شعار قسم ميدان

جغرافيا اليأس.. هوس البناء في ظل الأزمات الاقتصادية

"لقد انتهى هذا المكان، كما كان. ما يهم من الآن فصاعدا ليس الحقول، ولا الجبال، بل الطريق. لن تكون هناك قرية كمكان قائم بذاته. سيكون هناك اسم تمر به فحسب؛ منازل على طول الطريق. وهذا هو المكان الذي ستعيش فيه، أيها العقل، على جانب الطريق".

(المُنظِّر الثقافي ريموند وليامز في روايته "شعب الجبال السوداء")

في أيامنا هذه يمكنك أن تصادف "المشروعات العملاقة" في كل مكان، وتسمع بأخبارها من كل صوب، فيبدو الأمر وكأن العالم الحديث يشهد ثورة عمرانية جديدة تستهدف استيعاب السكان وتوفير الخدمات اللازمة لاحتواء تزايد أعداد المواطنين. ليس الأمر جديدا، فقد أفادت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية، المنوطة بمتابعة تلك الأشياء، أن الصين استهلكت 6651 مليون طن من الأسمنت بين عامي 2011-2013، مقارنة بـ 4405 مليون طن استخدمتها الولايات المتحدة في الفترة بين عامي 1900-1999. ويبدو أن الصينيين يسكبون الخرسانة والحديد في كل شبر من أرضهم، لكن كيف نفهم أسباب مثل هذا الحدث المذهل؟ لنطلع أولا على السياق التاريخي لتطور هذه الممارسة، ثم نحاول أن نؤسس إطارا لفهمها وفهم تبعاتها المباشرة وغير المباشرة على السياسة والاجتماع المعاصرين.

بحلول نهاية عام 2009، قدَّرت دراسة أن صافي فقدان الوظائف في الصين نتيجة للأزمة بلغ نحو 3 ملايين، ثم حدث أن تمكَّن الحزب الشيوعي الصيني من خلق 27 مليون فرصة عمل في عام واحد، (رويترز)

لقد واجه الاقتصاد الصيني أزمة خطيرة عام 2008، وواجهت صناعاته التصديرية أوقاتا عصيبة إبَّان الأزمة العالمية التي ضربت الاقتصاد العالمي حينئذ، حيث فقد 30 مليون صيني على الأقل وظائفهم بسبب هبوط الطلب على السلع الصينية في أكبر أسواقها: سوق الولايات المتحدة. ومن جهة أخرى، فقدت ملايين الأسر في الولايات المتحدة منازلها أو هُدِّدَت بفقدانها بسبب الحجز العقاري، ومن ثمَّ لم يتسابق أيٌّ منهم إلى مراكز التسوق لشراء السلع الاستهلاكية كما اعتادوا.

يقول المُنظِّر الجغرافي "ديفيد هارفي" إن الحزب الشيوعي الصيني أدرك أنه واقع بين خيارين: إما إعادة العاطلين إلى العمل، وإما مواجهة خطر حدوث اضطرابات اجتماعية هائلة. فبحلول نهاية عام 2009، قدَّرت دراسة مشتركة مفصلة لصندوق النقد الدولي ومنظمة العمل الدولية أن صافي فقدان الوظائف في الصين نتيجة للأزمة بلغ نحو 3 ملايين، بالمقارنة مع 7 ملايين في الولايات المتحدة. ثم حدث أن تمكَّن الحزب الشيوعي الصيني من خلق 27 مليون فرصة عمل في عام واحد، وهو أداء استثنائي، بل غير مسبوق. فماذا فعل الصينيون إذن وكيف؟

البناء المُفرِط لاستيعاب فائض رأس المال والعمالة

(رويترز)

 

لقد صمَّم الصينيون موجة ضخمة من الاستثمار في البنى التحتية المادية، التي صُمِّمَت جزئيا لدمج الاقتصاد الصيني مكانيا عبر إنشاء روابط اتصال بين المناطق الصناعية النابضة بالحياة في الساحل الشرقي، مع المناطق الداخلية المتخلفة إلى حدٍّ كبير، فضلا عن تحسين الاتصال بين الأسواق الصناعية والاستهلاكية الجنوبية والشمالية، التي كانت حتى تلك اللحظة معزولة إلى حدٍّ ما بعضها عن بعض. واقترن ذلك ببرنامج واسع للتمدُّن الإجباري، وبناء مدن جديدة كاملة، بالإضافة إلى توسيع وإعادة بناء المدن المتقدمة الموجودة بالفعل.

ليست هذه الطريقة في الاستجابة للضغوط الاقتصادية بجديدة، فقد سبق إليها "نابليون" الثالث وجلب "جورج يوجين هوسمان" إلى باريس عام 1852 لاستعادة الوظائف من خلال إعادة بناء المدينة بعد الانهيار الاقتصادي والحركة الثورية التي جرت عام 1848. وفعلت الولايات المتحدة الشيء نفسه بعد عام 1945 عندما وزَّعت الكثير من إنتاجيتها المتزايدة وفائضها النقدي لبناء الضواحي والأحياء الكبرى (على طريقة المعماري والمُخطِّط الحضري "روبرت موزس") في جميع المدن الكبرى، مع دمج الجنوب والغرب في الاقتصاد الوطني عن طريق بناء نظام الطرق السريعة بين الولايات. وكان الهدف في الحالتين الفرنسية والأميركية التوظيف شبه التام للفوائض في رأس المال والعمالة، ومن ثمَّ ضمان الاستقرار الاجتماعي.

لقد فعل الصينيون الشيء نفسه بعد عام 2008، وهو الأمر نفسه الذي نراه في المشروعات العملاقة التي نفَّذتها إمارة دبي بالإمارات العربية المتحدة مع نهضة نموذج "المدينة الدولة" ومشروع بناء دبي لتصبح مركزا عقاريا وتجاريا عالميا، كما نراه في مشروع بناء العاصمة الإدارية الجديدة في مصر والإنفاق المذهل فيها بتمويل من الديون قصيرة وطويلة الأجل لمد الطرق السريعة والمحاور وشبكات البنى التحتية وخطة النقل شبه التام للمباني الحكومية إلى شرق القاهرة، وكذلك في مشروع نيوم السعودي، وفي توسُّعات مدينة إسطنبول التركية، وهي نماذج تُمثِّل الاستجابة لأزمات اقتصادية وسياسية داخلية.

أما الصينيون فلا يكفيهم مضاعفة حجم مدينة فحسب، إذ استهلكت الصين الكثير من المواد الخام في قفزتها التمدينية، مما أدى إلى تسريع الطلب على المواد الخام، حتى إن جميع البلدان الموردة للمعادن والزيوت والمنتجات الزراعية (الأخشاب وفول الصويا والجلود والقطن، إلخ) سرعان ما تخلصت من آثار انهيار 2007-2008 وشهدت نموا سريعا (أستراليا وتشيلي والبرازيل والأرجنتين والإكوادور)، كما ازدهرت ألمانيا، التي زودت الصينيين بأدوات آلية عالية الجودة (على عكس فرنسا التي لم تفعل ذلك). لقد تجسَّدت حلول الأزمة في المكان، ومن هنا ظهر التحوُّل في جغرافيا التطور اللا متكافئ. لا شك أن الصين أنقذت الرأسمالية العالمية من آثار كارثة 2008 عن طريق توسعها الحضري الهائل واستثماراتها الضخمة في البناء والبنية التحتية.

كيف فعل الصينيون ذلك؟ الجواب الأساسي بسيط: التمويل بالديون. لقد طلبت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي القروض من البنوك مهما كانت المخاطر. وطُلب من البلديات والإدارات الإقليمية والمحلية القروية تعظيم مبادراتها التنموية، في حين خُفِّفَت شروط الاقتراض للمستثمرين والمستهلكين لشراء شقق، إما للعيش وإما للاستثمار فيها. ونتيجة لذلك، نما الدين الصيني نموا مذهلا، إذ بلغ زهاء الضِّعْف منذ عام 2008. وتُعَدُّ نسبة الديون مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي في الصين واحدة من الأعلى في العالم، لكن على عكس أثينا والقاهرة وإسطنبول، فإن الدين مستحق بعملة الرنمينبي وليس بالدولار أو اليورو، ولدى البنك المركزي الصيني الكثير من الاحتياطيات الأجنبية لتغطية الديون إذا لزم الأمر، ويمكنه طباعة أمواله الخاصة متى شاء. لقد طبَّق الصينيون رؤية "رونالد ريغان" -المفاجئة- التي تذهب إلى أن العجز والديون مسائل غير ذات أهمية.

الإفلاس الأسمنتي

ولكن بحلول عام 2014، أفلست معظم البلديات في الصين، ونشأ نظام الظل المصرفي لإخفاء التوسع الإجمالي للإقراض المصرفي للمشاريع التي لا تُدِر أرباحا، وصار سوق العقارات بمنزلة صالة قمار حقيقية لتقلبات المضاربة. وبدأت المخاطر المتمثلة في انخفاض قيمة العقارات والتراكم المفرط لرأس المال في الظهور بحلول عام 2012، وبلغت ذروتها عام 2015. باختصار، عانت الصين من مشكلة يمكن التنبؤ بها تتعلق بالاستثمار المفرط في البناء (كما حدث لباريس عام 1867 ولنيويورك عام 1975).

لقد كان من المفترض أن تؤدي الموجة الهائلة من الاستثمار الرأسمالي في الأصول إلى زيادة الإنتاجية والكفاءة في الاقتصاد الصيني كله (كما حدث مع نظام الطرق السريعة بين الولايات في الولايات المتحدة في الستينيات). غير أن استثمار نصف نمو الناتج المحلي الإجمالي في رأس المال الثابت (الأصول) الذي ينتج عنه معدلات نمو متناقصة ليس اقتراحا جيدا دائما. وقد انقلبت الآثار الإيجابية للنمو الصيني على أعقابها بعدئذ، فمع تباطؤ النمو في الصين تراجعت أسعار السلع، مما أدخل اقتصادات البرازيل وتشيلي والإكوادور وأستراليا وغيرها في حالة من التيه بسبب اعتمادها على تصدير الموارد الطبيعية إلى الصين.

(وكالة الأناضول)

إن هذه القصة عظيمة الدلالة، لأنها تشبه الخطة الجاهزة التي يمكن أن تُطبَّق في كل مكان. كيف فكَّر الصينيون مثلا في مواجهة الأزمة المترتبة على الاقتراض غير المحدود لمشروعات البنية التحتية؟ الإجابة بسيطة أيضا: الحل هو المزيد من التمدين، حيث يخطط الصينيون هذه الأيام لبناء مدينة واحدة لإيواء 130 مليون شخص (ما يعادل مجموع سكان بريطانيا وفرنسا)، بحيث تتخذ هذه المدينة من العاصمة بكين مركزا لها، وترتبط أحياؤها بواسطة شبكة نقل واتصالات فائقة السرعة (شبكة من شأنها أن تُفني المسافة عبر الزمان، كما قال المُنظِّر الاجتماعي الشهير "كارل ماركس" ذات مرة).

لقد صُمِّم هذا المشروع المُموَّل من الديون لاستيعاب فوائض رأس المال والعمالة في المستقبل، ولنتخيَّل كمية الأسمنت المذهلة المطلوبة لهذا المشروع. لم تكتفِ الصين بهذا القدر، بل خططت لمشروع كوني على المنوال نفسه سمع به الجميع، وهو إعادة إحياء "طريق الحرير" الذي ربط الصين بأوروبا الغربية عبر آسيا الوسطى في العصور الوسطى، تحت اسم مبادرة الحزام والطريق. ولكن إذا كان الهدف من مثل هذه القفزات التمدينية هو استيعاب فائض العمالة واستعادة القدرة على التشغيل تجنُّبا للانهيار الاجتماعي، فبأي كلفة يتم ذلك؟

عنف المسافة

إن الاستثمار في التوسع المديني لتصبح المدن أشبه بتجمعات عمرانية على أطراف الصحاري هو شيء مطمئن حقا بالنسبة للسلطة. فبالإضافة إلى الفكرة الاقتصادية الكامنة وراء التوسع، وهي استعادة القدرة على استثمار فائض رأس المال وفائض قوة العمل، ثمَّة جانب آخر لاحظته فيلسوفة السياسة الألمانية "حنّا آرندت" في تاريخ السياسات النازية؛ حيث قالت إن النظم الشمولية ترى في التكتلات الاجتماعية الكبرى تهديدا ومصدر خطر محتمل دائما، مما يدفعها إلى الاستثمار في تباعد المسافات بين المدن وبناء الطرق السريعة التي لا يقدر على تحمُّل تكلفة السفر المتكرر عبرها إلا القليل من المواطنين، مما يؤدي إلى تفتيت التكتلات الاجتماعية وتقليل فرص تكوين الحركات الاجتماعية.

الأمر اللافت للنظر أن "آرندت" لاحظت أن تفتيت التكتلات الاجتماعية يُعَدُّ خطوة أولى في زيادة العنف الاجتماعي، مما يعني مبررات أكثر لمصادرة الدولة للحياة السياسية والعامة، وقصرها على إدارة العنف البوليسي. فلطالما كان منع العنف الاجتماعي أكبر فزاعة تستخدمها الدولة لفرض سلطتها بالعنف بحجة نزع العنف، أو كما يسميها عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيبر" مهمة "احتكار العنف الشرعي".

الأهم إلى جوار ما لاحظته "آرندت" بخصوص مساهمة تباعد المسافات بين المدن في زيادة العنف الاجتماعي، أن العنف وإدارة العنف المتصل بالمسافات عنصر تأسيسي في معنى السياسة الحديثة. لقد تغيرت مفاهيم العالم الحديث وبناه الاجتماعية بسبب تطور طرق الاتصال والنقل، فكلما تزايدت سرعة وسائل الاتصال تغير مفهوم المكان والانتماء والزمان والهجرة وغيرها، بل إن أهم عنصر تأثر بهذا التطور هو السياسة وعلاقة الدولة بمواطنيها.

فعلى مدار التاريخ الحديث كان الأسرع والأقدر على تجاوز ظرفَيْ المكان والزمان هو الأكثر سلطة. والسرعة هنا تولِّد السلطة والثروة التي ترتكز عليها الدولة في ممارسة سلطتها. وستصبح الدولة ههنا، كما يسميها الفيلسوف الفرنسي "بول فيريليو"، "مُنظِّمة لحركة المرور"، مما يعني تداخل مفاهيم السلطة والسرعة والثروة، وهو تداخل لم يكن حاضرا من قبل إلا في وظيفة الحرب، مما يعني أن السلطة السياسية وإدارة السرعة أصبحتا في حالة حرب دائمة داخل البلد.

من ميادين القتال إلى قتال الميادين

(وكالة الأنباء الأوروبية)

بحسب "فيريليو"، مرَّت ظاهرة الحرب بثلاث مراحل رئيسية على مدار التاريخ الإنساني. كانت المرحلة البدائية من الحروب متصلة بالتكتيك؛ إدارة المعارك التي يواجه فيها جيش من الرجال جيشا آخر وجها لوجه. لكن مع ظهور المدينة وتطور وسائل الاتصال انتقلت الحرب من عصر التكتيك إلى عصر الإستراتيجية، أي مرحلة الفكر العسكري والإعداد المسبق للمعارك. ومع وصول نازية هتلر إلى السلطة في ألمانيا وبداية الحرب العالمية الأولى وتأثيراتها؛ تحوَّل العالم بأكمله إلى اقتصاد الحرب وسياسات الحرب، أي السياسات التي تستهدف التخطيط للحرب أولا وقبل كل شيء. وشيئا فشيئا، تخلَّى جهاز الدولة تدريجيا عن وظيفته التنظيمية، وتراجع مفهوم الدولة التنموية على مدار السنوات القليلة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، فباتت الحرب المهمة الأولى للدولة.

أما المرحلة الثالثة من تاريخ الحرب فظهرت مع تطور الأسلحة النووية العابرة للقارات، الأمر الذي أدى إلى إحالة الإستراتيجية العسكرية إلى التقاعد، إذ جعلت قدرة تلك الأسلحة على طي الزمان والمكان من الإستراتيجية أمرا بلا معنى أو غاية. ويسمي "فيريليو" هذه المرحلة بـ"مرحلة اللوجستيات"، أي قدرة الدول على الإمداد والتموين والنقل لأغراض الحرب. وأدى هذا التطور في حالة الحرب المستمرة إلى تغير كبير القدر في مفهوم المكان لدى التكتلات الاجتماعية من جانب، وإلى زيادة سلطة السرعة ومن ثم تشديد خناق السلطة السياسية من جانب آخر، رغم أنها لم تعد تعتمد على الوجود داخل مركز مُحدَّد تُدير منه بقية جسد الدولة على غرار العواصم التقليدية.

لقد بدأت هذه المرحلة بـ"الحق" في امتلاك المكان، فقد سعى جهاز الدولة إلى الهيمنة على الطريق والشارع والمدينة، وأصبح مَن يملك المكان هو الوحيد المؤهل لأن يكون موضوعا للحق؛ فامتلِك المكان تمتلِك حقوقا. ثم توسع الحق في المكان إلى الحق في السيادة على البر بأكمله، ثم الحق في السيطرة على البحر ثم على الجو. والواضح من هذا التتابع أن الدولة انخرطت تماما في وظيفة الحرب، وأن التقنيات العسكرية صارت سيدة الموقف، وانتقلت خبرات الميادين القتالية إلى شوارع المدن، وانتقل التخوف من العدو الخارجي إلى التخوف من احتمالية وجود "مجتمع" قادر على فرض إرادته.

إن البناء مشروع كتابة على جسد المجتمع؛ خطه البنايات والأسلاك والأنابيب والمقابر والمساحات الفارغة والطرق السريعة الطويلة. (غيتي إيميجز)

ومن ثم آلت هذه المرحلة من الحق في المكان إلى "الحق في الجريمة"، أي التوسع غير المسبوق في حرب الدولة الداخلية على المجتمع وترسيخ تقسيماتها الطائفية فيه. والحق أن إضفاء الطابع المديني أول وأهم أداة للتقسيم العنصري، إذا أخذنا في اعتبارنا أن كل مشاريع التقسيم العنصري في تاريخنا الحديث اتصلت ببناء الجدران الفاصلة بين المواطنين القادرين والمستحقين للحركة من جانب، وجغرافيا اليأس والتيه والبطء من جانب آخر.

لقد اتصل عصرنا بشكل أساسي بتقويض مهمة السياسة، إذا فهمنا السياسة بوصفها مجالا يجمع بين عالمين متناقضين من المصالح يقوم فيه فعل السياسة بمحاولة إنصاف الطرف الأضعف، وهو تعريف الديمقراطية أيضا. كما اتصل عصرنا بعملية التقسيم الطائفي السابق ذكرها، إما عن طريق إقامة الحدود والأسلاك والجدران الفاصلة، وإما عن طريق التنمية غير المتكافئة التي تعني مباشرة عنفا بنيويا موجَّها بشكل حصري ناحية الطرف الأضعف أو عن طريق البناء بالسلب، أي اتخاذ أماكن جديدة محددة لتكون موضوعا للتنمية، تستوعب فائض قوة العمل، وفي الوقت نفسه لا تصب في صالح الفئات الأضعف في المستقبل. كل هذه الممارسات يمكن أن نراها بحذافيرها وفي لوحة تلخيصية باهرة في مشاريع العواصم الجديدة ومشروعات الطرق والبنية التحتية العملاقة التي تستهدف "تمكين" فئات معينة من المجتمع من الحركة والسرعة وإمكانية الوصول. إن البناء مشروع كتابة على جسد المجتمع؛ خطه البنايات والأسلاك والأنابيب والمقابر والمساحات الفارغة والطرق السريعة الطويلة.

لن تجد ثورة على مدار التاريخ الحديث مرتبطة بأي مكان مثل ارتباطها بالطريق والشارع، حتى الثورات العمالية وكومونة باريس في القرن التاسع عشر احتلت الشوارع وكان شعارها سوف نبقى هنا، وكان رمزها المتاريس القاطعة للطرق والمعكرة لصفو حركة البرجوازية الأوروبية التي كانت تجوب الشوارع الرئيسية بسياراتها فيما يعيشون في المناطق الريفية ذات الهواء النقي بحثا عن ملاذ من إيذاء الأحياء البروليتارية لأعينهم. ولذا توفَّر الأمن في المجتمعات الهشة بمنع الحركة، كما أن خطط التمدين المعاصرة ترجو الابتعاد بمؤسسات الدولة ومواطنيها المفضلين عن عشوائية المدينة القديمة، وتنسب الذنب إلي ثقافة المجتمع وتصمه بانعدام القدرة علي التنظيم. وهذه الفكرة قائمة علي الفصل العنصري حقا وليس أقل من ذلك. فنظام الفصل العنصري ليس حالة مقصورة على تجربة جنوب أفريقيا، بل هو بمنزلة نموذج تأسيسي تتبعه الدول السلطوية في علاقتها مع المجتمع.

المصدر : الجزيرة