شعار قسم ميدان

"أفغانستان علَّمتني البيانو".. حكايات جنود جورجيا الذين حاربوا مرتين مع روسيا وأميركا

مقدمة الترجمة

على أنغام المارشات العسكرية السوفيتية تارة، ودعايات الحرب على الإرهاب تارة أخرى، خاضت جورجيا حربين في أفغانستان مع الروس والأميركيين، فأي حكايات تركها لنا جنودها؟ يروي لنا جيورجي لُمسادزه في هذا المقال قصته في التحايل على التجنيد الإجباري، وقصص آخرين لم يُفلتوا من قبضة الخدمة العسكرية، فحاربوا مع إمبراطوريتين.

نص الترجمة

تعلَّمت البيانو بسبب أفغانستان، لقد بدأت تعلُّمه في منتصف الثمانينيات، ووفقا لنظرية شائعة آنذاك (في جورجيا السوفيتية)، فإن أي شخص له مسار ناجح في عالم الموسيقى يمكن إعفاؤه من الخدمة العسكرية، أو على الأقل يمكن دخوله الجيش عازفا في إحدى الفِرَق الموسيقية العسكرية. ولذا، أرسلني والداي أنا وأخي إلى مدرسة موسيقية من سن صغيرة جدا، آملين أن يعتقنا ذلك من مصير رجال جورجيا الذين خاضوا الحرب ولقوا حتفهم أثناء حرب الاتحاد السوفيتي الدائرة في أفغانستان حينها.

واليوم، أُقِرُّ بأن تعلُّم البيانو كان رهانا مُفرطا في تفاؤله للتحايل على النظام، لكن والداي اقتنعا حينذاك بأن الحرب في أفغانستان مستمرة للأبد، وكذلك الاتحاد السوفيتي نفسه. مضيت إذن أنفخ في مزماري نفخات مهتزة حزينة، وأنقر بأصابعي على البيانو نقرات لا تنتهي صعودا ونزولا على السلَّم الموسيقي، في الوقت نفسه الذي أُرسِل فيه شباب الاتحاد السوفيتي بالعشرات إلى أفغانستان وعادوا في أكفانهم.

سرعان ما أصبحت أفغانستان بالنسبة إلى الاتحاد السوفيتي نظيرا لما مَثَّلته فيتنام بالنسبة إلى الولايات المتحدة: أكوام من الجثث، واضطرابات ما بعد الصدمة، وشباب مُمزَّق، وإمبراطورية لم يعُد بوسعها إخفاء حقيقة الحرب، ومصدر إلهام للعديد من الكُتب والأفلام. وفي نهاية المطاف، بات هنالك جيل كامل من الروس والجورجيين والقزاق (من كازاخستان أو قزاقستان كما تُعرف باللغة القازاقية المحلية)* وغيرهم من المواطنين السوفييت يُشار لهم بـ"الأفغانتسي"، أو الأفغان، وهي كناية عن شخص شوَّشته الحرب، فلم يعرف إلا قلة من هؤلاء الرجال وقت تجنيدهم وهُم في سن الثامنة عشرة أن ساحات الحرب في انتظارهم.

نعوش من الزِّنك وجثث مُلغَّمة

جلس "بريدون كابانادزِه"، المجنَّد السابق ذو الستين عاما، الذي أُرسل عام 1981 من قريته الجورجية الصغيرة "أخالتسيخِه" في رحلة طويلة إلى "جلال آباد"، وأخذ يتذكَّر: "أقمنا حفلا كبيرا في قريتي حين استُدعيت للخدمة، ولم يعرف والداي أنني ذاهب بالفعل إلى الحرب، ولم أعرف أنا أيضا". ثمَّ أضاف "أفتانديل سوبيكاشفيلي"، محارب قديم آخر: "لقد أدركت (أنني ذاهب إلى الحرب) فقط حين أُرسِلت إلى وادي ’فرغانه‘ في أوزبكستان من أجل التدرُّب"، وبعد شهرين من التدرُّب أشبه بـ"العيش في جحيم" كما يصفهما، نُقِل جوا إلى مطار بغرام (بكرام) الأفغاني، إذ حطَّت طائرته وسط جولة من إطلاق النيران.

هناك، على بُعد أربعين كيلومترا من كابُل، خدم "سوبيكاشفيلي" عامين في وحدة من وحدات المظلَّات (345) تحت قيادة "بافِل غراتشيف"، وزير الدفاع السوفيتي فيما بعد. "كُنا متسخين معظم الوقت، ولم نستحم، وملأنا القمل، وأُصيب الجميع بالحمَّى الصفراء، وتعرَّضنا لإطلاق الرصاص باستمرار. ولم نتمكَّن من إخبار عائلاتنا عمَّا دار هناك بالفعل، ولم يُسمح لنا إلا بكتابة رسائل بلَّغتهم سلامنا فحسب، فقد تفحَّصوا كل حرف وكل صورة أرسلناها إلى ديارنا"، هكذا تحدَّث إليّ "سوبيكاشفيلي" مُستعرِضا بعض الصور التي اجتازت الفحص العسكري.

ثم أردف "سوبيكاشفيلي": "حين يُقتل أحدهم، كانوا يرسلون جثته إلى دياره في نعش مُغلق مصنوع من الزِّنك ومعه مُذكِّرة تقول إن الوفاة سببها حادث. وقد مثَّلت لنا (رحلة نقل الجثث) استراحة من الحرب، بيد أنني ذات مرة، عندما حلَّ 21 ديسمبر/كانون الأول، لم أستطع حمل نفسي على إيصال جسد ’يوري‘ إلى والديه ليلة عيد الميلاد، وارتعدت حين تخيَّلت نفسي ماشيا إلى منزلهم وهُم مجتمعون حول مائدة عيد الميلاد لأخبرهم أنني أحمل إليهم ابنهم ميتا، ولذا رفضت المهمة، وقُلت (لقادتي) إنني لن أفعل ذلك ما لم يكُن أمرا (عسكريا)".

شعر جورجيون كُثُر، لا سيما الأقل ارتباطا منهم بالاتحاد السوفيتي، ألا ناقة لهم ولا جمل في ذلك الصراع، وفي محاولة موسكو إثبات رؤيتها الجيوسياسية في صحراء بعيدة. ولم تزدد تلك التصوُّرات إلا رسوخا مع وصول أول نعش من الزنك إلى تبليسي (عاصمة جورجيا) ومع حكايات الجثث المُمزَّقة؛ لقد تحوَّل الجورجيون مجددا إلى ضحايا عادة روسيا القديمة عزف سيمفونياتها العسكرية على أراضٍ أجنبية. وشرع الآباء المذعورون آنذاك بفعل ما بوسعهم، فقدَّموا الرشى والإعفاءات الصحية المزوَّرة إلى مراكز التجنيد، وشحذوا ما أمكن شحذه من صِلاتهم العائلية، بل وأحيانا توسَّلوا للحيلولة دون دخول أبنائهم الخدمة العسكرية، أو على الأقل لكيلا تكون خدمتهم في أفغانستان.

أتذكَّر حديثا دار بين أمِّي ومُعلِّمي للموسيقى من أيام حضوري حصص الموسيقى حينئذ، إذ تكلَّما معا بمزيج من الجورجية والروسية كما جرت العادة بين المتعلِّمين في تبليسي، فقال لها: "حين استُدعي ولدي إلى الخدمة (العسكرية)، ذهبت مباشرة إلى القسم الحكومي العسكري وأخبرتهم أنني سأشنق نفسي على بابهم إذا ما أرسلوا ولدي إلى ذلك المذبح". في الأخير، لقي 128 جورجيًّا حتفهم في أفغانستان، وفقا لبيانات وزارة الدفاع الجورجية، وأتى الكثيرون منهم من عائلات ريفية؛ فلم يتمكَّن آباؤهم من تقديم الرشى أو التوسُّط لإخراج أسمائهم من الخدمة في أفغانستان. هذا وقُتِل نحو 15 ألف جندي سوفيتي وجُرِح 53 ألفا خلال تلك الحرب.

عادة ما اعتمد الجيش السوفيتي على أهل القوقاز وآسيا الوسطى أثناء العمليات العسكرية الصباحية. (مواقع التواصل)

لم يكُن "كابانادزِه"، ابن الفلاح الجورجي، يعرف الروسية أصلا حين وصل إلى "جلال آباد". "حين سألني ضابط روسي عمَّا إن كنت أقبل بالعمل ’نقَّابا‘؛ تطوَّعت لذلك ظنًّا أن الكلمة (بالروسية) تعني الطبَّاخ. ثم دُهِشت حين قام إليّ الضابط واضعا يده على كتفي وقال لي إنني بطل. وقبل أن أستفهم عن الأمر، إذا بي أُنقِّب عن الألغام في الصحراء"، هكذا تحدَّث "كابانادزِه" والابتسامة تعلو وجهه، ثم أكمل حديثه: "اضطُررت مرة إلى ربط لغم بجثة أحد المتمردين، فقد عرفنا أن ’الدوشماني‘ (الاسم السوفيتي للمجاهدين الأفغان) يعودون دوما لاستعادة جثث قتلاهم، ومن ثمَّ انفجرت تلك الجثث الملغَّمة فيهم فور لمسها".

حين عاد "كابانادزِه" إلى جورجيا بعد عامين من الخدمة، أنزلته طائرة عسكرية في أوزبكستان دون أن يمنحه أيٌّ من مسؤوليه تذكرة عودة إلى تبليسي، فاضطُر الرجل إلى شق طريقه بنفسه. وزاد الطين بلَّة ما حمله من ميداليات وأنواط عسكرية أثارت شكوك الشرطة فيه، فألقت القبض عليه ظنًّا منها أنه سرقها. "لقد فاتتني الحافلة المتوجِّهة إلى منزلي، واضطررت للتسوُّل من الناس ليشتروا لي تذكرة، وحين أدركوا أخيرا أنني بطل حرب حقيقي تم تكريمه، أخذني مأمور الشرطة بنفسه إلى قريتي في سيارته".

شاعت أسطورة آنذاك بأن الجيش السوفيتي اعتمد على أهل القوقاز مثل الجورجيين والأرمن، نظرا للتشابه بينهم وبين أهل الشرق الأوسط، وقد أخبرني "كابانادزِه" أن ذلك صحيح جزئيا: "كانت مُعظم القوات روسية، لكنني قابلت جورجيين كُثُر في وحدتي، وعادة ما اعتمدوا على أهل القوقاز وآسيا الوسطى أثناء العمليات العسكرية الصباحية، لأننا احتملنا حرارة الجو أكثر من الروس الذين غُشِيَ عليهم كثيرا من ضربات الشمس والجفاف".

إمبراطورية أخرى وسيمفونية أخرى

أخذت ردود الأفعال السلبية حيال أفغانستان تضرب الاتحاد السوفيتي في الصميم حين بدأت أتعلَّم الأنغام العسكرية الروسية استعدادا لدوري المستقبلي عضوا في الفرقة الموسيقية العسكرية، وكان "وداع سلافيانكا"، ذلك المارش المشهور من الحرب العالمية الأولى الذي تحوَّل إلى أحد أنغام الحرب العالمية الثانية، هو مقطوعتي المفضَّلة، بعدما أمكنه أن يؤدي الدور نفسه أثناء الحرب الجارية. وقد لعب مُعلِّمي للموسيقى أنغام تلك المقطوعة بحماس على البيانو بينما التقطت اللحن منه بواسطة المزمار، وعزفنا حينئذ على وقع تصدُّع تلك القوة العظمى من حولنا.

حين دخلت الجامعة في نهاية التسعينيات، كانت أوصال تلك الإمبراطورية (السوفيتية) قد تقطَّعت بهدوء وتخلَّلتها بعض الضغائن الإثنية والاستعمارية. وسارعت جورجيا إلى توطيد علاقاتاها مع الولايات المتحدة، وتحلَّلت من الهيمنة الروسية بسرعة أكبر. أما أنا فجلست أحك رأسي بأحد الفصول الدراسية المُهدَّمة مُحاوِلا البحث عن الجزء الأساسي لبندقية آلية مُفكَّكة أثناء دورة تدريبية عسكرية في جامعتي. وقد درَّسني حينها محارب متقاعد جاوز التسعين من عُمره، وأمضى معظم وقته في الرد على سخرية بعض زملائي منه، ولم يمنحنا درسه العقيم شيئا سوى سبيل للإعفاء من الخدمة العسكرية الإجبارية في القوات المسلحة المستقلة لجورجيا. وقد وقفت يوم الاختبار النهائي في ميدان للرماية، ولم أفلح في تصويب رصاصة واحدة على هدف كبير جدا بصورة هَزْلية. لكن ذلك لم يمنعني من إتمام الدورة التدريبية برُتبة ملازمٍ ثانٍ.

نسي الجميع أفغانستان بدرجة كبيرة حينها، ومحا أثرها من ذاكرة الجورجيين حروبٌ أهلية وانفصالية عدة أحدث وأقرب لنا، بيد أن ذلك لم يستمر طويلا. كان الفصل الدراسي الجديد قد بدأ بالكاد، حين عُدت يوما لأجد جدتي باكية أمام التلفاز، بعدما أذاعت قناة "سي إن إن" صورة ناطحة سحاب مُحترقة في نيويورك: "لقد اصطدمت طائرة ببناية في أميركا. لماذا يبنون هذه البنايات الضخمة؟ يا لهم من مساكين". قرَّرت الولايات المتحدة غزو أفغانستان، فبدأت حربها الأبدية كما سُمِّيت، وانضمَّت جورجيا عام 2004؛ لإثبات قيمتها عضوا مستقبليا في حلف الناتو بالأساس، وكذلك لتعزيز قدراتها الدفاعية. كانت الخدمة في أفغانستان هذه المرة باختيار الحكومة الجورجية ولم تكن الخدمة العسكرية إجبارية، ومن ثمَّ رحَّب جنود جورجيون كُثُر بمهماتهم.

روى "بِندياشفيلي" قائلا: "علمت أنك إذا دُعيت إلى بيت أفغاني، فلن يطولك أذى ما دُمت هناك. الضيف مُقدَّس عندهم، تماما كما هو عندنا نحن الجورجيين".  (رويترز)

ذهب "ديفيد بِندياشفيلي"، شاب من مثل سِنِّي قادم من مدينة "باطومي" الساحلية، للتدرُّب في الولايات المتحدة قبل إرساله إلى "هِلمَند" بأفغانستان، وقد تحدَّث بحماس عن التدريبات، التي اختلفت تماما عمَّا حكاه "سوبيكاشفيلي" قبل ثلاثين عاما، وتضمَّنت الجري ليوم كامل بين الجبال دون طعام أو شراب تحت شمس "فرغانِه" الحارقة. "كان الأمر صعبا في أفغانستان، لكنني مُمتن أنني فعلته، إذ علَّمني الكثير مهنيا، وشخصيا أيضا"، هكذا أخبرني "بِندياشفيلي" الذي يعيش في لشبونة حيث يعمل تاجرا بحريا.

استرجع "بِندياشفيلي" عبر مكالمة فيديو بعض ذكرياته قائلا: "في كل مرة خرجنا فيها من القاعدة العسكرية، حيث أقمنا داخل خيَم محصَّنة بالأكياس الرملية، شعرنا بالفخر ونحن نقود عربتنا المُدرَّعة ذات الأعلام الجورجية. وحين التقينا مشايخ القرى المحليِّين، سألَنا بعضهم ما إن كنا صليبيين (علم جورجيا الأحمر والأبيض ذو الصُّلبان الخمس يبدو جزئيا علما صليبيا)، وتحدَّثوا عن الصليبيين كما لو كانوا بيننا البارحة".

لكنه وجد أيضا من هؤلاء المشايخ من دفعه الفضول إلى السؤال عن مواقف جورجيا الجيوسياسية المتحوِّلة، إذ سأل أحدهم: "ألم تغزونا سابقا جنبا إلى جنب مع الروس؟ أتحاربونهم الآن؟". ثمة أشياء لم تتغير بين الحربين، روى "بِندياشفيلي" قائلا: "علمت أنك إذا دُعيت إلى بيت أفغاني، فلن يطولك أذى ما دُمت هناك. الضيف مُقدَّس عندهم، تماما كما هو عندنا نحن الجورجيين". لقد سمعت الأمر نفسه بالحرف من "كابانادزِه" و"سوبيكاشفيلي".

سحبت جورجيا قواتها من الحرب في يونيو/حزيران المنصرم (2021)، وفقدت 32 جنديا في حرب أفغانستان الأميركية، ويُنظر اليوم إلى الوحدات الجورجية التي تدرَّبت مع حلف الناتو وحصلت على خبرة حربَيْ أفغانستان والعراق بوصفها نُخبة الجيش الجورجي. وقد ترقَّى كثيرون منهم في رُتب القوات الجورجية أو عادوا إلى أفغانستان من أجل عقود سخية مع شركات الأمن الخاصة، بل إن بعضهم عَلِق في مطار كابُل إبَّان الانسحاب الأميركي الفوضوي من البلاد أغسطس/آب الماضي.

حرس الشرف يحمل نعوش الجنود الجورجيين الذين قتلوا في أفغانستان في مطار تبليسي. (رويترز)

بيد أن محاربي الحرب السوفيتية لا يُذكَرون إلا نادرا، وتدفع لهم الدولة الجورجية نظير خدماتهم لدولة طويت صفحتها منذ زمن مبلغ 22 لاري (7 دولارات) شهريا، وتمنحهم الركوب المجاني للمواصلات العامة، وهُم يجتمعون سنويا يوم 15 فبراير/شباط في ذكرى سحب الاتحاد السوفيتي قواته من أفغانستان عام 1989. هنالك نصبان تذكاريان في جورجيا لإحياء ذكرى الجنود الذين سقطوا في الحربين الأفغانيتَيْن، وقد اقتفيت مؤخرا أثر النصب الأقدم، السوفيتي، الواقع على تخوم تبليسي، مَخفيا في حديقة صغيرة. هُنا يقف لوح برونزي ضخم اتخذ شكل الشُّعلة، وأمامه تمثال إنسان بالحجم الطبيعي وقد صدأ قليلا. بينما أطالعه تدُق في رأسي أنغام "سلافيانكا" العذبة والمُرَّة، تلك الأغنية التي جالت ميادين حروب شتى قبل اليوم.

___________________________________________

ترجمة: نور خيري

هذا التقرير مترجم عن Eurasianet ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة