شعار قسم ميدان

ما بعد ترمب.. إلى أين يذهب الحزب الجمهوري؟

U.S. President-elect Donald Trump pauses as he talks to members of the media after a meeting with Pentagon officials at Mar-a-Lago estate in Palm Beach, Florida, U.S., December 21, 2016. REUTERS/Carlos Barria

بينما كانت النخب الأميركية في المدن الكبرى كواشنطن وسياتل ونيويورك ولوس أنجلوس وغيرها تراقب عن كثب مناظرات مرشحة الديمقراطيين هيلاري كلينتون ومرشح الجمهوريين دونالد ترمب على مقعد الرئاسة الأميركي بصورة من السخرية من ترمب تحمل قدرا كبيرا من الاستهجان بالرجل والاستخفاف به؛ كان ثمة رجل أبيض وعائلات من المزارعين والعمال في الغرب الأوسط وجنوب أميركا تتعلق أعينهم جميعا بشاشات التلفاز بلهفة وحماسة كبيرة نحو ترمب.

وبينما كانت شاشات المحطات الكبرى، مثل "سي أن أن"، و"أي بي سي"، و"سي بي أس" تنقل انطباعات الجماهير في مقهى "باس بوي آند بوت" في شوارع العاصمة دي سي كانت ثمة حانة متواضعة في مدن وقرى ولايات تغيب عنها الأضواء يجلس فيها أميركيون متحفزون دون أن تلتقطهم عدسات هذه القنوات.

ما سبق ليس مشهدا تخيليا في فيلم هوليودي، بل جوهر ما جرى في انتخابات الرئاسة الأميركية وانتخابات الكونغرس التي أجريت في نفس الموعد على نصف مقاعد مجلس النواب وثلث مقاعد مجلس الشيوخ.

 

هذا التاريخ الطويل من التقلب في السياسة الأميركية وتبادل المقاعد بين الحزبين ولد حزبا داخله تيارات مختلفة، فهو يضم المحافظين اجتماعيا والمتدينين الذين يرفضون زواج مثليي الجنس

ففي ذروة الشعور بالطمأنينة من قبل نخب الديمقراطيين لانتزاع كلينتون مقعد الرئاسة، وقلق نخب الحزب الجمهوري التقليديين من تأثير ترمب على حظوظهم في الكونغرس بعدما شعروا بفقدان الأمل في فوزه بمقعد الرئاسة كان الناخب الجمهوري التقليدي والمواطنون البيض البعيدون عن المدن الكبرى ونخبها تملؤهم الحماسة باقتراب موعد صفعهم لهذه النخب سواء التي يكرهونها من الحزب الديمقراطي أو تلك التي لم يجدوا منها سوى خيبة الأمل وعدم القدرة على التصدي لما يفعله أوباما بنموذجهم المحافظ الذي اعتادوا عليه، خاصة على مستوى الاجتماع والاقتصاد.

هذا المشهد الذي كان مفاجأة لكثير من المتابعين لم ينته عند حدود النتيجة المعلنة والتي كانت صادمة لكثير من نخب الجمهوريين مثلما كانت للديمقراطيين، بل فتح باب نقاش أوسع داخل أروقة السياسة الأميركية بشأن الحزب الجمهوري ومستقبله، وهو حوار بدأ مع صعود ترمب وتقدمه في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب متفوقا على أسماء، مثل كريس كريستي وجيب بوش وماركو روبيو وغيرهم من أصحاب الباع السياسي قبل أن يتوقف لحظيا مع إعلان النتيجة، ليذهب كثير من المحللين إلى أن ترمب قد أعطى للتو قبلة الحياة للحزب في الانتخابات ولم يؤد إلى انقسام قواعده أو خسارته، وهو ما ظل يتردد طويلا حتى بدء مشاورات تشكيل فريق عمل ترمب في الرئاسة والذي فجر جدلا جديدا مرة أخرى عن مستقبل الحزب وعلاقته بترمب، ولا سيما بعدما فاز الحزب بالأغلبية في الكونغرس وأصبحت ثمة ضرورة في التعاون بين كليهما بعدما كانت لترمب حرية حركة أكبر وكذلك للحزب وأعضائه المركزيين أثناء فترة الترشح، والتي كان الجفاء فيها قائما مع شخصيات ذات وزن مؤثر كبول ريان رئيس مجلس النواب أو آل بوش أو جون ماكين. 

 

كان ترمب كمن كشف الغطاء عن الحالة المزاجية للناخب الأميركي جمهوري الهوى الذي كان يبحث عن التغيير على طريقته، بينما الآن وبعد انفراد المؤسسة الحزبية بترمب باعتباره رئيسا بعيدا عن القواعد الشعبية بات السؤال هو: كيف سيدير ترمب هذه العلاقة، وهل سيقبل قادة الحزب والفاعلون المؤثرون فيه أي تغيير قد يقدم عليه ترمب، أم أنهم سيكونون أكثر تأثيرا في هذه الجولة؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال من المفيد معرفة ما جرى للحزب الجمهوري من قبل ترمب، وكيف أثر في قواعده، ولماذا رأته هذه القواعد الجمهورية واليمينية أملا في التغيير بحيث ساهمت في صعوده القوي على غير رغبة التقليديين بالمؤسسة الحزبية. 

 

الحزب الجمهوري وتطوره

نهار الأحد 29 مايو/أيار 2016 يقف دونالد ترمب (المرشح الرئاسي) في متنزه "ناشونال بارك" ليلقي خطابا جديدا يلوم فيه ضآلة الحشد الذي يخاطبه، يقول "كنت أتوقع أن تكون الحشود على نفس ضخامتها حين ألقى مارتن لوثر كينغ خطابه"، على مرمى البصر يجلس تمثال أبراهام لينكولن في نصبه التذكاري الشامخ منذ نصف قرن كانت خطبة مارتن لوثر كينغ التي نطق فيها عبارته الشهيرة: "أنا لدي حلم"، اليوم يبدو الوضع مختلفا بعض الشيء. 

"هل تخيل أبراهام لينكولن ذلك في أسوأ كوابيسه؟"، مثل هذا السؤال التهكمي بكل تنويعاته اللغوية كان محور ثرثرة العاصمة طوال الحملة الانتخابية. 

صعود ترمب أربك الحزب الجمهوري قبل أن يربك خصومه
صعود ترمب أربك الحزب الجمهوري قبل أن يربك خصومه

قبل 155 عاما وصل لينكولن إلى حكم الولايات المتحدة في أجواء يسودها التوتر، وأعلنت سبع ولايات جنوبية رغبتها في الانفصال لرفضها منع الرق وإنهاء سياسات العبودية، هي أجواء تشبه ما نعاصره مع فوارق القضايا وفوارق الانتماءات، فالرئيس الـ16 كان جمهوريا يرفض التمييز ويرغب في إنهاء الرق وعدم القبول بالانفصال، بينما من يستعد لأن يكون الرئيس الـ45 يتبنى خطابا عنصريا يزدري الآخر ويساهم في احتداد الانقسام المجتمعي، فاعلا كل ذلك عبر بطاقة ترشح عن الحزب نفسه.

تنطوي هذه المفارقة على تاريخ طويل لشعب الولايات المتحدة وتحولاته الاجتماعية والسياسية، ويمثل الحزب الجمهوري جزءا أصيلا ومثيرا للاهتمام، فالحزب الذي أنشئ في عام 1854 كان هو الحزب صاحب السياسات التقدمية الراغبة في مزيد من التحرر والانفتاح آنذاك، ولم تكن له أيديولوجية واضحة في كل القضايا التي تخص جوانب الحياة، لكنه عرف والحزب الديمقراطي بعكس ما يعرف عنهما حاليا. 

ورغم هذه التقلبات واللحظات الحرجة كان عام 1964 هو اللحظة التي رسمت الفروق الواضحة بين الحزبين اللذين بدا وكأنهما تبادلا جمهوريهما والقناعات التي كانت تنسب إلى كل منهما وأصبحت الأيديولوجيات غير متذبذبة، ففي ذلك العام وقع الرئيس الديمقراطي ليندون جونسون ميثاق حقوق الإنسان الذي كان من أبرز أهدافه إنهاء التمييز، خصوصا في عمق الجنوب الأميركي والغرب الأوسط معاقل البيض، وهو ما تزامن مع صعود حركات الحقوق المدنية والاجتماعية الشهيرة في عقد الستينيات. 

في المقابل، اتخذ الحزب الجمهوري منحى محافظا في القضايا الاجتماعية وتبنى سياسات التخفيضات الضرائبية، وسعد كثيرون بتحول الكتلة التصويتية لقرابة 11 ولاية جنوبية عند انتخاب الجمهوري ريتشارد نيكسون رئيسا في السبعينيات. 

هذا التاريخ الطويل من التقلب في السياسة الأميركية وتبادل المقاعد بين الحزبين ولد حزبا داخله تيارات مختلفة، فهو يضم المحافظين اجتماعيا والمتدينين الذين يرفضون زواج مثليي الجنس ويقدرون دور الأسرة والمجتمع الأبوي ويدعون إلى دور للدين في حياة الناس ويرفضون الإجهاض، وهو أيضا يضم المحافظين أصحاب التوجه الليبرالي اقتصاديا الذين يبدون رفضهم زيادة البرامج الاجتماعية وتدخل الدولة في ضبط إيقاع الأسواق والاقتصاد، وكذلك يضم كتلة من المحافظين الجدد على أقصى يمين الحزب، والمعتدلين ممن يمكن اعتبارهم يمين الوسط ولديهم قدر أكبر من الانفتاح في القضايا الاجتماعية. 

ومن الأمور الملفتة للنظر أنه على الرغم من سيطرة الديمقراطيين برئاسة بيل كلينتون طوال عقد التسعينيات فإن الجمهوريين سيطروا على الكونغرس منذ منتصف التسعينيات حتى منتصف الألفية الأولى، ولم يفقدوا الأغلبية إلا لأربع سنوات فقط قبل أن يستعيدوها مرة أخرى عام 2010.

ورغم بسط سيطرتهم السياسية في انتخابات الكونغرس -وهي الأكبر بعد الرئاسة- فإن الجمهوريين لم يحسموا الكثير من القضايا الاجتماعية لصالحهم، فبالنسبة إلى حقوق مثليي الجنس -على سبيل المثال- انحازت 38 محكمة عليا لحقهم في الزواج مقابل 12 فقط عارضته قبل أن تحسمه المحكمة العليا (بأغلبيتها الليبرالية وقتئذ) في يونيو/حزيران 2015 لصالح إقراره، وهو حال يتشابه مع جدلية حق الإجهاض التي وإن لم يقر بها حتى اليوم إلا أن إقرارها بات خيارا محتملا من حيث المبدأ في الداخل مع بعض الشروط التفصيلية التي تختلف من ولاية لأخرى.

في الوقت نفسه، ارتفع عدد غير التابعين لأي دين بين الأميركيين، بحسب مركز بيو للأبحاث في عام 2014 إلى 22.8% بين البالغين، من بينهم 73% تحت سن الخمسين، وصار لهذه الكتلة الجديدة رغم تفتتها وقلة تنظيمها صوت يريد أن يسمع في بلد يضع ثقته في الإله على عملته الرسمية ويختتم سياسيوه خطاباتهم -على اختلاف محتواها- بعبارة "بارك اللهم في أميركا".

محفزات صعود الشعبوية.. الإسلام وأوباما

هل كان الناخب الأميركي الذي يجلس في مدينة نائية أو قرية صغيرة ورحب بترمب وبخطابه وبوعوده أو عند الحد الأدنى لم يكترث لعنصريته هو نفس الناخب الأميركي طوال العقود الماضية؟

يخبرنا كثير من قدامى المسلمين بالإجابة عن الشق المتعلق بهم قائلين إن الحزب الجمهوري ما قبل أحداث أيلول/سبتمبر 2001 كان هو الحزب المفضل لدى المسلمين بحكم سياساته المحافظة اجتماعيا، هذا على الرغم من عدم تأثير المسلمين في مسار الانتخابات لا بأصواتهم القليلة أو حتى عبر مناقشة قضاياهم بشكل موسع كما يحدث الآن.

كانت علاقة أوباما بالإسلام والمسلمين محل نقد تيارات اليمين
كانت علاقة أوباما بالإسلام والمسلمين محل نقد تيارات اليمين
 

غير أن أحداث 11 سبتمبر/أيلول قلبت الموازين وأعادت توزيع خريطة التصويت وخلقت مزاجا مختلفا ومغايرا للناخب الأميركي عما سبقها، فقد كانت كافية لإظهار تيار "محافظين جدد" إلى صدارة الحياة الأميركية لتجد الأفكار اليمينية فرصة للتمدد في المجتمع الأميركي مع تنامي شعور بالخوف من الأجانب ولاسيما العرب والمسلمين، وكانت شعارات مثل "لماذا يكرهوننا؟"، و"من ليس معنا فهو ضدنا" سائدة في المناخ العام، وهو ما كان صداه واضحا في القوانين والإجراءات التي اتخذت من قبل الحكومة الأميركية.

لكن التكاليف الباهظة لحربي أفغانستان والعراق التي أثقلت كاهل الميزانية الأميركية والتضييقات التي تمت على الحريات المدنية والحقوق العامة ونالت خصوصية المواطنين دفعت المواطن الأميركي إلى أن يستفيق بعد خمس سنوات ليصوت في انتخابات التجديد النصفي للديمقراطيين فيسيطروا على الكونغرس ويحدوا كثيرا من نفوذ المحافظين الجدد قبل أن ينتزعوا مقعد الرئاسة في 2008 لكن بعدما تأسس خطاب شعوبي عنصري في جسد وعقل قطاع ليس بالقليل في المجتمع الأميركي، ويجد حاضنة شعبية يعتد بها.

عقب قدوم أوباما سعت إدارته مستثمرة أغلبية الديمقراطيين في الكونغرس لإعادة النظر في سياسات إدارة بوش والمحافظين الجدد، فأعادت النظر في العديد من القوانين وطبيعة عمل الهيئات التي أنشئت أيلول/سبتمبر، فيما كان التدخل كبير من جانب الحكومة الفدرالية في الاقتصاد وذلك في إطار محاولات إنقاذ اقتصاد البلاد من الأزمة المالية التي عصفت به، وهو ما ولد صراعا بين الإدارة الديمقراطية والجمهوريين، وبدأ الحزب الجمهوري ومنصاته الإعلامية باتهام الرئيس أوباما بتطبيق أجندة شيوعية.

وقد انعكس هذا الصراع في صعود حركة "حزب الشاي" داخل الحزب الجمهوري، وهي حركة كان خطابها على يمين الحزب وكانت ضد الزيادات في الضرائب، ورفعت شعار المحافظة على أميركا الأصلية التي يهددها الاشتراكيون، فقالوا إنهم يدعون للحرية وليس التحرر الذي يدعو إليه الليبراليون ووظفت خطابا دينيا محافظا، وناصبت غير ذوي الأصول البيضاء العداء، وقد لاقت هذه الحركة صدى مع الوقت خاصة مع خطابها الشعبوي والتبسيطي، وساهمت عمليا في مساعدة الحزب على اقتناص الأغلبية بمجلس النواب عام 2010.

وتولى الحزب الحكم في 24 ولاية في نفس العالم والفوز بمقعد عمدة مدن ذات هوى ديمقراطي كنيويورك، وسان دييغو، ودالاس.

وقد تسببت هذه الحركة بفاعليتها في أوساط قواعد الحزب وإحيائها أفكار عظمة الأمة الأميركية بالصدام مع بعض التيارات الأخرى ممن يصنفون من معتدلي الحزب، وأجبروا على التراجع لكن بعد أن نشروا أفكارهم واكتسبوا فاعلية ومساحة في أرض السياسة الأميركية كانت واضحة وقوية ومساهمة في صعود ترمب وتصدره على منافسيه داخل الحزب الجمهوري. 

أزمة النخب و"فقاعة واشنطن"
 

لا يمكن فهم السخط الجماهيري على النخب التقليدية -سواء في الحزب الجمهوري أو الديمقراطي- إلا بالبحث عن جذور أعمق وأقدم من المنافسة الانتخابية الأخيرة، فطبيعة هذه الانتخابات أنها لم تكن منافسة مألوفة بين الحزبين التقليديين، ولكن بين المؤسسة الحاكمة (The Establishment) وبين الشعبويين الآتين من خارجها. 

عاش المجتمع الأميركي مجموعة اضطرابات سياسية أظهرت ضعف النخب
عاش المجتمع الأميركي مجموعة اضطرابات سياسية أظهرت ضعف النخب
 

ويمكن رصد إرهاصات فوز ترمب منذ سبعة أعوام حين ظهرت حركة حزب الشاي اليمينية على الساحة السياسية لتنعق بما عد وقتها خطابا شعبويا معاديا للمؤسسة الحاكمة ولكنه لا يرقى إلى كسب دور جاد في دوائر صنع القرار، ولكنه ظل شوكة في ظهر الهيكل التقليدي للحزب الجمهوري، بعدها بعامين ستظهر حركة مناظرة على أقصى يسار الحزب الديموقراطي، وهي "احتلوا وول ستريت"، وستصوغ خطابا تقدميا يعادي النخب المالية في وول ستريت ويضع الكثيرين من داخل المؤسسة -وعلى رأسهم هيلاري كلينتون- في موضع تشكك لدى أطياف واسعة من الشعب.

بعدها بأعوام ستبدأ أولى جولات الانتخابات الرئاسية الأخيرة، سيبحث الجميع عن مرشحيْ الحزبين التقليديين هيلاري ضد من؟ تيد كروز، مارك روبيو، جون كيسيك، جيب بوش، هنا سيظهر دونالد ترمب الملياردير النيويوركي المهرج ليعلن ترشحه إلى الرئاسة على أقصى يمين المجال السياسي، وعلى أقصى اليسار يظهر بيرني ساندرز ابن حي بروكلين الكوزموبوليتاني الذي تنتشر فيه تعددية ثقافية وطبقة وسطى تمثل حاضنة شعبية مناسبة لليسار الأميركي ولحركات الحقوق المدنية. 

جسد ساندرز وترمب تحديا لقواعد اللعبة القديمة داخل حزبيهما، وأصبحت الانتخابات التمهيدية بمثابة صراع حزبي داخلي بين التقدميين/الشعبويين وبين رموز المؤسسة الحاكمة. 

شهدت الانتخابات التمهيدية منافسة شرسة داخل الحزب الديمقراطي، واستطاع ساندرز أن يلهب حماس أغلبية الشباب والأجيال الجديدة داخل الحزب بخطاب يخالف النمط التقليدي وبأفكار تتميز بالتحرر الاجتماعي وتنحاز له على مستوى قضاياه الاقتصادية، مثل قضية ديون التعليم على الطلاب، فضلا عن كونه لم يناله تلوث النخب السياسية عبر علاقتها بلوبيات المصالح والمال في "وول ستريت" وهو ما أثاره في حملته ضد كلينتون، وذلك قبل أن تتواطأ ضده مؤسسة الحزب الرسمية التي كشف عنها قبيل المؤتمر العام للحزب في يوليو/تموز الماضي وتسببت في استقالة رئيسة المؤتمر الوطني للحزب ديبي واسرمان شولتز لكنها لم تؤثر في فوز هيلاري ببطاقة الترشح عن الحزب.

أما بين المرشحين الجمهوريين فكان دونالد ترمب الذي جاء أيضا من خارج مؤسسة الحزب الجمهوري والمؤسسة السياسية برمتها أبرز تجسيد لحالة الغضب من النخب السياسية الجمهورية التي لم تستطع أن تقدم لقواعد اليمين الشعبية ما يرضيها، وفي البداية نظر إلى التأييد المتصاعد له على أنه "زوبعة في فنجان" لم يكن كثيرون يأخذونه مأخذ الجد، وقررت صحيفة هافنغتون بوست -على سبيل المثال- أن تضع أخبار حملته في قسم الترفيه، وكان هذا ظريفا حقا، ظنا منها أن الرجل يرغب في بعض المرح والشهرة السياسية بعدما حقق شهرة المال والإعلام، وعندما اكتسح نتيجة الانتخابات التمهيدية وبدأ يقصي مرشحا تلو الآخر فائزا بنحو 1542 مندوبا في الحزب مقارنة بـ542 لتيد كروز التالي له مباشرة في الأصوات طفق الكثيرون يستفيقون من غفوتهم ويتعاملون معه بجدية طارحين السؤال: كيف أثر ترمب هكذا في قواعد الحزب ومؤيديه؟!

لكن في حقيقة الأمر كان هذا السؤال السابق هو سر فوز ترمب في الانتخابات النهائية والتمهيدية أيضا، فالسؤال كان يكشف عدم دراية واضحة بما يجري في القرى والمدن الصغيرة وتغير طبقات ورغبات المصوتين، لذلك كان ترمب ومجموعته محقين حينما استخدموا كلمة "فقاعة واشنطن" في الإشارة إلى النخب التي لا تغادر العاصمة ولم تعد تعرف الكثير عن تغيرات مزاج الناخبين.

فواقع مع جرى أن ترمب كشف تغيرات تحدث منذ عام 2009 وحتى الآن بدأت بتأسيس حزب الشاي ولم تتوقف بعد الانتخابات الرئاسية الماضية، فترمب لم يخلق تلك الطبقة ولم يغير شيئا في أمزجة الناخبين، بل جاء بخطاب كشف عن هذا التغيير، وألهب حماس ناخب يحتاج مثل خطابه ووعوده ليذهب ويقاتل ويصوت من أجله.

على عكس ما كان شائعا وقت الانتخابات الرئاسية الماضية كانت أكثر الفئات الأميركية غضبا هي الذكور البيض متوسطو الأعمار من الطبقة المتوسطة، وليس الملونين ولا الأقليات ولا متظاهري "احتلوا وول ستريت" الذين نشطوا عقب الأزمة المالية العالمية في 2008، تبدل الحال بعد سياسات أوباما الاجتماعية والاقتصادية، فأغلبية الإحصائيات أظهرت مدى تشاؤمهم من المستقبل وفقدانهم  الثقة في كل مؤسسات الدولة وحتى الحزب الذي يؤيدونه (الحزب الجمهوري)، وساد التفكير بأن أوباما ومعاونيه أخذوا من حقوقهم وأعطوا الفئات الدخيلة على المجتمع وغير المنتجة بنظرهم أي المهاجرين أو الفئات الأفقر والسود.

كان التصويت في الانتخابات ليس فقط من أجل خطاب العنصرية بل صرخة أراد أن يقول فيها ذلك الرجل الريفي الأبيض "لقد تحملنا زيادة الضرائب على الأسر ذات الدخل الأعلى من 250 ألف دولار بعد الكساد في 2008، وحينما انتهى في 2009 وبدأ الاقتصاد ينمو استمرت دخولنا عاجزة عن مواكبة النمو"، أو صرخة امرأة معيلة في مكان ناءٍ "لا تسلبوني سلاحي في مكان كهذا وتتركونني هكذا"، بل واستطاع أن يضمن نسبة من أصوات المهاجرين ذوي الأصول الإسبانية الذين لا يريدون أن يروا المزيد من "بلدياتهم" ينافسونهم في هذا البلد ويشاركونهم ما حصلوا عليه من حقوق وفرص.

ووجدت هذه القواعد الشعبية أن لممثليهم من الجمهوريين أولويات أخرى، فلم يستطيعوا إيقاف السياسات الجديدة في الرعاية الصحية والتي استهدفت نزع خمسمئة مليار دولار بين عامي 2010 و2020 من ميزانية رعايتهم الصحية حتى تغطي الفئات غير المؤمن عليها، لذلك كان التشاؤم من الحزب والمستقبل مسيطرا ويريد فقط من يكشف عنه، وقد كان ترمب بوعوده وخطابه الزاعق هو هذا الرجل.

 وأجاد ترمب استخدام الموروث المتراكم لدى التقدميين الديمقراطيين، وحركة "احتلوا وول ستريت"، ثم حملة "ساندرز" في صياغة خطاب يحسم منافسته مع كلينتون والمؤسسة الحاكمة، فالملياردير النيويوركي ظل يخاطب جمهور اليمين كما لو أنه قد ولد لأسرة محافظة من البيض في الجنوب العميق، ويصفع هيلاري كلينتون ويفضح علاقاتها بالنخب المالية في وول ستريت كما لو أنه بيرني ساندرز الاشتراكي ابن الطبقة الوسطى، وبالفعل وصل ترمب إلى مقعد الرئاسة بازدراء العلاقة الدافئة بين سياسي "فقاعة واشنطن" وأموال وول ستريت التي لا تنام.

المجتمع الأميركي.. حالة اللايقين
حالة الاستقطاب وتنامي الشعور بالخوف سيطرتا على المواطنين في الداخل بعد فوز ترمب
حالة الاستقطاب وتنامي الشعور بالخوف سيطرتا على المواطنين في الداخل بعد فوز ترمب
 

في مدرسة ريتشارد مونتغمري بجنوب ولاية ميريلاند ذهب أحد طلاب المرحلة (15 عاما) إلى مدرسته بعد فوز ترمب بنحو عشرة أيام مرتديا قبعة كتب عليها شعار حملته "أعد أميركا عظيمة مرة أخرى"، فلم يكن من زملائه إلا أن ضربوه ونقل في إثر ذلك إلى المستشفى، أمر لم يكن منفصلا عن 437 حادثة منذ اليوم التالي لانتخاب دونالد ترمب حتى الآن.

أما قبل الانتخابات فدفع متظاهر من على درجات السلالم في مظاهرة ضد انتخاب ترمب بجامعة أوهايو بينما كان يهتف بعبارة " شيد الجدار" في قاعة تناول الطعام بإحدى مدارس ديترويت بولاية ميتشغان الأميركية للسخرية من الطلاب اللاتينيين، هذا بينما يمنع مدير مطعم تشيليز (Chili’s) الطعام عن عسكري من السود داخل مطعمه.

 

في بلاد عرفت برسوخ الديمقراطية وثبات آلياتها لك أن تتخيل واقعة كهذه بعد موجة مظاهرات واسعة عقب إعلان فوز ترمب شهدت اشتباكات في بعض المدن الكبرى بين المتظاهرين والشرطة، فيما كانت الدعوات تتواصل على صفحات التواصل الاجتماعي من مؤيدي ترمب ومناؤيه بالآلاف تمهيدا لتنظيم مسيرات تأييد ورفض له في 20 يناير/كانون الثاني القادم.

لا شيء تخبرنا به كل هذه الوقائع والأحداث وتفسر جزءا من صعود نجم ترمب حتى فوزه سوى أن حالتي الاستقطاب وتنامي الشعور بالخوف قد سيطرتا على المواطنين في الداخل بشكل غير مسبوق، وباتت "حالة اللايقين" هي عنوان المشهد الأميركي.

"المهاجرون يأخذون فرص عملكم"، "المسلمون الإرهابيون يهددون وطنكم"، "هيلاري وأوباما دمرا الميزانية وفرص العمل"، "تزداد توسعات داعش ونفوذ إيران" هذه العبارات وغيرها بتنويعاتها المختلفة كانت هي الملمح الأبرز في خطاب ترمب طوال حملته الانتخابية، أجاد إلقاءها بصورة فظة وبجرأة في النيل من الآخرين الخصوم في كل تجمعاته الحزبية، وهو ما كان له صداه مع المجموعات التي باتت تبحث عن مخلص قوي يطمأن خوفها الذي تمت صناعته على أعين إعلام اليمين الأميركي وأجنحة الحزب اليمنية منذ عام 2009 على النحو المشار إليه مسبقا.

لكن هذا الخوف لم يكن في اتجاه واحد فقط، بل كان في الجهة المقابلة الأخرى، فحملة هيلاري كلينتون جزء كبير منها كان يتغذى على ما يقوله ترمب، بحيث كانت كثير من الرسائل تقوم على فكرة مفاداها "احذروا ترمب.. سيدمر أميركا"، " انتخبوا هيلاري وإلا فالبديل ترمب"، وأصبح خطاب الخوف هو المحرك الرئيسي للمصوتين على الضفتين، وليس لبرنامج المرشح هذا أو ذاك، فالكل بات يبحث عن "سلطة" توقف التهديد القادم من الجهة الأخرى، وبات المجتمع الأميركي مكونا من "سلطويين جمهوريين" قبل الانتخابات وجدوا ضالتهم في شخص ترمب، بينما قرر الديمقراطيون أن يمارسوا نفس الدور لإيقاف ترمب، ولكن عبر الشارع نفسه بعدما فقدوا من ظنوا أنها ستوقفه (هيلاري)، فقرروا خوض معركة الخوف على خلفية الاستقطاب مباشرة معه منذ اليوم الأول.

 

الأفيال وترمب.. مناورات في الأفق
 

منذ اليوم الأول لدخوله المعترك الانتخابي كان منهج ترمب واضحا: الخروج عن الخطوط المألوفة، ليست فقط تلك الخطوط التي رسمها الحزب الديمقراطي، بل وحتى الخطوط التي التزم بها زملاؤه في الحزب الجمهوري، لم يخض الحزب معركة ضده جراء هذا، ثمة أصوات جمهورية اعترضت مفرداته وخطابه السياسي برمته، فكولن باول -وهو وزير الخارجية في عهد بوش- يصفه بأنه "عار على هذا الوطن" ويعلن دعمه لهيلاري كلينتون، ونورم كولمان يراه "مزورا وبلطجيا"، وفين ويبر يهدد بمغادرة الحزب حال فوزه، وجوردن هامفري يعلن تصويته لكلينتون ضده، بينما جون ماكين ينتقد تسريباته بشدة، أصوات كثيرة من داخل المعسكر الجمهوري أعلنت سخطها، وأصوات امتنعت عن دعمه أو عن التعليق عليه، لكنها لم تكن كافية لتغير موقف الحزب كليا منه، وبدا أن منهج الحزب كان متحفظا بشدة إزاء مواجهة الخطاب السياسي الذي تبناه.

مع إعلان فوزه انتقلت المعركة من مرحلة الخطاب إلى مرحلة ممارسة السلطة الفعلية، هنا أولى المعارك الحقيقية المحتملة، ترمب يبدأ إعلان ترشيحات حكومته، خيبة أمل كبيرة تعصف بكافة التوقعات المتفائلة، لم يبدأ ترمب أولى ممارساته السياسية بالمهادنة، بل كانت اختياراته تقع على أكثر الأسماء صدامية وإثارة للجدل.

تشكيل الحكومة هو أولى هذه المعارك، والقاعدة المتبعة هي أن يقدم الرئيس المنتخب ترشيحاته الرسمية، ومجلس الشيوخ يقر هذه الترشيحات، ولحسن حظ ترمب أنه أتى رئيسا بعد 2013 وإلا كان سيحتاج إلى 60% من أصوات المجلس عن كل اسم يرشحه، عدل الديمقراطيون هذه القاعدة وأصبح الإقرار يحتاج فقط إلى أغلبية بسيطة وهي 51% فقط من الأصوات، للحزب الجمهوري 54 ممثلا في المجلس (من أصل مئة)، وتصبح معركة ترمب الآن أن يفقد صوتين فقط على الأكثر، لكن الوضع داخل الحزب الجمهوري يشير إلى أنه قد يخسر أكثر من ذلك.

رئيس فريق العاملين في البيت الأبيض راينس بريبس سيكون ورقة قوية للتفاوض نيابة عن ترمب داخل مجلس الشيوخ الأميركي وتوثيق التحالفات المطلوبة

يتوقع البعض أن يواجه ترمب معارضة من عدد محدد من الأعضاء الجمهوريين، ويراهن الديمقراطيون على بعض هذه الأسماء، وعلى رأسها سيناتور ولاية أريزونا جيف فليك، وسوزان كولينز سيناتورة ولاية مين، وبين ساسي سيناتور ولاية نبراسكا، لكن هذه الأصوات غير مضمونة، وتماسك كتلة الديمقراطيين والمستقلين داخل المجلس لن يكون أمرا حتميا.

يرى ستيفن سميث المتخصص في شؤون الكونغرس والأستاذ بجامعة واشنطن أن هؤلاء الأعضاء لن يستطيعوا معارضة اختياراته إلى النهاية، وأنهم سيضطرون في بعض الأوقات للرضوخ والإقرار خوفا على شعبيتهم لدى القواعد الشعبية للحزب الجمهوري، فحين يوضع أمامهم اسم مثير للاعتراض مثل رودي جولياني أو جون بولتون المرشحين لمنصب وزير الخارجية فمن الأرجح أن فرص الاعتراض ستكون كبيرة، لكن إذا مرر إلى جانب تلك الأصوات اسم مثل ريتشارد أرميتيج -بما له من خبرة سابقة في حكومة بوش- فستضعف قدرتهم على الاعتراض.

 

تبدو سياسة ترمب في التعامل مع الأزمة الأولى المنتظرة بمجلس الشيوخ واضحة بعض الشيء، فرئيس فريق العاملين في البيت الأبيض راينس بريبس سيكون ورقة قوية للتفاوض نيابة عنه داخل المجلس وتوثيق التحالفات المطلوبة، كما أن تصدير الأسماء المثيرة للجدل -مثل ستيف بانون المتهم بعنصريته الذي اختاره ترمب كبيرا للمستشارين في البيت الأبيض- يعكس رغبة في الاحتفاظ بأكبر قدر ممكن من الشخصيات الصدامية بالمناصب التي ليس لمجلس الشيوخ حق في إقرار تعيينها، وإذا خسر ترمب معركته الجديدة واضطر للمهادنة داخل المجلس فإنه قد أمّن بالفعل مساحة موازية للاختيار.

المصدر : الجزيرة