبين جيدا لديهم حس بالصالح العام على المدى الطويل والمتوسط أفضل من أي أغلبية انتخابية مُفترَضة، ولا يرى الحُكَّام في الصين أن خبراء الاقتصاد الذين قادوا النهضة الاقتصادية لبلادهم كانوا ليُنتخبوا في سياق ديمقراطي، بل على الأرجح أن الملايين الذين انتُشِلوا من براثن الفقر كانوا سيلتفون حول قادة شعبويين.

في المقابل يرى الأكاديمي الأميركي "فرانسيس فوكوياما" أن النموذج الصيني لا يُمكن أن يصبح بديلا جديًّا عن الديمقراطية الليبرالية خارج شرق آسيا، إذ إن الحكومة الصينية تستمد شرعية نظامها من تقليد طويل مبني على الجدارة وامتحانات الوظيفة المدنية الشهيرة في الصين، التي تضرب بجذورها في تاريخ الصين المُمتد لقرون طويلة، ومن ثم اكتسبت تلك المنظومة شبه التقليدية ثقة الشعب الصيني لأسباب منطقية، وكذلك اكتسبت توافقا بين المثقفين والسياسيين، رغم أنها ليست أيديولوجية رسمية مُعلنة.

يرى فوكوياما أن النموذج الصيني لا يُمكن أن يصبح بديلا جديًّا عن الديمقراطية الليبرالية خارج شرق آسيا، إذ إن الحكومة الصينية تستمد شرعية نظامها من تقليد طويل مبني على الجدارة وامتحانات الوظيفة المدنية الشهيرة في الصين.

قبل أكثر من قرن ونصف، وصف الرئيس الأميركي الأسبق "أبراهام لينكولن" الديمقراطية بأبسط مصطلح للرجل العادي: "حكومة الشعب، من قِبَل الشعب، من أجل الشعب". غير أن الأكاديمي الصيني إريك لي" يدَّعي أن الحكومة الصينية الحالية تتفوَّق على أميركا في تلك المناحي الثلاثة بدون انتخابات، إذ إن حكومتها في نظره حكومة شعب، وتُمثِّل الشعب حقيقة ومصالحه المتنوِّعة، وتعمل من أجل الشعب كما أثبتت نجاحات الصين واتساع طبقاتها الثرية والوسطى على مدار العقود الماضية. ويعتقد الشعب الصيني بالفعل أن حكومته تُمثِّله تماما مثل النظام الديمقراطي؛ والحقيقة أن الغالبية العظمى من القادة السياسيين في الصين يأتون من خلفيات عادية وفق اعتبارات الكفاءة ونظام اختيار الموظفين والقادة القائم حاليا. وعلى العكس، يبدو أن الأميركيين اليوم هم مَن يعتقدون بأن حكومتهم مأسورة بالمصالح المالية وشبكات النُّخَب السياسية في المدن الكُبرى.

لقد ساد في الغرب طيلة العقد الماضي نموذج إجراء الانتخابات الديمقراطية بوصفه النموذج السياسي الأمثل لخلق حالة من التمثيل الشعبي بين الحاكمين والمحكومين، وتوسيع هامش الحرية لأكبر درجة مُمكنة مع حماية حقوق الفرد، وتغيير الجالسين على مقاعد السلطة أولا بأول لإجبارهم على تقديم الأداء الأفضل لناخبيهم وإلا خسروا الانتخابات التالية، وهو نموذج بدا منسجما مع طبيعة المجتمع الذي خلقته الرأسمالية، واتسم بتنافس الشرائح الاجتماعية المختلفة على الفُرص السياسية والاقتصادية في العموم. أما الصين، ورغم أنها تسير على درب الرأسمالية ذاته وإن كانت في أوَّلِه، مع "بعض الخصائص الاشتراكية" على حد قول النظام الحاكم فيها، فإنها تقترح اقتراحا آخر مفاده أن المصداقية التاريخية تقتضي الاعتراف بأن الديمقراطية الانتخابية ليست سوى نوع واحد من الديمقراطية، وأن الصين لديها "ديمقراطية" ولكن من نوع آخر يخلق دولة أكثر فعالية.

يبقى السؤال ما إن كانت تلك "الديمقراطية" الصينية حقيقية بالفعل في تمثيلها للشعب، وقادرة على التطوُّر مع تطوُّر الرأسمالية الصينية، أم أن المجتمع الرأسمالي في الصين سرعان ما سيمُر بالانعطافات ذاتها التي مرَّ بها الغرب مع مرور الوقت، وستظهر سريعا مكامن الضعف في نموذج "الجدارة" على حساب "التمثيل المباشر" كما تُبشِّر به الصين. في نهاية المطاف، يظل هذا النموذج وثيق الارتباط بتاريخ الصين وشرق آسيا، ويبدو تعميمه خارج نطاق هذه المنطقة صعبا، ولعل تلك بحد ذاتها نُقطة الضعف الأبرز في النموذج الصيني، فهو يفتقد السِّمة "العالمية" على عكس الديمقراطية التي تُطبَّق في أماكن عدة عبر قارات العالم، ويفتقد أيضا مركزية مفهومَيْ "العدالة" و"الحرية" بوصفهما نقيضين للاستبداد، مما يجعل من الصعب بمكان نشوب انتفاضة أو ثورة تطالب بالنموذج الصيني، في حين تندلع الاحتجاجات سنويا في شتى بقاع العالم مطالبة بالحريات والديمقراطية وتوسيع الحقوق السياسية.

______________________________________________

المصادر

  1. The China Model: Political Meritocracy and the Limits of Democracy, Daniel A. Pell.
  2.  Can Liberal Democracy Survive the Decline of the Middle Class?, Francis Fukuyama.
  3. Eric Li on the failure of liberal democracy and the rise of China’s way, Eric li.
المصدر : الجزيرة