شعار قسم ميدان

أرمينيا نموذجا.. ماذا يحدث حين تصبح عملة بلد ما أكثر قوة؟

مقدمة الترجمة

ما الذي يحدث حين تصير عملة بلد ما أكثر قوة بشكل مفاجئ؟ شأنها شأن العملة الضعيفة، تأتي العملة القوية مع صعوباتها الخاصة أيضا، حيث تجعل صادرات البلدان أقل تنافسية، فيما تعاني الشركات لدفع رواتب موظفيها فضلا عن تحقيق الأرباح. هذه هي المعضلة التي تواجهها أرمينيا اليوم في ظل ارتفاع الطلب على عملتها مع تدفق شركات تكنولوجيا المعلومات الروسية إلى البلاد هربا من العقوبات الغربية، مُتسبِّبة في قلب سوق العمل الأرميني ومعه اقتصاد البلاد برُمَّته رأسا على عقب.

نص الترجمة

تمتَّع "آزات توڤماسيان" بتجارة رائجة في العاصمة الأرمينية يريفان، فقد فاز رائد الأعمال الأرميني بمنحة ابتكار مقدارها 50 ألف يورو تُمكِّنه من إتقان منتج فريد: محفظة متصلة بالإنترنت بها مزايا أمنية مثل الكاميرا ونظام تتبُّع لتحديد الموقع (GPS). وقد جمع توڤماسيان ثلاثة ملايين دولار وشرع يُعيِّن الموظفين في شركته الناشئة، ومن ثمَّ بدأت المبيعات بالانطلاق. غير أن روسيا غزت أوكرانيا بعدئذ، وما لبث الهاربون من روسيا أن تدفَّقوا هُم وأموالهم إلى أرمينيا، الأمر الذي تسبَّب في ارتفاع سريع لقيمة الدرام الأرميني (عُملة البلاد)؛ فتلاشت ميزة تنافسية مهمة تمتَّع بها توڤماسيان في صناعة مُنتجِه، مما اضطره إلى تعليق خطط توسيع شركته في الوقت الراهن.

يبدو اقتصاد أرمينيا مُزدهِرا، حيث يتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 7% هذا العام. كما انخفض الدين الحكومي وتدفقت الاستثمارات مع انتقال الشركات الروسية إلى البلاد. غير أن المشكلة تكمن في أن مليارات الدولارات المتدفقة من روسيا تُعزِّز الطلب على الدرام الأرميني، ما أدى إلى ارتفاع قيمة العملة المحلية بنسبة 25% أمام الدولار ونحو 40% أمام اليورو منذ دخول الدبابات الروسية إلى أوكرانيا في فبراير/شباط الماضي. إن الدرام الأقوى من شأنه أن يجعل الصادرات الأرمينية أقل تنافسية، وهي تشمل منتجات عديدة بدءا من المواد الغذائية إلى السجائر وصولا إلى البرمجيات. أما الشركات التي تحسب إيراداتها بالدولار فيجب عليها إنفاق المزيد لشراء الدرام من أجل دفع الرواتب لموظفيها الأرمينيين.

(شترستوك)

وقد قال توڤماسيان: "إننا نجتذب رؤوس الأموال والاستثمارات بالدولار، ونبرم العقود مع شركائنا بالدولار أيضا، ولكن ندفع الضرائب والرواتب بالدرام. ولذلك، فإن خفض قيمة الدولار ضربة مزدوجة لأعمالنا". في السنوات الأخيرة، كان قطاع تكنولوجيا المعلومات البقعة المضيئة في التصدير بأرمينيا، واحتُفي به لأنه وظف الموارد البشرية المُتعلِّمة التي تمتلكها البلاد، كما شُجِّع من خلال الإعفاءات الضريبية السخية. وقد أشار وزير الاقتصاد في إبريل/نيسان إلى أن هذه الشركات تتولى مسؤولية توفير 5% من إنتاج أرمينيا، كما أنها تدفع أجورا تفوق بكثير متوسط المرتبات في البلاد وتوظف ما يقارب 25 ألف شخص، مما يوفر أسلوب حياة جيد للطبقة الوسطى في بلد صغير يفتقر عادة إلى وظائف جيدة. كما تساهم تلك الشركات بعشرات ملايين الدولارات لخزينة الدولة: 2.6% من إيرادات الميزانية في الأشهر التسعة الأولى لعام 2022، وذلك وفقا لبيانات من شركة "مودِكس" الاستشارية في أرمينيا.

بالنسبة للشركات الناشئة مثل شركة توڤماسيان، فإن رفع الأسعار ليس خيارا متاحا، فقد صرح توڤماسيان لموقع أوراسيا نِت بأن "هناك عقودا موقعة وأسعارا محددة، ومن ثمَّ يستحيل تغييرها الآن. ولذا سنفقد عملاءنا وقدرتنا التنافسية. وفي المحصلة، هناك دول مثل الهند وتركيا تنافسنا في هذا السوق [خدمات تكنولوجيا المعلومات]. وفي الوضع الحالي، يتحتم على شركات هذا القطاع إما أن تقلل عدد موظفيها وإما أن تخفض مرتباتهم، مما سيؤثر سلبا في نهاية المطاف على إمكانياتها، وبشكل عام على آفاق تطوير هذا القطاع في أرمينيا".

تدفُّق الروس.. نعمة ولعنة في آنٍ واحد

(رويترز)

في الوقت الذي تواجه فيه شركات تكنولوجيا المعلومات آفاقا قاتمة، انقلب سوق العمل بدوره أيضا. بإمكان الشركات الروسية الانتقال إلى أرمينيا بلا مشكلات، كما يمكن للمواطنين الروس الحصول على إقامة في أرمينيا بكل سهولة، لكونهم أعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، الاتحاد الجمركي الذي تقوده روسيا. ووفقا لـ"مودِكس"، ارتفع عدد شركات تكنولوجيا المعلومات المُسجلة في أرمينيا، في الفترة بين فبراير/شباط ويوليو/تموز، بأكثر من 40% ليصل عددها إلى 2195 شركة (ثلث هذه الشركات تقريبا لديها موظف واحد فقط). وقد نقلت شركتان مركزهما الرئيسي في الولايات المتحدة مكاتبهما في روسيا إلى أرمينيا (كي تستطيعا مواصلة أعمالهما في الولايات المتحدة دون التعرُّض للعقوبات)*.

قالت "أناهيت سركسيان"، المدير التنفيذي لأكاديمية "أرمينيان كود"، التي تستضيف أكبر معرض للتوظيف في قطاع تكنولوجيا المعلومات في البلاد خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، إن "شركات تكنولوجيا المعلومات الروسية التي انتقلت إلى أرمينيا خففت نوعا ما من حِدَّة الضربة التي تلقاها القطاع، حيث عُيِّن فيها العديد من المحترفين، الذين فقدوا وظائفهم في الشركات الأرمينية أو انخفض دخلهم نتيجة انخفاض قيمة الدولار أمام الدرام". وأوضحت سركسيان أن 70-80% من الحضور في معرض الوظائف سابقا كانوا من الشباب الباحثين عن أول وظيفة لهم بعد تخرجهم في الكلية، أما الآن فإن ما يزيد على 50% من الحضور هم من "ذوي الخبرة متوسطي المستوى، بل وأحيانا رفيعي المستوى"، وأضافت بأن معرض الوظائف لهذا العام، الذي عُقد في 19 نوفمبر/تشرين الثاني، حطَّم الأرقام القياسية في الحضور.

بالنسبة إلى العاملين ذوي الخبرة في قطاع تكنولوجيا المعلومات، فإن هذا يعني تزايد المنافسة. أما بالنسبة للشركات التي تمتلك النقد فإن هذا يعني طيفا أوسع من المواهب المتاحة في السوق. وقد قال توڤماسيان: "أصبح من السهل على العديد من الشركات المستقرة ماليا التي عانت سابقا من نقص في الموظفين الأكفاء أن تجدهم الآن. إن هؤلاء العاملين يكافحون للحصول على مكان جيد في الشركات، لا العكس". وقد استقال "يهيش كارابتيان"، وهو مُطوِّر برمجيات في الثلاثين من عمره، في مستهل هذا العام، وقال إنه انتظر بضعة أشهر بعد انخفاض قيمة الدولار، غير أنه أدرك أن الأمر سيستمر لوقت طويل، وحينها تحوَّل للعمل موظفا حرا". ويجني كارابتيان الآن دخلا أكبر نظير العمل مباشرة مع شركة أميركية، كما يدفع ضرائب أقل للحكومة الأرمينية.

المرض الهولندي

يشعر وزير الاقتصاد الأسبق "فاردان أراميان" بالقلق حيال أن الدولة لا تفعل ما يكفي لإعادة الاستقرار إلى سوق العملة، محذرا من أنه على أرمينيا أن تستعد لانخفاض حاد في الصادرات (مواقع التواصل الاجتماعي)

سيتحول العديد من ذوي الخبرة الأكفاء إلى العمل الحر أو سيهاجرون، وذلك وفقا لـ"آرسن بغداساريان"، مدير في شركة "داتا آرت"، وهي شركة تطوير تعمل في 15 دولة. وقد صرَّح قائلا: "نظرا لانخفاض قيمة الدولار، فإن شركات تكنولوجيا المعلومات الأرمينية الناشئة ستتعرض لضربة قوية جدا خلال السنوات القادمة. ومن ثمَّ سيعاني قطاع تكنولوجيا المعلومات وستعاني أرمينيا، التي صُنِّفت سابقا بوصفها دولة تكنولوجيا معلومات لعدة سنوات".

يأمل رواد تكنولوجيا المعلومات بالحصول على إعانة حكومية. وأكدت وزارة الاقتصاد أنها بصدد العمل على مشروع قانون لإعادة ضريبة الدخل لمدة أربعة أشهر إلى العاملين في تكنولوجيا المعلومات دعما لهم، دون أن تعلق على احتمالية قبوله أو رفضه من البرلمان. بيد أن الاقتصادي "هايكاز فانيان" يُشكِّك في احتمالية أن تكون الحكومة سخية إلى هذا الحد، حيث قال: "إننا نتحدث عن 16 مليار درام [40 مليون دولار تقريبا]، أي 0.8% من إيرادات الموازنة. هذا مبلغ ضخم جدا كي يُوجَّه إلى قطاع واحد فقط، حيث يتلقى المختصون رواتب عالية جدا بالفعل".

إن مصدر القلق الأكبر لصناع القرار يتمثل في تأثير ارتفاع الأسعار، الذي يطول تأثيره الجميع. إن التضخم الأساسي، الذي تجاوز 9% معظم السنة، أعلى بكثير من هدف البنك المركزي الذي يبلغ 4% وأعلى مما كان عليه منذ الأزمة المالية عام 2008. وفي محاولته للسيطرة على التضخم، رفع البنك المركزي معدلات الفائدة للمحافظة على الضغط على الدرام.

يشعر وزير الاقتصاد الأسبق "فاردان أراميان" بالقلق حيال أن الدولة لا تفعل ما يكفي لإعادة الاستقرار إلى سوق العملة، محذرا من أنه على أرمينيا أن تستعد لانخفاض حاد في الصادرات، ظاهرة يعرفها الاقتصاديون بالمرض الهولندي (Dutch disease) (مصطلح اقتصادي يصف الحالة التي تكون فيها عملة الدولة أقوى مقارنة بالدول الأخرى، ما يؤدي إلى ارتفاع تكلفة صادرتها وضعف قدرة قطاعاتها الاقتصادية على المنافسة)*. وقد قال أراميان لأوراسيا نِت: "نظرا لتعزيز الدرام، فإن القدرة التنافسية للمنتجين المحليين في الأسواق الأجنبية آخذة في التناقص، وبالتوازي مع ذلك، هناك تدفق للعمالة نحو القطاع غير التصديري. هناك تشوهات في الاقتصاد، حقيقة، تشبه إلى حدٍّ كبير أعراض المرض الهولندي".

______________________________________

*ملاحظات المترجم

ترجمة: كريم محمد

هذا التقرير مترجم عن Eurasianet ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة