شعار قسم ميدان

أزمة قرداحي والتصعيد السعودي.. هل تُحقِّق الرياض أهدافها؟

Lebanese Information Minister George Kordahi meets with Maronite Patriarch Bechara Boutros Al-Rai (not pictured) in Bkerke, Lebanon October 30, 2021. REUTERS/Mohamed Azakir

في وقت كانت بيروت لا تزال تسعى فيه لاحتواء آثار العاصفة الدبلوماسية التي أثارتها تصريحات وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي حول حرب اليمن، التي اعتبرتها السعودية "مُسيئة بحقها"، كُشِف الستار عن تسريبات لوزير الخارجية "عبد الله بوحبيب" أضافت المزيد من الوقود إلى النيران المشتعلة بالفعل في العلاقات اللبنانية السعودية، إذ حمَّل بوحبيب -في التسريب المزعوم- الرياض ضمنا المسؤولية عن حركة تهريب المخدرات المتزايدة من لبنان إلى السعودية، كما قلَّل من حجم المساعدات السعودية وتأثيرها على بلاده، مُشيرا إلى أن "مساعدات السعودية أُعطيت في الانتخابات ولم تعلم الدولة عنها شيئا"، وأن "الدعم الأكبر للبنان عبر القروض والهبات جاء من الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي".

 

سرعان ما تكالبت وسائل الإعلام السعودية على بث التسجيل الصوتي المُسرَّب، كما أرفق التلفزيون السعودي التسجيل بتغريدة جاء فيها: "هذا ما يقوله وزير خارجية لبنان عن المملكة.. مُنكِرا مساعدتها"، فيما وصفت صحيفة "عكاظ" التصريحات بـ "الحاقدة" على دول الخليج والسعودية، و"المنسجمة مع الدعايات المُغرضة التي يُروِّجها زعيم مليشيا حزب الله وأعوانه في طهران، ساعيا لشيطنة دول الخليج والتقليل منها".

 

ولكن في الواقع، تتجاوز الأزمة الدبلوماسية الحالية بين البلدين تصريحات بوحبيب وقرداحي، وهي تعكس في جوهرها صراعا طويل الأمد على النفوذ بين السعودية مُمثِّلة وراعية المعسكر السني وبين إيران الشيعية، في بلد تزداد هشاشته على خلفية تآكُل منظومة اتفاق الطائف وتنامي نفوذ طهران عبر ميليشياتها في سوريا وترسُّخ قبضة حزب الله الذي تَعزَّز موقعه في السياسة اللبنانية بسبب مكتسباته من الحرب السورية، في مقابل عزوف سعودي ملحوظ عن تقديم الدعم السياسي والاقتصادي المعتاد للبنان نتيجة ما ترى الرياض أنه تقبُّل أطراف لبنانية شتى لهيمنة حزب الله، ما أفضى بالتبعية إلى أزمة اقتصادية مستمرة في بلد طالما اعتمد على أموال المساعدات القادمة من الخليج طيلة العقدين الماضيين.

 

أزمة قرداحي.. لبنان يطلق النار على قدميه

في الخامس من أغسطس/آب الماضي، تجهَّز الإعلامي اللبناني الشهير جورج قرداحي لجملة أسئلة أُلقيت عليه أثناء استضافته من قِبَل "برلمان شعب"، أحد البرامج الرقمية التابعة لشبكة الجزيرة الإعلامية. ناقش قرداحي، الذي عرفه العرب لسنوات مُقدِّما لبرنامج "مَن سيربح المليون" عبر شاشة "إم بي سي" السعودية، أسئلة الشباب ممَّن مثَّلوا دور أعضاء البرلمان في البرنامج، وما إن سُئل عن رأيه في الحرب التي اندلعت في اليمن منذ عام 2014 حين سيطر الحوثيون على العاصمة صنعاء، حتى أطلق قرداحي العنان لتصريحات جريئة، وصف خلالها الحرب في اليمن بأنها "عبثية"، مُشيرا إلى أن هجمات الحوثيين ضد المدنيين والممتلكات السعودية -في رأيه- دفاع عن النفس أمام الهجمات السعودية.

 

أثناء اللقاء، لم يكن قرداحي قد عُيِّن بَعد وزيرا للإعلام في حكومة "نجيب ميقاتي"، التي تشكَّلت في سبتمبر/أيلول، لكن رده أغضب السعوديين الذين حمَّلوا الحكومة ولبنان عامة مسؤولية التصريحات "المُسيئة"، ولم يلبث الأمر أن تحوَّل إلى خلاف دبلوماسي كبير، أقدمت خلاله الرياض على طرد السفير اللبناني من أراضيها، ثم لحقت بها الإمارات والكويت والبحرين، كما أوقفت السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي جميع الواردات اللبنانية التي تبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات.

 

تُشكِّل أزمة بمثل هذا الحجم، وفي هذا التوقيت الحساس، ضربة للبنان الذي كانت حكومته الجديدة تستعد لجولة من النشاط الدبلوماسي تُركِّز على تأمين المساعدات الدولية، لا سيما من دول الخليج، وبالأخص السعودية، إذ يغرق لبنان في قبضة أزمة اقتصادية ومالية اعتبرها البنك الدولي واحدة من أسوأ الأزمات في العالم. كما تأتي أزمة قرداحي في وقت يُكابد فيه حزب الله اللبناني أزمات عدّة، ليس آخرها حادثة الطيونة في بيروت أواخر أكتوبر/تشرين الأول الفائت وما ترتَّب على إثرها من تراشقات بين حزب الله والقوات اللبنانية، ناهيك بتزايد الضغوط من قِبَل القوى التي تعتبر الحزب العائق الرئيس في الحصول على مساعدات دولية من فرنسا والمملكة العربية السعودية وغيرهما من الدول.

BEIRUT, LEBANON - OCTOBER 14: Fires broke out during fierce gun battles during a protest on October 14, 2021 in Beirut, Lebanon. There are reports of 5 dead and 20 injured so far in Beirut, after protesters demanded the dismissal of judge Tarek Bitar, responsible for investigating the explosion at the port of Beirut in 2020. Gunfire erupted shortly after a complaint against him was dismissed. (Photo by Marwan Tahtah/Getty Images)

ورغم المعارك التي يخوضها الحزب داخليا، فإنه تمكَّن من توظيف نفوذه لتعطيل جلسات البرلمان اللبناني منذ 12 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مُعترِضا على مسار التحقيق في انفجار مرفأ بيروت ومُطالِبا بتنحي القاضي طارق البيطار. ورغم أن الحزب المدعوم من إيران لا يزال هو صاحب الكلمة العليا في السياسة اللبنانية، فإنه بات يرى في مطالب المجتمع الدولي بإجراء الانتخابات ذريعة لقلب الأغلبية التي فاز بها عام 2018، في ظل توقُّعات أن تسفر الانتخابات في هذا الوقت عن مكاسب للقوات اللبنانية المسيحية المناهضة لحزب الله.

 

بيروت في قلب الصراع

في خضم تلك الخيوط المعقَّدة، لم يكن الوضع يحتمل توترا إضافيا على صعيد علاقات لبنان الحساسة وتوازنه الهش بين الرياض وطهران، ومن ثمَّ أتى تصريح قرداحي شرارةً أجَّجت علاقات متوترة بالفعل، وفتحت الباب لخروج أزمة مكتومة منذ زمن بين السعودية ولبنان إلى السطح، أو بالأحرى بين السعودية والتحالف السياسي-العسكري الذي يسيطر فعليا على مجريات الأمور في لبنان، ويتمتع كما هو معروف بعلاقات متينة مع طهران.

 

وفيما يبدو، فإن الرياض قدَّرت أن تصريحات قرداحي تُقدِّم لها فرصة لممارسة بعض الضغط من أجل تحجيم سيطرة حزب الله على السياسة اللبنانية، لا سيما أنها ما زالت تملك أوراقا اقتصادية مهمة بالمقارنة مع طهران المُكبَّلة اقتصاديا بسبب العقوبات الغربية. وقد صرَّح الأمير "فيصل بن فرحان آل سعود"، وزير الخارجية السعودي، تعقيبا على أزمة قرداحي أن "من المهم أن تشق الحكومة اللبنانية طريقا إلى الأمام يُحرِّر لبنان من البناء السياسي الحالي الذي يُعزِّز هيمنة حزب الله".

لطالما امتلكت الرياض سلطانا غير هيِّن في لبنان، لا سيما مع رعايتها لاتفاق الطائف التاريخي، وقد قدَّمت السعودية على مدار العقود الماضية التدفُّقات المالية الأكبر لشرايين الاقتصاد اللبناني، ونجحت عبر صِلاتها في صقل تحالف 14 آذار بقيادة عائلة الحريري، ناهيك باستضافتها جالية لبنانية مُعتبَرة على أراضيها من الباحثين عن العمل في الخليج، الذين تُقدَّر أعدادهم بأكثر من 350 ألف لبناني يساهمون بتحويلاتهم المالية في اقتصاد لبنان الصغير والهش.

 

ولكن منذ اغتيال رفيق الحريري عام 2005، وهو الحليف السعودي الأبرز ربما في تاريخ لبنان الحديث كله، بدأ التراجع التدريجي للسلطان السعودي، وقد أظهرت السعودية منذئذ امتعاضها الشديد من تنامي النفوذ الإيراني الذي ما انفك يتزايد بعد حرب يوليو/تموز 2006 بين حزب الله وإسرائيل. بيد أن السعودية استمرَّت في التمسُّك بأوراقها في صفوف القيادات السنية، الضعيفة في معظمها بعد رحيل رفيق الحريري، مُراهِنة على نجله رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري، الذي أثبت في أكثر من مناسبة أنه لم يكن على قدر تطلُّعات حلفائه في السعودية بعد فشله في تحجيم حزب الله.

 

ومع توتر العلاقات بين السعودية والحريري، فقدت الرياض آخر حلفائها المُعتبَرين في لبنان، ومن ثمَّ بدأت أصداء التوتر تنعكس على العلاقات التجارية بين البلدين. في الربيع الماضي، حظرت السلطات السعودية استيراد جميع الفواكه والخضراوات اللبنانية بدعوى استخدامها في تهريب المخدرات، وكذلك رفضت دعم ميقاتي رئيسا للوزراء بسبب تحالفه مع حزب الله.

 

استنادا إلى هذه الخلفية، يؤكِّد الأكاديمي والمحلل السياسي اللبناني "وليد فخر الدين" أن ردة فعل السعودية تتجاوز تصريحات وزير الإعلام اللبناني بحد ذاتها، يُضاف إلى ذلك أن قرداحي عمل لسنوات في وسائل إعلام سعودية، وهو ما يزيد من حساسية تصريحاته، ويرى فخر الدين أن "التصعيد مع السعودية عمل غير عقلاني وغير مسؤول من قِبَل الحكومة اللبنانية، ومن حزب الله تحديدا، وأنه سيؤدي إلى مزيد من التدهور الاقتصادي للبلاد في وقت لم يعُد أحد فيه قادرا على تحمُّل تبعات الخلاف مع الخليج".

 

يردف فخر الدين بالقول إن الموقف السعودي "جاء أكثر تشدُّدا في لحظة تحوُّلات دولية لم تحسم نتائجها، مثل ملف الاتفاق النووي مع واشنطن والمباحثات السعودية-الإيرانية، وأن السعوديين أرادوا إظهار الانفصال الواضح بينهم وبين الواقع السياسي في لبنان ما دامت سيطرة حزب الله مستمرة وسط حكومة في أغلبها من معارضي السعودية، ولذا فإن استغلال الرياض لأزمة قرداحي هو رسالة تصعيد للتوافق الضمني الإيراني-الفرنسي بأن تخطي السعودية لن يمر".

 

الرياض.. فوائد التصعيد ومخاطره

A poster of Lebanese Information Minister George Kordahi is seen on a billboard in Sanaa, Yemen October 31, 2021. The billboard reads: "Yes George, Yemen's war is futile." REUTERS/Khaled Abdullah

من خلال التصعيد في أزمة قرداحي، تُرسل السعودية إذن رسائل تتجاوز حدود لبنان نفسه، وصولا إلى القوى الإقليمية الفاعلة والدولية على الساحة اللبنانية. لكن الأمور لا تقف عند هذا الحد، حيث يرتبط الملف اللبناني أيضا بالملف اليمني المصيري بالنسبة إلى السعودية، لا سيما مع الدور الذي يلعبه حزب الله في دعم الحوثيين. ويؤكِّد الصحفي اليمني "عبد الله دوبله" أن السعودية لا تعاني من دور حزب الله في لبنان فحسب، بل وفي الحرب اليمنية أيضا، ومن ثمَّ فإن الضغط هنا على حزب الله له أصداؤه في ملفات إقليمية أخرى. ورغم ذلك، يستبعد دوبله أن يؤثر الموقف السعودي الحالي في لبنان على الملف اليمني قائلا: "حلفاء إيران لا يتراجعون إلا بالقوة المسلحة، والضغط السياسي وحده لن يكفي، ولا أظن هذه الخطوة ستُجبر حزب الله على التنازل".

 

في وقت تُريد فيه الرياض أن تستعيد دورها في لبنان سياسيا، وفي وقت ستستفيد فيه أطراف عديدة في لبنان من عودة المال السعودي لممارسة دوره المعتاد في إنعاش الاقتصاد اللبناني، لا سيما مع عودة أسعار النفط إلى الارتفاع، واستعادة السعودية لقدراتها المالية التي تجلَّت بإيداع ستة مليارات دولار في البنك المركزي المصري منذ أسابيع دعما للاقتصاد المصري، ترغب السعودية وحلفاؤها الخليجيون في التأكُّد أن أي استثمار مستقبلي سيوجِّهونه إلى الساحة اللبنانية سوف يخدم أهدافهم، ولن يُسهم في النهاية في تقوية حزب الله وحلفائه.

 

لكن الضغط المُكثَّف لا يخلو من مخاطر أيضا، حيث يدرك الجميع ألا أحد على الساحة اللبنانية بمقدوره أن يُضاهي نفوذ حزب الله، وهو ما عبَّر عنه وزير الخارجية اللبناني صراحة بقوله: "إذا كانوا -السعوديون- يريدون فقط رأس حزب الله فنحن ببساطة لا نستطيع فعل ذلك"، وفي تلك الحالة، فإن الحزب المدعوم من طهران سوف يسعى لاستثمار هذا الضغط لصالحه من أجل ترسيخ عُزلة لبنان عن جواره الخليجي، وهو عزل كلما طال أمده أصبح النفوذ الإيراني في البلاد حقيقة راسخة لا سبيل لعكسها، خاصة إذا انعدمت الدوافع السياسية لدى الغرب لمواجهة طهران حال عودتها للاتفاق النووي، وإذا استمر التفاهم الفرنسي الإيراني في الهيمنة على المشهد اللبناني، مُستفيدا من الانسحاب الأميركي والعزوف الخليجي.

المصدر : الجزيرة