شعار قسم ميدان

من الصين إلى تايلاند.. آسيا تكتب مستقبل العُملات الرقمية عالميا

يزداد النقاش حول مستقبل العُملات الرقمية مع كل ارتفاع وهبوط للعُملة الأشهر "البيتكوين"، وتُثار التساؤلات المهمة حول ما إذا كنا سنشهد تحوُّلا كاملا نحو رقمنة العُملة والتعامل بالمال الافتراضي، أم أن الدول ستتجه إلى حظر هذه العُملات باعتبارها تهديدا لنظام البنوك العالمي. يطرح موقع "إيست آسيا فورم" (منتدى شرق آسيا) رؤية لمستقبل العُملات الرقمية في آسيا التي قد تُحدِّد شكل مستقبل العُملات الرقمية في العالم كله. أعدَّت المقال هيئة تحرير المنتدى ومقرها مدرسة "كروفورد" للسياسات العامة التابعة لكلية آسيا والمحيط الهادئ بالجامعة الوطنية الأسترالية.

في المرة القادمة التي ستأكل فيها البيتزا فكِّر في هذا الاسم: لاسلو هانيَتس. اشترى هذا الرجل، المقيم في فلوريدا، شطيرتَيْ بيتزا بسعر 20 دولارا تقريبا عام 2010. أين المشكلة؟ استخدم لاسلو عُملة "البيتكوين" لدفع ثمنهما، 10 آلاف بيتكوين تحديدا. ولو أن لاسلو ادَّخر هذه العُملات بدل إنفاقها على البيتزا لكانت ثروته تُقدَّر الآن بـ 580 مليون دولار. لم يخسر لاسلو كل شيء، فقد سجَّل اسمه باعتباره أول مَن يستخدم البيتكوين في معاملة تجارية، كما استمتع ابنه الصغير في الأخير بالبيتزا.

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن: ما مستقبل العُملات الرقمية؟ لعلنا سنجد الإجابة في آسيا! رغم أن وضع البيتكوين ليس جيدا، وخصوصا في الهند حيث ستُحظَر، فإن وضع العُملات الرقمية عموما إيجابي، كما أنها تحمل فوائد كبيرة للاقتصادات التي ستتحرَّك أولا للاستفادة منها.

تُمثِّل البيتكوين بالنسبة إلى أولئك المؤمنين بالعُملات الرقمية عُملة المستقبل، ويرون فيها إمكانيات لا نهاية لها؛ إذ إنها ستُقوِّض الحكومات الفاسدة، وتُمكِّن المحرومين، وتُعزِّز الشمول المالي بين مليارات الأشخاص الذين لا يتعاملون مع البنوك، كما ستساعد في خفض نِسَب الفقر العالمي، وستحل محل الدولار عن طريق إطلاق عُملة عالمية وأصول احتياطية جديدة.

هل أصاب أولئك المتفائلون في رؤيتهم حتى الآن؟ ليس تماما، فقد ارتفع سعر البيتكوين بمعدل أسرع من استخدامها في المعاملات بـ144 مرة أثناء السنوات الخمس الماضية. هذا التذبذب الحاد في مقابل استخدام البيتكوين المحدود في المعاملات (ليسوا كُثُر هم مَن يشترون البيتزا ويدفعون ثمنها بالبيتكوين هذه الأيام) يعني أنها تفشل في استيفاء حتى أبسط معايير العُملة: أن تُستخدم باعتبارها وسيط تبادل مقبولا.

علاوة على ذلك، فلا يبدو مستقبل البيتكوين جيدا في آسيا على المدى الطويل. لقد تعلَّمنا من أزمة "الكساد الكبير" درسا أساسيا يقول إنه لا يجب تثبيت العُملة في أي بلد (تثبيت سعر رسمي تُحدِّده السلطات عبر ربط العُملة بعُملة بلد آخر أو بأصل ثابت مثل الذهب). فحينما يخاف المستهلكون من المستقبل -في خضم جائحة مثلا- سيبدؤون في اكتناز الأموال ويتوقَّفون عن الإنفاق، ولأن "ما أُنفقه هو دخلك وما تُنفقه هو دخلي" فإن ذلك يتسبَّب في دوامة انكماش خطيرة، بالإضافة إلى نقص في الطلب يؤدي إلى انهيار الأسعار وتقليص الاستثمارات، ما يُفضي في النهاية إلى كساد في الإنتاج والدخل.

يتمثَّل دور البنوك المركزية في إيقاف هذا الانهيار السريع عن طريق زيادة المعروض من الأموال لإشباع رغبة الناس في اكتناز الأموال وجعلهم ينفقون من جديد. ومما يجعل البيتكوين مُرشَّحا قويا ليصير عُملة فعلية هو أن المعروض منها له عدد ثابت لن يتغيَّر (لن يزيد عدد البيتكوين الموجود في العالم أبدا عن 21 مليون بيتكوين).

بيد أن الأمر سيزداد سوءا، فإذا ما تبنَّى صُنَّاع السياسات في بلد ما العُملة نفسها التي تتعامل بها دول أخرى (كما هو الحال إذا ما أصبحت البيتكوين عُملة عالمية أو إقليمية)؛ فسيفقدون القدرة على تعديل سعر الصرف إذا واجهتهم أزمات اقتصادية. فقبل عقد واحد فحسب، حينما سقطت اليونان في قبضة ركود اقتصادي، لم يكن بالإمكان خفض سعر الصرف لدعم تعافي اقتصاد البلاد عبر خفض أسعار الصادرات، وذلك لأن عُملة البلاد (اليورو) عُملة مشتركة مع اقتصادات أخرى أكبر بكثير، ولم يكن أيٌّ منها يواجه أزمة مشابهة، وكانت النتيجة تعافيا طويلا ومؤلما للاقتصاد اليوناني.

وهناك سيناريو آخر لا تحل فيه البيتكوين محل أيٍّ من العُملات الآسيوية، وإنما تكون عُملة موازية. ومع ذلك، سيُمثِّل ذلك تهديدا للاستقرار المالي لحكومات آسيوية عديدة. فقد عانت الكثير من اقتصادات آسيا، خصوصا الاقتصادات النامية والناشئة، من أزمات في الماضي بسبب تقلُّبات تدفُّق رأس المال الدولي، واتخذت هذه الحكومات تدابيرها لتنظيم هذه التدفُّقات من أجل الحفاظ على الاستقرار. وإذا ما وفَّرت البيتكوين -كونها عُملة موازية- فرصة لتجاوز هذه الضوابط على رأس المال؛ فسرعان ما ستُحظَر، وهو المُقترح في الهند الآن. ستحتاج الاقتصادات ذات سعر الصرف الثابت كذلك إلى حظر البيتكوين، لأن المضاربين قد يستخدمونها لبيع العُملة المحلية، ما يستتبع في نهاية المطاف انهيار نظام سعر الصرف الثابت.

السيناريو المُرجَّح في آسيا هو أن تصبح العُملات الرقمية أمرا طبيعيا، وأن تنشط العُملات المشفرة خارج سيطرة الحكومات، وتقوى بوصفها نوعا جديدا من الذهب الرقمي. وبمرور الوقت، ستستقر أسعارها، وسيُعتَدُّ بها أصولا بالطريقة نفسها التي يستند بها المستثمرون إلى الذهب في مواجهة التضخُّم وتقلُّبات السوق. تذهب إذن أحلام حل البيتكوين لمشكلات العالم النقدية أدراج الرياح، فلن تصير سوى أصل مالي آخر في ميزانيات الأغنياء.

هل يعني ذلك أن العُملات الرقمية عموما لا مستقبل لها؟ رغم مخاطر العُملات المشفرة غير المنظمة، مثل البيتكوين، فإن مستقبل العُملات الرقمية إيجابي، وآخذ في التشكُّل في آسيا بواسطة الحكومات الساعية نحو قطع أشواط في أنظمة السداد الرقمي، بما في ذلك استخدام تكنولوجيا العُملات المشفرة.

هناك بالفعل معاملات فعلية تجري باستخدام اليوان الرقمي في مدن كبرى منها ’شِنجِن‘ و’تشِنغدو‘ و’سوجو‘، إذ يحصل المستهلكون على اليوان الرقمي عن طريق البنوك.

أظهر "غوردون كلارك" و"أمير هرنييتش"، في مقالة موقع "إيست آسيا فورم" الافتتاحية مطلع إبريل/نيسان، ازدهار العُملات والسداد الرقمي في آسيا. وتقود الصين، إلى جانب كمبوديا، العالم في نشر العُملة الرقمية المرتبطة بالبنك المركزي، بينما حجزت سنغافورة بحذر مكانة لنفسها لاعبا رئيسيا مُستخدِمةً منهجية مختلفة. وفي كلتا الحالتين، كانت الاقتصادات الآسيوية في طليعة المبتكرين، بينما تتجنَّب مخاطر البيتكوين عن طريق ترسيخ سيادة الحكومات على العُملة، وعدم الاشتراك في عُملة رقمية واحدة مع اقتصادات أخرى، بالإضافة إلى حفاظها على إمكانية تعديل المعروض من عُملاتها.

انطلق بنك الشعب الصيني بسرعة، منذ بداية مشروعه للعُملة الرقمية عام 2014، ليكون الأول عالميا في إطلاق عُملة رقمية سيادية كبرى: اليوان الرقمي. وبحسب ما ذكره كلارك وهرنييتش في مقالهما: "ستجذب هذه العُملة المستهلكين بسهولة، لا سيما أنهم اعتادوا على الاستخدام المُنتشِر للأموال الرقمية، ومن ثمَّ سيُمكِّنون الحكومات من ضبط السياسة النقدية محليا ضبطا دقيقا بواسطة التحكُّم مباشرة في حجم الأموال غير النقدية المتاحة (المعاملات التي لا يُستخدم فيها المال المطبوع)". وأضافا أن "هناك بالفعل معاملات فعلية تجري باستخدام اليوان الرقمي في مدن كبرى منها ’شِنجِن‘ و’تشِنغدو‘ و’سوجو‘، إذ يحصل المستهلكون على اليوان الرقمي عن طريق البنوك".

من جانبه، أطلق بنك كمبوديا الوطني "الباكونغ" في أكتوبر/تشرين الأول 2020. وتدعم هذه الخدمة لتحويل الأموال، والمتاحة لعملاء البيع بالتجزئة، المعاملات المالية بالريال الكمبودي أو الدولار الأميركي. وقد نصَّب الباكونغ نفسه باعتباره "نظام مدفوعات التجزئة الأول الذي يُديره البنك المركزي باستخدام البلوك تشين"، وبحسب ما تردَّد، يمتلك ثلث سكان كمبوديا نصيبا من عُملة الباكونغ الرقمية تلك. وأضاف كلارك وهرنييتش في مقالهما: "إن الحواجز المنخفضة للدخول عزَّزت الشمول المالي، ما قد يُحدِث قفزة حقيقية في النشاط الاقتصادي على غرار مناطق أخرى في العالم".

أما تايلاند فهي الأخرى في صدارة الدول التي أصدر البنك المركزي فيها عُملة رقمية، مُركِّزا على المعاملات البنكية الفورية بين الأفراد، وفي منافذ البيع والمحلات باستخدام رموز الاستجابة السريعة (QR Codes) وأرقام الهواتف المحمولة وأرقام الحسابات البنكية. ويُشير كلارك وهرنييتش إلى أن تبنِّي هذه التكنولوجيا أبرَز نتائج ملموسة، حيث "سجَّل 70% تقريبا من أصحاب الحسابات في البنك التايلاندي في خدمة الدفع الفوري "برومْت باي" (PromptPay)، وهي الخدمة المُستخدَمة على نطاق واسع بين صغار تجار التجزئة الذين لم يعودوا مضطرين للتعامل مع الأموال السائلة أو تغيُّرات المعروض".

تُبشِّر العُملات الرقمية بفوائد مهمة وملموسة، تتراوح بين زيادة الشمول المالي زيادة كبيرة، وتحسين الإنتاجية، وزيادة الاستثمار والاستهلاك والنمو نتيجة انخفاض تكلفة رأس المال. ولكن لا تتحرَّك جميع بلدان القارة معا في هذا الاتجاه، إذ يُحذِّر كلارك وهرنييتش في مقالهما من أن "الفلبين، الدولة الأولى في آسيا التي تدعم الدفع عن طريق الهاتف بالأموال الذكية منذ عام 2001، لم تبنِ على ريادتها تلك"، كما أنه "لا توجد في الصدارة أيٌّ من الدول الأكبر في رابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) مثل إندونيسيا".

تأتي فوائد العُملات الرقمية بالتوازي مع مزايا ضخمة لتلك الدول التي اتخذت الخطوة الأولى، إذ يُفضِّل المستثمرون الاقتصادات الآسيوية الرائدة رقميا. وبينما يجري التحوُّل في ذلك المجال، سيزيد الضغط على تلك الدول الآسيوية المُتلكِّئة في مضمار رقمنة الاقتصاد. لقد حان وقت اللحاق بالركب أو البقاء في عصور النقد المُظلمة.

________________________________________________

ترجمة: هدير عبد العظيم

هذا التقرير مترجم عن: East Asia Forum ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر : الجزيرة