شعار قسم ميدان

طوفان الأقصى.. القضية الفلسطينية من جيل الألفية إلى جيل ألفا

جاءت "طوفان الأقصى" لتدفع القضية الفلسطينية دفعا إلى وعي الصغار والمراهقين والشباب. (شترستوك)

"يا أيها الأطفال..

من المحيط للخليج، أنتم سنابل الآمال

وأنتم الجيل الذي سيكسر الأغلال

ويقتل الأفيون في رؤوسنا

ويقتل الخيال

يا أيها الأطفال:

يا مطر الربيع

يا سنابل الآمال

أنتم بذور الخصب في حياتنا العقيمة

وأنتم الجيل الذي سيهزم الهزيمة".

(نزار قباني، هوامش على دفتر النكسة)

ربما يتذكر مواليد الثمانينيات وأوائل التسعينيات، أو مَن يُعرفون بالجيل "واي" (Y) أو جيل الألفية (1) بوضوح مشاهدتهم لقتل الطفل محمد الدرة، أمام أعين العالم على الشاشات، وهو مختبئ لا حول له ولا قوة خلف ظهر أبيه، أثناء أحداث انتفاضة الأقصى في مطلع القرن الجديد. مشهد مأساوي سرعان ما تحول إلى أيقونة فجرت نيران الغضب الشعبي في المنطقة العربية بأكملها، ولفتت أنظار العالم إلى الوحشية الإسرائيلية التي تطول الجميع، بمَن في ذلك الأطفال. وقتها كان مواليد جيل الألفية صغارا، يتوزعون بين المدارس أو الجامعات التي انتفضت في سائر المدن العربية، كانت فلسطين وقتها حاضرة في مركز الوعي العام العربي بوصفها قضية أساسية ومركزية.

وعلى مدى أكثر من عشرين عاما منذ ذلك التاريخ، لم تهدأ حِدَّة القضية الفلسطينية، ولم تكف دولة الاحتلال عن قتل المدنيين الوحشي وقصف المدن وممارسات التوسع الاستيطاني، لكن رغم ذلك، شيء ما أزاح القضية الفلسطينية إلى الخلف، فلم تعد في صدارة المشهد، سواء على مستوى الرأي العام في الشارع العربي، أو على مستوى أجندات حكومات الدول العربية.

 

لماذا غابت القضية الفلسطينية عن الصدارة؟

كان مواليد جيل الألفية قد انخرطوا منذ بدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين في أحداث ثورات الربيع العربي، التي بدت واعدة في البداية، وقد برزت بعض الأحداث المبشرة فيما يتعلق بمكانة القضية الفلسطينية أثناء أحداث الحراك الثوري، مثل هجوم المتظاهرين المصريين في القاهرة على السفارة الإسرائيلية، ورفع أعلام فلسطين في بعض المسيرات، ما أثار شعورا باستعادة الوعي العربي الجمعي بالقضية الفلسطينية.

لكن الطموح والأمل لم يستمرا طويلا، وقد حلَّ محلهما يأس وإحباط حين شهد أبناء الجيل انهيار أحلامهم، وفشل ثوراتهم في دولة إثر أخرى، لينشغلوا بعد أن تحولوا إلى آباء وأمهات بالنجاة الفردية، في بلاد تسحق مواطنيها بلا رحمة يوميا، بين ضغوط اقتصادية وقيود على الحريات. لم يُورِّث أغلبهم أبناءهم وعيا ولا قضية، وانعزل الصغار من مواليد جيلَيْ "زد" (من منتصف التسعينيات حتى عام 2010) و"ألفا" (من 2010 – الآن) خلف الشاشات، وقد أصبحت سياسات التطبيع مع الاحتلال في العديد من الدول العربية أمرا واقعا، بعد أن كانت تجري على استحياء فيما سبق.

في غضون ذلك، تراجعت القضية الفلسطينية في مقابل الهم الداخلي لكل دولة، مع اندلاع صراعات أخرى في المنطقة وصعود أجندات سياسية مغايرة (2). غابت فلسطين عن برامج الأطفال ورسومهم المتحركة، التي أصبح أغلبها إنتاجا مترجما من منصات عالمية مثل ديزني وبيكسار وغيرها. كما غاب ذكرها عن أغلب المناهج العربية الدراسية، فلم تعد النكبة تُذكر إلا في سطور قليلة في مناهج التاريخ المبتورة والمُكمَّمة، كأنما شارفت تلك المقولة الشهيرة والمنسوبة إلى بن غوريون على التحقق: "يموت الكبار وينسى الصغار".

طوفان الأقصى.. قُبلة حياة للقضية الفلسطينية

أعاد "طوفان الأقصى" القضية إلى مركزيتها، كما قدم لهؤلاء الصغار مفهوم المقاومة المسلحة حقا أصيلا، ووسيلة أساسية للتغيير والتحرر من الاحتلال وانتزاع المصير (الأناضول)

لكن في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، جاءت أحداث "طوفان الأقصى" لتزلزل هذا الركود، وتعيد القضية الفلسطينية إلى صدارة المشهد، وتدفعها دفعا إلى وعي الصغار والمراهقين والشباب، الذين تحلقوا حول شاشات هواتفهم يتابعون ما يحدث عبر منصات التواصل الاجتماعي، التي لطالما اشتكى آباؤهم من تفاهة ما تعرضه من محتوى، وأصبحت غزة التي ربما لم يسمع بها بعضهم إلا عَرَضا في قلب أفكارهم وأسئلتهم.

أعاد "طوفان الأقصى" القضية إلى مركزيتها، كما قدم لهؤلاء الصغار مفهوم المقاومة المسلحة حقا أصيلا، ووسيلة أساسية للتغيير والتحرر من الاحتلال وانتزاع المصير، خاصة أن أغلب هؤلاء الصغار لم يعايشوا أحداثا مماثلة من قبل. طرح الصغار الأسئلة، فسعى الكبار للبحث عن الإجابات والحقائق الغائبة.

"ولاء" أم لطفلين في التاسعة والحادية عشرة، تعيش في مصر، واجهت أسئلة أبنائها حول فلسطين، وحماس، ومفاهيم المقاومة، والاحتلال والتطبيع. دفعها ذلك للبحث عن فيديوهات تعليمية حول فلسطين، وقصص مناسبة لأعمار طفليها، بالإضافة إلى خريطة مصورة وملونة لفلسطين ما قبل 1948. تقول ولاء في حديثها لميدان: "ظننت أني سأجد صعوبة في البحث لإيجاد هذه المواد، لكني فوجئت بتوافرها على الإنترنت بطرق مختلفة مناسبة لمختلف الأعمار، وباللغات العربية والإنجليزية وغيرها. هذه المرة الأولى التي يعرف فيها أبنائي عن القضية. لا أجد عذرا لي لذلك، لكننا انشغلنا تحت وطأة الظروف الاقتصادية والسياسية الضاغطة في بلادنا عن الحكي عن التاريخ العربي المشترك".

لم يكتفِ الصغار بالأسئلة، وبينما اكتفى آباؤهم وأمهاتهم من جيل الألفية بالمظاهرات والمسيرات الحاشدة في شوارع مدنهم، فيما بدا أشبه بإزاحة مؤقتة لمشاعر العجز، تمكن هؤلاء الصغار من تحويل مشاعر التعاطف والذنب إلى جهد حقيقي للتضامن الفعال، فاستبدلوا بالمسيرات في الشوارع (المُغلقة في معظم بلادنا العربية) النضال الإلكتروني الذي يُتقنون لغته على وسائل التواصل الاجتماعي ذات الصوت الأعلى في زمننا، وانخرطوا في أنشطة متنوعة الفاعلية، ما بين ترجمة مقاطع التوعية بالقضية ونشرها على منصات التواصل الاجتماعي، أو جمع التبرعات والمساعدات، أو حتى التوعية بأهمية حركة المقاطعة العالمية.

مع تواري الإسلاميين بعد هزيمة الربيع العربي تراجعت القضية الفلسطينية في الوعي العربي بصورة غير مسبوقة منذ عصر النكبة. (الجزيرة)

بعض هؤلاء لم يعرف شيئا من قبل عن الصراع العربي الإسرائيلي، رغم أنه لم يخبُ على مدى أكثر من قرن، لكن الوعي به كان قد تراجع مع تراجع القضية الفلسطينية عن مركزيتها. وبالعودة للتاريخ، يمكن القول إن الوعي العربي بالقضية الفلسطينية بوصفها قضية مركزية ارتبط في مرحلة ما بتصاعد الفكر القومي العربي، الذي تصاعد بداية من نكبة 1948، وما تلاها من أحداث من بينها العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. لكن هزيمة عام 1967 شكلت بداية الانحدار للصوت القومي، الذي خبا أكثر وأكثر، مع اتفاقية كامب ديفيد ثم اتفاقية أوسلو، لينتقل زمام المبادرة حينها إلى تيارات الإسلام السياسي التي لعبت دورا بارزا في إحياء القضية الفلسطينية بوصفها قضية إسلامية مشتركة، ولكن مع تواري الإسلاميين بعد هزيمة الربيع العربي تراجعت القضية الفلسطينية في الوعي العربي بصورة غير مسبوقة منذ عصر النكبة (3).

الصورة ورمزيتها والإعلام البديل

يقتات أبناء الجيليْن "زد" و"ألفا" على الصورة أكثر من الكلمة، ويعبرون عن أنفسهم بعبارات قصيرة تتشكل أحيانا في هيئة "هاشتاغات" أو وسوم مختصرة تحمل أفكارهم. وقد أظهرت الحرب على غزة فشل وسائل الإعلام التقليدية في تقديم الصورة الكاملة، وكشفت عن دور الإعلام البديل، فأصبحت منصات مثل إكس وتيك توك وإنستغرام هي مصادر المعلومات الأساسية التي يعتمد عليها الصغار والشباب العربي في فهم ما يحدث في غزة.

لقد وفرت هذه المقاطع سردية قوية مدعومة بالصوت والصورة تُشكِّل وعي الأجيال الصغيرة، هؤلاء الذين يفضلون مشاهدة مقاطع تيك توك بدلا من قراءة كتب التاريخ. وكثفت المقاطع المصورة ثقيلة الوطأة صور المقاومة الباسلة التي تحقق النجاحات بأقل الإمكانات، ومعاناة أهالي قطاع غزة المحاصرين تحت القصف والاستهداف والتجويع، ورجفة الصغار وصراخ الأمهات الثكلى، كلها رموز كوَّنت لوحة فسيفساء صارخة في وجه الضمير العالمي الأصم.

وبينما غابت المواقف الرسمية عن المشهد، اللهم إلا من بيانات إدانة ومطالبات فارغة المعنى، تمكن الشباب وصغار السن على الأرض وعلى منصات التواصل الاجتماعي من ملء هذا الفراغ، أسماء مثل بيسان، ومعتز عزايزة، وعبود، وصالح الجعفراوي، الذين تتراوح أعمارهم ما بين السادسة عشرة وأواخر العشرينيات أصبحوا يشكلون جزءا من حيوات الشباب وصغار السن حول العالم، يتابعونهم يوميا، وقد احتلوا الصدارة بوصفهم أبطالا حقيقيين يتحركون على الأرض كي ينقلوا صورة ما يحدث إلى العالم.

بيسان التي تبدأ مقاطعها اليومية بعبارة: "أنا بيسان ولسه عايشة"، ومعتز عزايزة الذي يتنقل تحت القصف من مكان إلى آخر لنقل هول الحي المحيط به في كل جانب، وعبود أصغر مراسل فلسطيني يعتمد على السخرية والضحك لإيصال رسالته إلى متابعيه من كل مكان، وصالح الشاب الذي يُضحِك الأطفال ويحاول التخفيف عنهم.

لقد تمكن هؤلاء مع غيرهم من رفع الوعي حول القضية الفلسطينية وإعادتها إلى صدارة المشهد، مستبدلين بوسائل الإعلام التقليدية التي صمت آذانها عنهم لغة جيلهم اليومية، عبر منصات تيك توك وإنستغرام وإكس، وتمكنوا عبر حيل ذكية من تخطي الخوارزميات المضللة وتقنيات الحجب، عبر البطيخ الذي أصبح رمزا للعلم الفلسطيني، أو حذف النقاط عن الحروف العربية، أو غيرها من الحيل المبتكرة، وهي حيل لا يسعنا سوى رؤية انتمائها إلى جيلها، في سعي مستمر لإيجاد مكان للرواية الفلسطينية، لسرد الحقيقة، ودحض الرواية الصهيونية الزائفة التي سادت المشهد العالمي (4).

________________________________

مصادر:

 

المصدر : الجزيرة