شعار قسم ميدان

"الكوفية الممنوعة".. لماذا أعلن الإعلام الغربي الحرب على المقاومة الفلسطينية؟

شرطة مكافحة الشغب تبعد متظاهرا خلال مسيرة مؤيدة للفلسطينيين في ألمانيا (الصورة: الفرنسية)

"قد يتعيَّن على حركة التضامن مع الفلسطينيين أن تفكر في علاقتها مع الجهات المتطرفة، بالأخص الإسلاميين، إذا أرادت الحصول على قبول أوسع في ألمانيا".

كان هذا جزءا مما قاله لنا دكتور "سِباستيان إلساسير"، الأستاذ المشارك في قسم الدراسات الإسلامية بجامعة "كيل" الألمانية أثناء كتابة هذا التقرير. في الواقع، لا يبدو واضحا بما يكفي لقطاع عريض من الألمان، بمَن في ذلك "المثقفون منهم"، أن ما يطلبه العرب والمتضامنون مع القضية الفلسطينية في ألمانيا الآن ليس القبول الأوسع ولا التعاطف، وإنما أن تتوقف ألمانيا عن دعمها الصريح للحرب التي يخوضها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين ليس إلا، وهي حرب وصلت إلى حد دعم إسرائيل عسكريا في حربها التي تحولت فعليا إلى "حملة إبادة" ضد سكان قطاع غزة (1)، ووصلت أيضا إلى حد إعلان المستشار الألماني "أولاف شولتس" أن بلاده لديها مسؤولية تاريخية ناشئة عن المحرقة التي ارتكبتها في السابق ضد اليهود تجعل الدفاع عن دولة الاحتلال من مهامها (2).

لا ينتبه الكثير من الألمان ببساطة إلى حقيقة أن بلادهم قد دعمت للتو حربا على شعب مُحتل يقاوم محتليه، وهو ما يظهر جليا في خطابات الساسة، وانحيازات الإعلاميين. لذلك، دعونا نحاول أن نلتقط صورة من قُرب لطريقة تعامل الغرب وإعلامه مع مقاومة الشعب الفلسطيني لدولة الاحتلال، وأن نتوجه مباشرة إلى أبناء الشعوب الغربية أنفسهم كي نلتقط نبض الشارع ورؤيته لتورُّط بلاده في دعم إسرائيل، وما إن كان ينضح بالانحيازات الصارخة نفسها للسياسيين والإعلاميين، أم أن له قولا آخر.

واشنطن والاصطفاف خلف إسرائيل

تأتي الولايات المتحدة بطبيعة الحال على رأس العالم الغربي، وهي لا تدعم إسرائيل فحسب، بل تشارك في الحرب على المقاومة الفلسطينية بصورة غير مباشرة بتسليح تل أبيب، كما أنها تعهَّدت صراحة بدعم إسرائيل بعد عملية "طوفان الأقصى". وتجدر الإشارة إلى أن واشنطن دعمت جيش الاحتلال هذا العام وحده بـ3.8 بلايين دولار (3)، وأن المعدات الأميركية المتطورة توافدت على دولة الاحتلال الإسرائيلي أثناء الأسبوع الماضي، ومنها أسلحة مُصمَّمة خصوصا لاستهداف الأنفاق تحت الأرض، ما يعني أنها موجهة تحديدا للفلسطينيين والمقاومين في غزة (4).

الأكثر لفتا للأنظار من كل ذلك كان الرئيس الأميركي "جو بايدن"، الذي نشر أخبارا كاذبة وادَّعى أنه شاهدها بنفسه، إذ روَّج الرجل رواية غير حقيقية أمام الشعب الأميركي والإعلام العالمي، وقال إنه رأى لقطات مؤكدة لمقاتلي حماس (الذين وصفهم بالإرهابيين) وهم يقطعون رؤوس الأطفال. وقد نفى بعد ذلك مسؤولان من البيت الأبيض أن يكون بايدن قد شاهد تقارير أو صورا مؤكدة، وأكدا أنه استند في مزاعمه إلى روايات مسؤولين من دولة الاحتلال (5). ومن جهته، صبغ وزير الخارجية الأميركي "أنتوني بلينكن" أثناء زيارته إلى تل أبيب الحرب على الشعب الفلسطيني بصبغة دينية، مؤكدا أنه لم يأتِ إلى إسرائيل بصفته وزير الخارجية الأميركي فقط، وإنما جاء بصفته "يهوديا" أيضا، وقد أكد بلينكن في هذه الزيارة تقديم الدعم العسكري الكامل لإسرائيل (6).

على الصعيد الإعلامي، تعمَّد الإعلام الأميركي حجب الرواية الأخرى للصراع عن المُشاهد، فلم يستضف أطرافا قوية تعبر عن موقف المقاومة وتحاجج عنها، حتى من باب فهم الطرف الآخر. وحتى الصحافيون الذين اشتهروا بالدفاع عن القضية الفلسطينية، مثل الكاتب البريطاني-الأميركي "مهدي حسن"، لم ينسَ وهو يدين السياسات الإسرائيلية أن يدين الحق الإنساني للشعب الفلسطيني في مقاومة محتليه، واصفا المقاومة بأنها "ترتكب أفعالا مروعة"، في محاولة لالتزام "الحياد" أمام الإعلام الأميركي. وحين استضافت وسائل الإعلام الأميركية ممثلين عن السلطة الفلسطينية، حاولت أن تفتح محكمة تفتيش لهم في البداية وتطلب منهم قبل كل شيء إدانة هجوم حركة حماس، رغم أنها لم تطلب أبدا في بداية حواراتها مع مؤيدي الاحتلال أن يدينوا قبل أي شيء جرائم إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وهي النقطة التي أشار إليها حسام زُملط رئيس البعثة الفلسطينية في بريطانيا في العديد من حواراته الإعلامية مؤخرا.

من المؤكد أن هذا الترويج المستمر للروايات المضللة حول الصراع يؤثر في نظرة وتوجهات المواطنين العاديين. وبحسب آخر استطلاع للرأي، الصادر في أكتوبر/تشرين الأول الحالي، الذي أجرته مؤسسة "إن بي آر" الإعلامية الأميركية، فإن ثلثَيْ الشعب الأميركي الآن "يؤيد فكرة دعم إسرائيل بقوة في حربها على حماس"، وهؤلاء هم الذين شاهدوا قادتهم وإعلامهم يتحدثون عن "إرهابيين يقطعون رؤوس الأطفال" بدلا من الحديث عن حماس بصفتها حركة مقاومة تقاوم الاحتلال الإسرائيلي. ولكن تجدر الإشارة إلى أن تلك النسبة تقِل في الأجيال الأصغر سِنًّا، إذ إن 48% فقط من جيل "زِد" (الذي وُلد بين منتصف التسعينيات إلى عام 2010) يؤيدون دعم الولايات المتحدة لدولة الاحتلال عسكريا (8).

العواصم الأوروبية.. ازدواجية دعم أوكرانيا وإدانة فلسطين

لا يختلف الوضع كثيرا في ألمانيا، فقد عرضت حكومة شولتس دعمها العسكري لإسرائيل، وأعلنت أن مهمتها تتمثل في الدفاع عن دولة الاحتلال. كما مُنِعَت المظاهرات المؤيدة لفلسطين في العاصمة الألمانية برلين (9)، وحظرت البلاد ارتداء الكوفية الفلسطينية في المدارس لأنها قد تعني تأييد المقاومة الفلسطينية (10). وقد اعتدت قوات الشرطة الألمانية على ناشطين عرب وألمان في الشوارع الألمانية بسبب هتافهم "فلسطين حرة"، وهو هتاف يبدو أنه يُزعج السلطات الألمانية هذه الأيام، فضلا عن إعلان ألمانيا حظرها شبكة "صامدون" للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين.

على المنوال نفسه، يواجه الإعلاميون الألمان الذي يريدون توصيل الحقائق التاريخية للقضية الفلسطينية صعوبات جمَّة، إذ أوقفت الإذاعة البافارية التعامل مع الصحافي "مالكولم أوهانْوِي" ذي الأصول النيجيرية ومنعته من الظهور على شاشتها بعد أن كتب تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي "إكس" (تويتر سابقا) قائلا إنه "حين تُقطع ألسنة الفلسطينيين بشكل مُمنهج، كيف يمكنهم الاعتماد على الكلمات للدفاع عن أنفسهم؟" (11). ويشكو النشطاء الفلسطينيون في ألمانيا من انتهاكات النظام الألماني التي وصلت إلى حد الابتزاز بأوراق الإقامة لداعمي القضية الفلسطينية، وكذلك من حملة التشويه التي يصفونها بالعنصرية وتنتهجها وسائل الإعلام الألمانية ضد الشباب العرب.

لقد تحدَّث معنا في "ميدان" الأستاذ "سباستيان إلساسير" الذي قال إنه يعتقد أن وسائل الإعلام الألمانية الرئيسية تقوم بتغطية الحرب من مختلف وجهات النظر، وليس فقط من المنظور الإسرائيلي الرسمي، وإنه لا يرى فرقا في تعامل وسائل الإعلام اليمينية عن اليسارية في التعاطي مع هذا الملف، وإن الإعلام يبرز القصف والوضع الكارثي في غزة في الوقت نفسه الذي يبرز فيه التفاصيل المروعة لهجمات حماس على حد وصفه، وإنه يناقش مصير المواطنين الألمان الذي قُتلوا أو اخُتطفوا أثناء الحرب (12).

في الوقت نفسه، يذكر "إلساسير" أيضا أن معظم مقالات الرأي حتى في وسائل الإعلام اليسارية تتخذا موقفا مؤيدا لإسرائيل وتدعم "الرد العسكري" على طوفان الأقصى، مؤكدا أن الدعوات لفرض الحظر على المظاهرات المؤيدة لفلسطين تجادل بأن هذه المظاهرات تنظمها جماعات متطرفة، وأن الحاضرين في مسيراتها السابقة كانوا يرددون شعارات معادية للسامية وتُمجِّد العنف بحسب كلامه. وهنا نصح "إلساسير" المتضامنين مع فلسطين بمراجعة علاقتها بمَن سمّاهم "المتطرفين"، وخاصة الإسلاميين، إذا رغبوا في القبول بهم داخل ألمانيا.

لا يختلف الموقف كثيرا في أغلب العواصم الأوروبية، ففي باريس توعَّد وزير العدل الفرنسي المتضامنين مع الشعب الفلسطيني بالسجن 5 سنوات (13). وقد رفضت السلطات الفرنسية منح التصاريح للمظاهرات الداعمة للقضية، كما يشعر المتضامنون مع حق الشعب الفلسطيني في المقاومة بالخوف الدائم من الملاحقة في ظل فصل العديد من الصحافيين من مؤسساتهم بعد إعلانهم التضامن مع فلسطين، لدرجة أن بعض النشطاء أصبحوا لا يصرحون بأسمائهم لوسائل الإعلام أثناء حديثهم خوفا من الملاحقة (14). للمفارقة، فإن العواصم الأوروبية قبل طوفان الأقصى بيوم واحد كانت تدعم حق الشعب الأوكراني بالكامل في مقاومة "الاحتلال الروسي"، ثم حين قاوم الفلسطينيون الاحتلال الإسرائيلي لبلادهم، سرعان ما انهالت الإدانات والمساعدات العسكرية من أجل قمعهم.

وفي إيطاليا التي أعلنت تضامنها مع إسرائيل وأعلن فيها اليسار قبل اليمين انحيازه لدولة الاحتلال في وجه المقاومة، أخبرنا "لويجي سيمونيلي"، صحافي حر وطالب دراسات عليا بكلية العلوم السياسية بجامعة روما، أن وسائل الإعلام الكبرى الرئيسية، وهي "إل فوليو" و"كوريري ديلا سيرا" و"ريبوبليكا"، هي ذات توجه واحد مؤيد لدولة الاحتلال حتى على صفحاتها الرئيسية. ليس هذا فحسب، بل إنهم لا يفرقون بين حماس والشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية، فهم يسمونهم جميعا "الفلسطينيين". وفي الواقع لم يذكر لويجي أنهم يضعون كلمة الفلسطينيين بين أقواس أحيانا، وبالنسبة لروايتهم فإن الفلسطينيين هُم مَن تعدَّى على دولة إسرائيل بعمليات "إرهابية"، دون تسليط الضوء على البُعد التاريخي للاحتلال الإسرائيلي.

ولكن ذكر لويجي أن الصحف الإلكترونية الصغيرة تأخذ منحى أكثر موضوعية، وأنها تدين "العنف على الجانبيْن" حسب وصفه، وتوضِّح سياق الصراع، علاوة على حدوث تقدُّم هائل على حد قوله في وصف سياسات إسرائيل على أنها "فصل عنصري" (Apartheid)، إذ صارت تلك الصياغة حاضرة ويمكن سماعها بسهولة في بعض برامج التوك شو الإيطالية من بعض المناصرين للقضية الفلسطينية، مثل الصحافي والناشط السابق في حركة "النجوم الخمسة" أليساندرو دي باتيستا. وقد أكَّد لويجي في الأخير أن كلمة الفصل العنصري لم تكن تُستخدم أبدا من قبل.

بيد أن الصورة ليست قاتمة تماما في القارة العجوز، ففي أيرلندا لطالما تمتَّعت القضية الفلسطينية بشعبية كبيرة. وقد أعلن رئيس وزراء أيرلندا صراحة أن انتهاكات إسرائيل المتزايدة في غزة ستفقدها الدعم الدولي (15). وفي النرويج، التي تُعد صُحُفها من الصحف الأوروبية القليلة التي تتناول الحرب بموضوعية، أدانت الحكومة بشدة حصار دولة الاحتلال لغزة وأي محاولات لتهجير أهل غزة من ديارهم (16).

نبض الشارع

يرى إلساسير أن الشعور العام بين الشعب الألماني منسجم مع توجه حكومته فيما يخص القضية الفلسطينية، بل إن الشعب أكثر تأييدا لإسرائيل من القيادات والنُخَب. (الصورة: الأناضول)

ابتسم الرجل وصمت لثوانٍ ثم قال: "لا أعرف حقا لماذا"، ثم صمت مجددا وقال: "إنه أمر معقد". كان هذا هو رد "لويجي سيمونيلي" على السؤال الذي بدا لنا سهلا، وهو لماذا لا يسأل الإيطاليون أنفسهم لماذا يؤيدون مقاومة الاحتلال بالعنف في أوكرانيا، في حين يُنكرون على الفلسطينيين الأمر نفسه؟ لقد شرح لويجي أن هناك تأثيرا كبيرا للأخبار المزيفة على الشعب الإيطالي، وأن الناس العاديين في إيطاليا يعلمون قليلا جدا عن الصراع في فلسطين، بما في ذلك السياسيون الإيطاليون. ويعطي لويجي أيضا أهمية كبيرة للغة التي تستخدمها الصحافة والإعلام وكيف تؤثر على تفكير الناس، إذ إن مقاومة الفلسطينيين مقترنة في الأذهان بـ"الإرهاب" بسبب الصفة التي أعطتها لها الصحافة، بينما المقاومة الأوكرانية تسمى مقاومة لأن الصحافة أكدت ذلك. رغم ذلك يعتقد لويجي أن الشعور الغالب على الشعب الإيطالي والمواطنين العاديين فيما يخص هذه القضية هو شعور الحيرة.

من جهة أخرى، قدَّم "إلساسير" تحليلا عميقا لموقف الشعب الألماني من القضية الفلسطينية، قائلا إن غالبية المواطنين العاديين في ألمانيا مثلهم مثل أقرانهم في جميع البلدان، لديهم اهتمام محدود بالشؤون الخارجية، ومعظم الناس في ألمانيا منذ التسعينيات غير مبالين إلى حدٍّ ما بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي على حد وصفه. ولكن الشعور العام بين الشعب الألماني منسجم مع توجه حكومته فيما يخص تلك القضية، بل إن الشعب أكثر تأييدا لإسرائيل من القيادات والنُّخَب. ويرى "إلساسير" أن الأسباب التي تجعل الرأي العام الألماني مؤيدا لإسرائيل أكثر تعقيدا من الأسباب التي تُطرح عادة، إذ إنها ترجع إلى الرغبة في التغلب على الذنب التاريخي للمحرقة عند الألمان، كما أن فكرة كون إسرائيل جزءا من "عالمنا الغربي" تلعب دورا كبيرا وفقا لحديث "إلساسير" مع "ميدان"، كما تلعب العنصرية ضد العرب والمسلمين دورها أيضا.

وقد أضاف "إلساسير" أن هناك علاقات قوية بين المجتمع المدني في ألمانيا ونظيره في إسرائيل، كما أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تلقَ أي دعم في ألمانيا خارج النطاق اليساري الراديكالي، إذ لا تزال عملية اختطاف وقتل رياضيين إسرائيليين في أولمبياد ميونخ عام 1972 تلعب دورا حتى الآن في تشكيل صورة الفلسطيني في ذهن معظم الألمان بوصفه إرهابيا. ويعتقد "إلساسير" أن حتى التعاطف بين الشباب الألمان مع المقاومة الفلسطينية بشكلها الحالي لا يزال منحصرا في جناح صغير من اليسار، وحتى اليساريون في الحركات الشبابية التقدمية في ألمانيا يؤمنون أكثر بفكرة المقاومة اللا عنيفة، إذ يواجه الشباب التقدميون صعوبة كبيرة في تقبل التكتيكات التي استخدمتها حماس في الجولة الأخيرة من الهجمات.

رغم أن التفكير النقدي تجاه الاستعمار الأوروبي وازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع القضية الفلسطينية أصبح أكثر انتشارا في الجامعات، فإن الناشطين الذين يستلهمون هذا الاتجاه ينخرطون في الأغلب في قضايا محلية، مثل مكافحة العنصرية، وممارسة الضغوط من أجل نظام هجرة أكثر ليبرالية، وما إلى ذلك، وهم متعاطفون مع العدالة العالمية وحركات المقاومة، لكنهم لا يزال متشككين فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، التي تنطوي على أبعاد قومية ودينية لا تنسجم كُلية مع توجهاتهم العالمية.

_______________________________________________

المصادر

المصدر : الجزيرة