شعار قسم ميدان

اعترافات جاسوس روسي: هكذا تجند موسكو العملاء.. وهكذا تتجسس على المعارضين في الخارج

أرشيف فسيفولود أوسيبوف الشخصي
أرشيف ""فسيفولود أوسيبوف"" الشخصي (مواقع التواصل)

مقدمة الترجمة:

في مقاله المنشور بموقع "أوراسيا نت"، يسلط جيورجي لومسادزِه الضوء على اعترافات أحد الشباب الذين جنَّدتهم أجهزة الأمن الروسية للعمل في جورجيا من أجل التجسس على المعارضين الروس الفارين خاصة بعد حرب أوكرانيا. وتسلط هذه الشهادة الضوء على سياسة موسكو في تجنيد الجواسيس الهواة (المبتدئين) من أجل جمع المعلومات، وكذلك على النفوذ الذي يمتلكه الكرملين في جورجيا التي التزمت الصمت تجاه الواقعة.

 

نص الترجمة:

في يوليو/تموز الماضي، ظهرت إلى النور في جورجيا حقيقة "ڤسيڤولود أوسيبوف"، الذي عمل جاسوسا لصالح الأجهزة الأمنية الروسية، حيث أرسلته موسكو إلى العاصمة الجورجية تبيليسي لتعقُّب المعارضين الروس الذين تدفَّقوا على المدينة مؤخرا. بيد أن فضيحة "أوسيبوف" لم تؤثر كثيرا على حياته هُنا، ولم تُزعج المقربين منه في الحانة المزدحمة التي يعمل بها ساقيا للخمر، بما في ذلك المترددون على الحانة من الروس. "أحيانا ما يأتى زبون عابر بعد أن تعرَّف عليَّ من نشرات الأخبار، ثم يسألني بعض الأسئلة، ولكن عدا ذلك، لا أحد يُعيرني انتباها هُنا"، هكذا تحدَّث أوسيبوف مع موقع "أورسيا نِت".

 

في منتصف يوليو/تموز الماضي، نشر موقع "مِدوزا" الإخباري الروسي المستقل مقالا مطوَّلا عن أوسيبوف، إذ اعترف الشاب الموسكوڤي (من أبناء موسكو)* ذو العشرين عاما بأنه يعمل لصالح جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وأنه بدأ في موسكو بكتابة التقارير عن الحزب التحرُّري الذي كان عضوا فيه، ثم أوفد إلى تبيليسي. ورغم أن اعترافات الجاسوس الشاب كان من المُفترَض أن تهزّ الرأي العام في جورجيا، بعد أن تناقلتها وسائل الإعلام الأخرى، لا سيما مع وجود قلق حيال تدفُّق الروس إلى البلاد؛ فإن الخبر لم يلقَ اهتماما يُذكَر. وقد تحدَّث أوسيبوف والابتسامة تعلو وجهه مع نبرة إحباط قائلا: "لقد اعتقدت أن الشرطة الجورجية ستدق بابي لتُحقِّق معي، لكنَّ أحدا لم يهتم هنا فيما يبدو، باستثناء مراسل صحافي عابر".

 

بيد أن اعترافات أوسيبوف أشعلت وسائل التواصل الاجتماعي في صفوف المجتمع الروسي المتنامي في جورجيا، إذ إن البلاد تمتلئ عن آخرها بالرحلات الواصلة من روسيا منذ العام الماضي، حين بدأ الكرملين يُكثِّف حملته القمعية على مَن وصفهم "بالعملاء الأجانب". وسرعان ما تحوَّلت موجة النزوح الروسية تلك إلى إعصار حين اندلعت الحرب الروسية على أوكرانيا واشتد القمع في البلاد، ومن ثمَّ انضم المِهَنيون الذين هدَّدت العقوبات الدولية حياتهم إلى المهاجرين الروس المتوافدين على جورجيا.

 

جواسيس روسيا ومعارضوها.. في حانات "سولولاكي"

اعترافات جاسوس روسي: هكذا تجند موسكو العملاء.. وهكذا تتجسس على المعارضين في الخارج
(شترستوك)

مع توالي أفواج الروس نحو جورجيا، لا يشعر الكثير من المعارضين الروس بالأمن هُنا، فقد حظرت الحكومة الجورجية دخول بعض الشخصيات المُعارِضة المعروفة إلى أراضيها خوفا من إغضاب الكرملين، ولذا يتخوَّف البعض من أن الحكومة الجورجية قد تُنسِّق مع موسكو، وهي مخاوف عززتها واقعة أوسيبوف وتجاهله من جانب السلطات في جورجيا.

 

في نظر جورجيين كُثُر، لم تكن أخبار أوسيبوف مفاجأة، حيث يعارض العديد منهم قدوم المهاجرين الروس اعتقادا منهم بأن هناك عناصر غير مرغوب بها تسلَّلت إلى داخل موجة الصحافيين والمدوِّنين والمعارضين النازحين من روسيا إلى بلادهم، وهو اعتقاد صحيح بوجه من الوجوه. فقد تحدَّث أوسيبوف في حواره مع موقع "أوراسيا نِت" من أحد أشهر مطاعم العاصمة تبيليسي، وعلى بُعد خطوات من مقر عمله في مقاطعة "سولولاكي"، حيث يتركَّز عدد من الروس الليبراليين والشباب الفارين من روسيا. وقال أوسيبوف إنه يعرف على الأقل شخصين آخرين أتيا إلى جورجيا بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي من أجل التجسُّس، وأنه يعتقد أنه تعرَّف على بضعة جواسيس آخرين.

 

"(حين تُوفد للعمل جاسوسا)، لا يخبرونك بهويات الجواسيس الآخرين، ولكن إذا دقَّقت النظر بما يكفي، فيُمكِنك أن تُخمِّن مَن هُم. فقبل أن آتي إلى هُنا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حضرت اجتماعا لأسمع بعض التوجيهات قبل السفر في موسكو، وطُلِب مني أن أذهب إلى المقاهي والمطاعم التي يتردَّد عليها الروس في تبيليسي. ولم يكن من المفترض أن أسأل أي أسئلة أو آخذ راحتي في مقابلة الناس، بل رصدهم ليس إلا والاحتفاظ بانطباعاتي وأفكاري عنهم لنفسي. وبعد ذلك، تكمُن مهمتي في إرسال تقرير أسبوعي إلى المُنسِّق المسؤول عني، وأن أُعلِمه بطبيعة المشهد العام، وما إن كنت قد التقطت أي نشاط مثير للاهتمام"، هكذا قال أوسيبوف.

 

ثم أضاف قائلا: "ولكن بعد بدء الحرب، بدأت ألاحظ أن بعض (الجواسيس) لم يعُد لديه الصبر لممارسة تلك اللعبة ذات النفَس الطويل، ومن ثمَّ بدأوا يظهرون في الحانات والحفلات ويتحاورون مع الناس، ثم طلبوا مباشرة أن يُضافوا إلى مجموعات الدردشة الجماعية ومنتديات وسائل التواصل الاجتماعي، بل وأحيانا يشرب أحدهم حتى الثمالة، فيفضح أمره بنفسه وهو سكران، أو على الأقل قال ما يكفي لأعرف أنا أنه جاسوس، وقد كنت أنظر إليهم حينئذ وأقول لنفسي، دقَّت ساعة المبتدئين!". في الحقيقة، أوسيبوف نفسه مبتدئ أيضا، حيث اجتُذِب للعمل مع الأجهزة الروسية قبل عام واحد، ومن ثم كان هو الآخر جاسوسا يسهُل التعرُّف عليه. فقبل فترة من اعترافاته، تقدَّم إليه شاب روسي مخمور في إحدى الحانات، وقال له بنبرة سكرانة إنه يعرف حقيقته.

 

الليبرالي الذي أصبح جاسوسا

درس أوسيبوف القانون ونشط في صفوف "حزب روسيا التحرُّري" الصغير، قبل أن يُعتقل عام 2021 بسبب مشاركته في مظاهرة بالعاصمة موسكو دعما لزعيم المعارضة الروسي الشهير "ألِكسي ناڤالني". وحين هُدِّد أوسيبوف بالسجن، وجد نفسه تحت الضغط للعمل جاسوسا لصالح الأمن الروسي داخل صفوف الحزب وجماعة معارضة أخرى، وهي طريقة أوقعت الكثير من الشباب في شَرَك العمل مع جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، على حد قوله.

 

وبعد أن خضع أوسيبوف لأول مهمة من أجل اختباره، وأرضى المسؤولين عنه؛ منحوه مهمة أكبر هي السفر إلى جورجيا. "لقد أعطوني 214 ألف روبل (3550 دولارا) لأُنفقها طيلة شهر ونصف الشهر، وكان من المفترض أن أعود إلى موسكو في ديسمبر/كانون الأول (2021)، إذ كنت لا أزال تحت الاختبار حسبما اعتقدت"، هكذا حكى أوسيبوف.

 

كُلِّف أوسيبوف بالتجسُّس على شخصين بالتحديد، رئيس حزب روسيا التحرُّري "ياروسلاڤ كونڤَيه" المنفي اختياريا، و"أنطون ميخالتشوك"، أحد مديري "مؤسسة روسيا الحرة" المعارضة. وفور وصوله إلى جورجيا، ذهب أوسيبوف مباشرة إلى الرجلين وأبلغهما صراحة أنه يعمل لصالح جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وأنه كان يحاول تحذير قادة الحزب طيلة الوقت لكنه فشل في ترتيب لقاء وجه لوجه مع أحدهم حتى وصل إلى جورجيا. وعرض أوسيبوف على الرجلين أن يرسل معلومات مغلوطة إلى رؤسائه ويُضلِّلهم، لكنَّ الرجلين أبديا عدم ثقة فيه وسرعان ما حذَّرا زملاءهما من وجود مُخبِر في صفوفهم، كما روى أوسيبوف. وقد وصلت القصة في الأخير إلى رفيقة أوسيبوف، التي تُدير حانة صغيرة في تبيليسي، فواجهته بالسؤال عن عمله لصالح جهاز الأمن الفيدرالي، حيث يقول: "أجبتها بنَعَم، لأنني أدركت أنها لا بد وسمعت عني من أولئك الناس الذين وثقْتُ بهم".

رئيس حزب روسيا التحرُّري "ياروسلاڤ كونڤَيه" المنفي اختياريا (يسار)، و"أنطون ميخالتشوك"، أحد مديري "مؤسسة روسيا الحرة" المعارضة (يمين) (مواقع التواصل)
رئيس حزب روسيا التحرُّري "ياروسلاڤ كونڤَيه" (يسار)، و"أنطون ميخالتشوك"، أحد مديري "مؤسسة روسيا الحرة" (يمين) (مواقع التواصل)

استمر أوسيبوف في إرسال التقارير إلى موسكو، وأقنع مسؤوليه هناك بأن يمدُّوا إقامته في جورجيا. "لقد أحببت المدينة وحصلت على حياة جيدة هنا، ولذا عملت ما بوسعي لأبقى هنا أطول وقت ممكن على نفقة جهاز الأمن الفيدرالي"، هكذا قال أوسيبوف. وللمفارقة، أبدى رؤساؤه أنفسهم الاهتمام بقضاء العطلة في جورجيا، ومن ثم كلفوه بمهمة أخرى هي جمع المعلومات عن الحانات اللطيفة والمعالم السياحية التي تجدر زيارتها في البلاد.

 

الجاسوس يتمرَّد

في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، لم يحتج مسؤولو أوسيبوف إلى الكثير من الحُجَج للاقتناع بتمديد إقامته، فقد احتاجوا إلى "عيون أكثر على الأرض في ظل توافد الكثير من الروس"، على حد قوله. بيد أن أوسيبوف، الذي ساءته الحرب، توقَّف عن التجاوب مع رؤسائه في مارس/آذار الماضي، وقرَّر في الأخير الحديث بصراحة إلى موقع "مِدوزا"، بعد أن تأكَّد من صحة ادعاءاته وعرف مَن هُم رؤساؤه ونشر هوياتهم، وتحدَّث أيضا مع النشطاء الذين كان يُفترض أن يتعقَّبهم. علاوة على ذلك، نشر "مِدوزا" لقطات من دردشات أوسيبوف مع مسؤوليه في جهاز الأمن الفيدرالي بواسطة الهاتف.

 

أثارت حكاية أوسيبوف الكثير من علامات الاستفهام في صفوف الروس داخل جورجيا، حيث فوجئ بعضهم بقراره التمرُّد على جهاز الأمن الروسي الضخم والمُرعِب، في حين عزا البعض تمرُّده إلى سِنِّه الصغيرة. وقد قال أوسيبوف إنه قلِق بالفعل حيال انتقام جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، لا سيما أن والدته لا تزال تعيش في موسكو، في حين لا يكترث الشاب الروسي كثيرا بمصيره الشخصي، على حد قوله: "لا أعتقد أنني بتلك الأهمية بالنسبة لهم كي يطاردوني هنا، ناهيك بأنني أستطيع دوما أن أنتقل إلى مكان آخر".

——————————————————————————————————

هذا المقال مترجم عن Eurasianet ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

ترجمة: نور خيري.

المصدر : مواقع إلكترونية