شعار قسم ميدان

قانون الجرائم الإلكترونية.. نسخة "الأخ الأكبر" الفلسطينية

فلسطين رام الله 9 تموز 2017 صحفيون ونشطاء يعتصمون أمام مقر نيابة رام الله للمطالبة بالافراج عن الصحفي جهاد بركات.
عند حاجز "عناب" الإسرائيلي العسكري، على المدخل الشرقي لمدينة طولكرم شمال غربي الضفة الغربية المحتلة، المسؤول يوميًا عن تعطل حركة السير، والتفتيش المرهق، بدأت حكاية مراسل قناة فلسطين اليوم جهاد بركات، حكاية ربما لم تخطر بباله مطلقًا، حين اقترب من موكب رئيس الوزراء في سلطة رام الله رامي الحمد الله، وأطلق العنان لكَاميرته الخاصة بالتقاط صورة له وهو خاضع لسياسة تفتيش الجنود الإسرائيليين لموكبه.

 

فور التقاط الصورة، راقبته أعين بعض العاملين في مخابرات السلطة، ثم سارعوا لتتبع السيارة التي اقتادها مع زميله، ليفاجأ بِاعتراضها من قِبل رجلين بملابس مدنية، ثم بِسحبه بالقوة من سيارته وسؤاله عن سبب تصويره لموكب رئيس الوزراء، ثم مصادرة الهاتف الشخصي وجهاز الحاسوب المحمول، وكل ما يتعلق بجهاد شخصيًا وعمليًا داخل السيارة، ثم تم تسليمه ومرافقه لجهاز الأمن الوقائي(1).

 

خضع جهاد للتحقيق بين غرف السجن ثلاثة أيام كاملة، إلى أن تم الإفراج عنه من قبل النيابة العامة بمدينة رام الله المحتلة، بكفالة مالية، إثر تفاهمات بين النيابة ونقابة الصحفيين(2)، وسط موجة تنديد وسخط داخل أوساط معظم وسائل الإعلام المحلية، موجة لم تأت من فراغ وإنما تزامنت مع تراكمات عدة يحملها نشطاء فلسطينيون، جراء استمرار أجهزة الأمن الفلسطيني في ملاحقة الصحفيين على خلفية انتقادات السلطة.

 

السلطة الفلسطينية اعتقلت الصحفي جهاد بركات مراسل قناة
السلطة الفلسطينية اعتقلت الصحفي جهاد بركات مراسل قناة "فلسطين اليوم" لتصويره سيارة رامي الحمد الله (الجزيرة)

 

كانت صورة الموكب لجهاد بمثابة قشة قَسمت ظهر بعير السلطة، ما دفعها للقبض على الصحافي الشاب، وهو ما اعتُبر رسالة ضمنية لوضع حد لكل من "يتجاوز حدوده" في انتقاد رموزها بحسب فهمها، لذا نجد أن التهمة الفلسطينية القانونية النادرة "التطاول على المقامات العليا" هي إحدى أكثر التهم الموجهة للشباب الفلسطيني، والمعتقلين السياسيين في محاكم السلطة الفلسطينية، وجرى محاكمة العديد منهم بها خلال السنوات القليلة الماضية.

 

إلا أن النقلة الحقيقية في مستوى تتبع السلطة للوسط الإعلامي الفلسطيني كانت بمصادقة رئيس سلطة رام الله محمود عباس، مطلع الشهر الماضي، على "قانون الجرائم الإلكترونية" الفلسطيني الجديد(3)، وهو ما عنى تحويل مناطق سلطة رام الله لنسخة "أخ أكبر" فلسطينية، تجسّد ما ذكره جورج أورويل في روايته 1984 حول تعسّف الأنظمة  في مراقبة شعوبها والسيطرة على أفكارهم في جميع مناحي الحياة.

 

الانتهاك
ينص القانون على عبارات فضفاضة شديدة العمومية تفسر دومًا بأشكال لا قياس لها، ما يعني كونه سيفًا مسلطًا على كل صحافي فلسطيني وناشط إعلامي يفكر بأي شكل في نقد السلطة، أو حتى سلوكيات الأجهزة الأمنية العاملة داخل مقراتها

في التاسع من (يوليو/تموز) الماضي نشرت جريدة الوقائع الفلسطينية الرسمية(4) قانونًا فلسطينيًا جديدًا، صدّق عَليه الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن قبلها بأسبوعين في 24 من (يونيو/حزيران)، أُطلق عليه قانون "الجرائم الإلكترونية" مكونًا من 61 مادة، ووُجه بالأساس، حسب تصريحات سلطة رام الله الرسمية، نحو "مكافحة الجرائم الإلكترونية بعد أن زاد عددها ثلاثة أضعاف تقريبًا لتصل إلى قرابة 1400 بلاغ سنوي"، إلا أن هذا السبب "الرسمي" لم يتسبب بالتأكيد في كمّ الغضب الإعلامي الفلسطيني السائد منذ شهر ونصف تقريبًا والمتواصل للآن.

 

لم يمر القانون بالطبع على المجلس التشريعي الفلسطيني، كونه منعقدًا بغياب النواب الموالين للرئيس الفلسطيني محمود عباس منذ أحداث الانقسام بين حركتي فتح وحماس في عام 2007، وقابلته حالة من الجدل والرفض من مؤسسات حقوقية وإعلامية، ناظرة إليه باعتباره هيمنة للسُلطة على السلطات التشريعية، وبسط أكبر للنفوذ داخل المراكز العليا في الضفة المحتلة.

 

أولى محطات التنفيذ الفعلي كانت في الفترة القريبة الماضية، حين شنّت الأجهزة الأمنية الفلسطينية حملة اعتقالات واسعة طالت خمسة إعلاميين عامِلين في مؤسسات عربية ومحلية، ووكالات أخبار، بتهمة "تسريب معلومات حساسة إلى جهات معادية"(5). وتزامن اعتقالهم مع اعتقال الأجهزة الأمنية الفلسطينية في قطاع غزة مؤخرًا لعدد من النشطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي بتهمة "إساءة استخدام التكنولوجيا"، كما تم بالفعل مع المفرج عنهما مؤخرًا الناشط عامر بعلوشة، ومراسل قناة فلسطين فؤاد جرادة.

 

ينص القانون، والمُشبه من قبل صحف دولية بقانون الجرائم الإلكترونية الإماراتي(6)، على عقوبات تصل للأشغال الشاقة المؤبدة ضد من يرتكب "جرائم إلكترونية"، كـ"نشر أو مشاركة ما من شأنه الإخلال بالنظام العام، أو تعريض سلامة الوطن وأمنه للخطر، أو (منع/عرقلة) السلطة من ممارسة أعمالها، أو تعطيل أحكام القانون الأساسي، أو بقصد الإضرار بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي"(7)، وهي عبارات فضفاضة شديدة العمومية تفسر دومًا بأشكال لا قياس لها، ما يعني كونه سيفًا مسلطًا على كل صحافي فلسطيني وناشط إعلامي يفكر بأي شكل في نقد السلطة، أو حتى سلوكيات الأجهزة الأمنية العاملة داخل مقراتها.

الخطة
أُنشأت في الضفة المحتلة نيابة متخصصة لـ
أُنشأت في الضفة المحتلة نيابة متخصصة لـ"الجرائم المعلوماتية الإلكترونية"، ومبرر ذلك ارتفاع نسبتها التي وصلت إلى 40% من إجمالي الجرائم العامة، وتم على إثرها اعتماد دائرة "مكافحة الجرائم المعلوماتية"
 

لم تأت سرعة إصدار القانون من فراغ، بل سبقتها حلقات متشابكة كانت سببًا في تهيئة الظروف لإصداره(8)، فأنشأت النيابة العامة في الضفة المحتلة نيابة متخصصة لـ"الجرائم المعلوماتية الإلكترونية"، مبررة ذلك بارتفاع نسبتها وصولًا إلى 40% من إجمالي الجرائم العامة، ثم تم اعتماد دائرة "مكافحة الجرائم المعلوماتية"، ثم جاءت المرحلة الثالثة بعيد تكوين القوة التنفيذية بإعداد وصياغة قانون تمت قراءته للمرة الأولى في مجلس الوزراء(9).

 

يبرز سؤال هام هنا عن ماهية اختلاف القانون الجديد عن "قانون العقوبات الأردني"، لعام 1960، المعمول به سابقًا في أراضي الضفة المحتلة؟ وتأتي الإجابة على هذا التساؤل من بعض القائمين على المحاكم النيابية في الضفة موضحين أن نصوص القانون الجديد "عامة"، ما يعني إمكانية تطبيقه بمختلف الأشكال وبلا حدود حسبما ترى السلطة التنفيذية.

 

كانت البداية قديمة، وشكّل عام 2006 النواة الحقيقية لخروج القرار بشكله النهائي اليوم من خلال إنشاء "وحدة الدائرة الإلكترونيّة" بقرار من النائب العام الفلسطيني في الضفة الغربية، وكان عملها على نطاق ضيّق جدًا، إلى أن أصبحت عام 2009 تشمل متابعة الجرائم الإلكترونية، ثم أضيف لها بعد خمسة أعوام قوة شرطة، ما مثل الأرضية الأساسية لانطلاقة النيابة المعلوماتية وقوتها ثم نص القانون.

 

ترُد السلطة الفلسطينية على منتقدي القانون بأن "وحدة الجرائم الإلكترونية" بدأت عملها رسميًا في دائرة البحث الجنائي قبل أكثر من عامين، وبأن "الأمر ليس جديدًا على الساحة الفلسطينية"، بيد أن عقبة القانون الأردني في رأيهم هي عدم معالجته للجرائم الحديثة، وأن عقوباته المعمول بها لا تتجاوز مدة الحبس فيها ثلاثة أشهر، أو غرامة مالية تقدر بـ70 دولارًا فقط، ما يعني عدم ردع المخالفين بتلك العقوبات البسيطة كما يُرى.

 

العقبات
صحفيون ونشطاء يعتصمون أمام مقر نيابة رام الله للمطالبة بالافراج عن الصحفي جهاد بركات. (الجزيرة)
صحفيون ونشطاء يعتصمون أمام مقر نيابة رام الله للمطالبة بالافراج عن الصحفي جهاد بركات. (الجزيرة)

 

إن معظم من يقعون تحت طائلة القانون الجديد، والمعرّضين للاعتقال بطبيعة الحال هم من فئة الشباب كما أوردت إحصاءات "الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء"(10)، وهو ما فسر حجم الانتقاد والاعتراض الإلكتروني عليه في مواقع التواصل المختلفة بالإضافة للمواقع الصحفية.

 

وبعد حالات الاعتقال الأخيرة لنشطاء وصحفيين على خلفية آرائهم وانتقاداتهم الإلكترونية، ومع استمرار حالة تراجع الحريات -بنسب مختلفة- في الضفة وغزة، يحذر حقوقيون من تبعات القانون التي تقوم لمزيد من "التخبط والتجاوزات والانتهاكات"، وتتمثل مشاكل المعترضين معه في ثلاث مشكلات رئِيسة (11): الأولى هي إقراره دون مشاورة نقابة الصحافيين أو مؤسسات المجتمع المدني، أو حتى إطلاع المواطنين عليه، أما الثانية فاحتِواؤه على "مواد خطيرة" تجرّم كثيرًا من الممارسات العادية على نطاق واسع استنادًا لعبَارات فضفاضة مثل "السلم المجتمعي، الآداب العامة، أمن الدولة" وغيرها، والأخيرة هي إعطاء صلاحيات واسعة للنيَابة والشرطة في التفتيش والتنصت والحجب والاطلاع على الخصوصيات الشخصية دون رقابة قضائية كافية.

 

لا يقتصر الأمر على الضفة فقط، فنجد أن "سوء استخدام التكنولوجيا" مثلًا هي تهمة جديدة أضافتها مؤخرًا أجهزة الأمن الفلسطينية التابعة لحركة حماس في قطاع غزة، بعد أن ظهر للعلن تهديد وصل للصحفي عامر بعلوشة كما ذكرت شقيقة عامر، عبر حسابه الخاص على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، من قبل شخص طَالبه بمسح منشور له كتب فيه "في هذا الحر هل ينام القادة مثلنا على البلاط؟"(12). وتزامن وقت انتقاده مع استمرار أزمة انقطاع التيار الكهربائي عن القطاع بشكل مكثف في ظل ارتفاع درجات الحرارة، بحيث لا يتمتع أغلب سكان القطاع بالكهرباء إلا في أربع ساعات يوميًا تقريبًا.

 

لا يمكن إغفال إفرازات آلية التعامل الأمني في الضفّة وغزّة معًا لكل معارض لسيَاساتهما في حال ارتفعت حدتها إلى ما تسميه السلطتان بـ "التحريض وإثارة الفتنة"، و"القذف والتشهير بالمقامات العليا"، وهي تهم مطاطة تترك خوفًا وترددًا داخل الأوساط الشبابية على مستقبلهم من البقاء رهائن في يد أي سلطة لا تقبل النقد العلني، أو كشف الجوانب السيئة فيما يجري داخل كواليسها الأمنية، كأي كيان آخر، في وقت تتجه فيه تلك السلطات لنسخة "أخ أكبر" فلسطينية.

المصدر : الجزيرة