شعار قسم ميدان

"في الأزمة كلنا إشتراكيون".. كيف يرى سلافوي جيجيك أزمة كورونا؟

تختلف الآراء حول الناقد السلوفيني سلافوي جيجيك بصفته واحدا من أبرز مفكري التيار اليساري في أوروبا القارية، لكن ما يتفق عليه الجميع هو أنه أحدث حالة جدلية في المشهد الثقافي، كما استطاع أن يصل إلى شرائح جديدة من الشباب في حديثه عن السينما والفن والفلسفة والسياسة والاقتصاد والدين ولم يقتصر على الأفكار المجردة والنظريات الأكاديمية فحسب.

 

وُلِد جيجيك طفلا وحيدا لعائلة بيروقراطية من الطبقة المتوسطة عام 1949م في ليوبليانا عاصمة سلوفينيا، وكان مهتما بقضايا الفكر والاجتماع، فنشر أول كتاب له في سن العشرين، وبسبب بعض التعثرات والمضايقات تأخر حصوله على درجة الدكتوراه في الفلسفة حتى عام 1981م. وقد تنوع عطاء جيجيك وخبراته في مجالات متعددة؛ فقد عمل باحثا ومؤلفا وتعمق في المسائل الفكرية والفلسفية، كما شارك مقاتلا في جيش يوغسلافيا فاكتوى بنار الحرب، بالإضافة إلى حبه الشخصي للأدب والسينما مما صنع بداخله حسا فنيا خاصا، صنع هذا المزيج شخصية ذات روافد ثقافية متنوعة أهّلته لأن يصبح من رواد الفكر اليساري في العالم حاليا.

 

ومنذ مطلع القرن العشرين تناول جيجيك الظواهر الاجتماعية والأحداث السياسية والتطورات الاقتصادية بحس يساري ناقد وبنفَس هجومي في أغلب الأحيان. ومع بوادر الوباء العالمي لفيروس "كوفيد-19" كتب سلافوي جيجيك مقالاته التي يُحلِّل خلالها الوضع الراهن ويطرح العديد من التساؤلات ويُقدِّم تحليلا نفسيا لسلوكياتنا تجاه الفيروس، ونشر هذه المقالات في كتاب بعنوان "الوباء: "كوفيد-19″ يهز العالم" (Pandemic!: Covid-19 Shakes the World). فكيف قدَّم جيجيك لنا صورة بانورامية تحليلية لكارثة تلتهم أرواحنا يوما وراء يوم؟

سلافوي جيجك
سلافوي جيجيك

مَن نلوم؟

في بداية الكتاب يؤسِّس جيجيك لرؤيته تجاه وباء فيروس كورونا المستجد، ويُقرِّر بكل سلاسة أن أسوأ مخاوفه تجاه كورونا لا تكمن في فقدان السيطرة على الجماهير نظرا لانتشار الجوع مما يُنذر باندلاع تظاهرات عارمة في العالم، فهذا الأمر مستبعد في نظر جيجيك، وإنما ما يخشاه هو فرض قوانين قسرية وفرمانات استثنائية على الشعوب بحجة الحفاظ على حياتها وحماية مقدّراتها.

 

ويرى جيجيك أن النظام العالمي يُمهِّد لذلك بالفعل؛ فتارة يُصرِّح بأن 60%-70% من سكان العالم سيصابون بالفيروس، وتارة يقولون إن خطر الفيروس سيستمر لمدة عامين، وتارة يُعلنون أن هناك ملايين المواطنين سيموتون إذا لم يلتزموا بتعليمات الدولة. فيقول إنه نوع من التمهيد لتمرير قرارات سلطوية منقطعة النظير. ومن أجل امتصاص قلق الناس فإن الخطابات الرسمية، وفقا لجيجيك، تُلقي المسؤولية على الناس وعلى الاختيار الفردي ولا تُسائل إجراءات الدولة أو تُراجع مؤشرات نجاحها وفشلها. ويستذكر جيجك أن هذا الخطاب نفسه تستخدمه بعض الحركات والخطابات البيئية حينما تُلقي اللوم على الأفراد؛ فهم لا يتخلصون من قمامتهم بشكل سليم، ولا يتصرفون بشكل صديق للبيئة في حياتهم اليومية.

 

ويرى جيجيك "أن هذا التضخيم المبالغ فيه للدور الفردي، وإن كان فيه جزء من الحقيقة، ولكنه يتحول إلى أيديولوجية بمجرد تشويشه على الأسئلة الكبرى المتعلقة بتغيير النظام السياسي والاجتماعي". وهذه المراوغة السلطوية تدفع جيجيك إلى طرح سؤال: "ماذا لو أن الأنظمة تعمل لاستغلال أزمة كورونا لفرض أشكال جديدة من السلطة؟".

الوباء: "كوفيد-19" يهز العالم
كتاب "الوباء: "كوفيد-19″ يهز العالم" لسلافوي جيجيك

حالة استثناء وتمدد السلطة

إذا انتقلنا من جيجيك إلى المفكر الأميركي ناعوم تشومسكي في آخر لقاء له، فسنرى أن الأخير اعتبر أن الإجراءات الاستثنائية التي تُطبِّقها الحكومات من إغلاق للحدود الداخلية والخارجية، وحظر التجوال في بعضها، واستخدام الجيش في تطبيق إجراءات العزل، كما حدث أو يحدث في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا ودول أخرى عديدة "قد تتسبّب بتدهور الديمقراطية والنزوع إلى الاستبداد في كثير من مناطق العالم"[1].

 

ولا يذهب جيجيك أبعد كثيرا مما ذهب إليه تشومسكي، فقد اتجهت الدول بالفعل لتعزيز سطوتها على الشعوب وتمديد نطاق سلطتها ومراقبتها للمواطنين كما فعلت كوريا الجنوبية، أو فرضت قوانين استثنائية مثل الذي فرضه بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني، من تأميم لقطاع السكك الحديدية كافة، من أجل إدارة الأزمة. هذه هي نظرة جيجيك إلى الأزمة، إنها فرصة ذهبية للدول لفرض حالة استثناء، فما كان من قبل مستحيلا صار الآن ممكنا. ويتوقّع جيجيك أنه في بعض دول العالم سوف تُسيطر المجموعات الميليشية المسلحة على الأوضاع إذا استمر حظر التجول وتعطل الأعمال وانطلاق شرارة ثورات الجوع والفقر. لكن الأنظمة لن تسمح بهذا، وستحاول بشتى الطرق التضحية بأرواح الناس من أجل الحفاظ على بقائها.

 

ويضرب جيجيك مثالا على استباق الأنظمة لقمع الاحتجاجات في إطار التمدد السلطوي المخيف الذي أتاحته الأزمة، مشيرا إلى ما أصدره فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري اليميني، في 30 مارس/آذار 2020م، حين أصدر مرسوما يلغي الانتخابات ويُمدِّد فترة حكمه إلى أجل غير مسمى، وهو الأمر الذي يرى جيجيك أنه قد يتكرر بصور مختلفة في الدول الديمقراطية مما يعتبر تهديدا لمفهوم الليبرالية من جذره.

 

هذا التوحش المتوقَّع لسلطة الدولة يرفضه جيجيك، ويرفض النداءات المطالبة بالاستماع إلى أوامر الدولة وتنحية الخلافات السياسية كافة جانبا، فهذا النوع من الاتباع الأعمى لن يُنتِج سوى خسران الأرواح لصالح النظام الرأسمالي. وعوضا عن الاستسلام والانقياد المطلق وراء الأنظمة السياسية يُطالبنا جيجيك بالتفكير بعقلية ناقدة لسياسات تلك الأنظمة حتى لا نقع فريسة لتوغل الأنظمة الاستبدادية على حساب حرياتنا وخصوصيتنا.

الخطاب الشعبوي المخادع لترامب والمحافظين

blogs ترمب
الرئيس الأميركي "دونالد ترامب"

يُشير جيجيك إلى أن خطاب الأنظمة اليمينية دائما ما يُلقي اللوم على المواطنين بصفتهم المسؤولين الرئيسيين عن انتقال العدوى لهم، ويعتبرهم مصدر الكارثة الأساسي لعدم التزامهم بارتداء الكمامة أو غسل الأيدي. وهذا -وإن كان صحيحا بشكل جزئي- يُهمل الدور الأساسي للدولة التي شرخت جدار الثقة بين شعبها وبين قراراتها، حتى صار الجميع يعرف أن الأنظمة فقدت السيطرة على الوضع بسبب سياستها وخطاباتها.

 

يُشبِّه جيجيك تعامل ترامب والمحافظين مع الوباء بتعامل الولايات المتحدة مع العراق، فعندما شعرت الولايات المتحدة بتهديد الراديكاليين في العراق احتلّت العراق كي تردعهم، فلم تفعل شيئا إلا أن عزّزت من قوة هذا التهديد بدلا من أن تقضي عليه. وبالمثل، يدعو جيجيك إلى عدم تهويل الأزمة حتى لا نتجنّب المشكلة بخلق مشكلة أخرى، ويقول: "إننا إذا تجاهلنا الفيروس فإننا لن نخلق أزمة كبيرة مقارنة بالخسائر الناتجة عن إجراءات الحظر والتباعد الاجتماعي إذا ما طبّقناها، الأمر الذي يخلق أزمة اقتصادية هائلة وزيادة متضاعفة في معدلات الفقر والمرض لا تساوي شيئا بجانب عدد الوفيات المتوقعة بسبب الفيروس".

 

لذلك تؤكد الباحثة السلوفينية ألينكا زوبانجيك أن نداء ترامب "ارجعوا للعمل" يخاطب العمال وأبناء الطبقات الدنيا الذين لا يجدون قوت يومهم ولا يتحمّلون تكلفة حظر التجول ويحتاجون إلى رواتبهم بشدة. ويبدو ترامب هنا -وفقا لزوبانجيك- حريصا على حياتهم الاقتصادية رغم أن سياساته الرأسمالية المتوحشة -لا سيما في قطاع الصحة- هي التي أودت بهم إلى الفقر وقلة ذات اليد ابتداء.

كيف تعاملنا مع بداية الأزمة؟

The spread of the coronavirus disease (COVID-19) in Lund

يرى جيجيك أن النظر لأزمة كورونا المستجد لا ينبغي حصرها داخل المجال البيولوجي فحسب، وإنما يجب علينا أن نأخذ جوانب إنسانية عدة في الاعتبار، مثل ظاهرة العولمة وعادات الطعام وشبكات التجارة الدولية وميكانزمات الخوف والهلع البشرية، في سبيل فهم انتشار الفيروس وتقييم سلوكياتنا تجاهه بشكل أعمق. وفي هذا الإطار ينقد جيجيك نظرة الإعلام الأميركي والعالمي للمرض باعتباره عدوا يسعى إلى محاربة الإنسان، فوفقا لجيجيك فإن الفيروس "لا يمتلك وعيا حتى يقال إنه يتحرك بدافع القضاء على البشر، وإنما هو يتكاثر بشكل أوتوماتيكي أعمى لا أكثر". لكن هل يعني ذلك أن نتجاهل خطر الفيروس بما أنه غير موجّه ضدنا عن قصد؟

 

يرى جيجيك أن العكس هو الصحيح، ويؤكد أننا قمنا بعملية "استبعاد نفسي" لأزمة الفيروس قبل قدومها، تماما كما نعيش حالة من الإنكار في بداية تلقّينا لأي أخبار صادمة من أجل إيهام أنفسنا أن الخطر بعيد عنا. فرغم التحذيرات التي أطلقها متخصصون وعلماء بخطورة التحويرات التي ستحدث لفيروس سارس (كوفيد-2) منذ 2003م، فإن الساسة في الدول الكبرى لم يستجيبوا لهذه التحذيرات، ببساطة "لأننا لم نُصدِّق أنها كانت من الممكن أن تحدث، فلم نأخذها على محمل الجد بما يكفي". ولذلك يصف جيجيك حال الشعوب عند بداية تلقّيها أخبار كورونا قائلا: "إن أول رد فعل لنا تجاه الفيروس هو أننا اعتبرناه كابوسا لا يلبث أن نستيقظ منه سريعا. لكن جميعنا الآن يعرف أن هذا لن يحدث، يجب علينا أن نتعايش في عالم فيروسي، فطريقة معيشتنا سيُعاد بناؤها بشكل مؤلم".

ما العمل؟!

عند حديثه عما ينبغي للبشر أن يفعلوه من أجل مقاومة الفيروس، يرفض جيجيك بطبيعة فكره المادي اللجوء للروحانيات، ولا يعتبر نفسه مؤيدا للأطروحات الدينية حول الفيروس، لكنه يحرص في الوقت ذاته على تشجيع كل ما يحافظ على سواء الناس وهدوئهم حتى لو كان مخالفا لاعتقاداته الشخصية، فيقول: "كل ما يُجدي نفعا في تجنُّب انهيارك العصبي هو مسموح الآن: الدين والروحانيات والسلوكيات الصغيرة، وحتى الحيل النفسية والإنكار مثل أن تقول: أنا أعلم أن الوضع خطير لكني لن أصاب بالفيروس… كل هذا مطلوب حاليا من أجل الحفاظ على صحتنا النفسية".

وحده الإله يمكن أن ينقذنا

ويدعو جيجيك في كتابه إلى تطبيق الشيوعية كنظام حكم، ويستدرك ليوضح للقارئ مقصده بالشيوعية، فيقول إن الدولة ينبغي لها "أن تُنظِّم سوق المستلزمات الطبية بشكل كامل من حيث الإنتاج والتوزيع لضمان صحة جميع المواطنين، لا سيما المتضررين في قطاعات السياحة واللاجئين وكبار السن، وعدم تركهم فريسة لميكانزمات السوق". وكما هو متوقع هاجم كثيرٌ من النقاد والمفكرين دعوةَ جيجيك إلى الشيوعية، باعتبارها دعوة إلى الاستبداد وإلى استرجاع نظام بائد قائم على حكم الحديد والنار، فهل الشيوعية بالنسبة لجيجيك تعني بالفعل تطبيق ما فعله الاتحاد السوفيتي من قبل؟

"في الأزمة كلنا اشتراكيون"

من خلال تأمُّل جيجيك فيما حدث في أميركا، حيث نظر ترامب في تأميم بعض مساحات القطاع الخاص وفرض على الشركات إنتاج حصص معينة من سلعها ترشيدا لعملتَيْ الإنتاج والاستهلاك، وفيما حدث في بريطانيا من تأميم مؤقت للسكك الحديد، يدعو جيجيك إلى هذا النوع من الاشتراكية/الشيوعية، ويتساءل: "هل كان بإمكاننا تصوُّر هذه الأمور قبل الوباء؟ إنها ضرورة الحرب التي تكشف لنا أن الشيوعية هي السبيل الوحيد لنجاة البشرية".

بريطانيا تؤمم بشكل مؤقت السكك الحديد لمواجهة كورونا
السكك الحديدية في بريطانيا بعد تفشي فيروس كورونا

وفي الوقت نفسه الذي يُحفِّز جيجيك فيه القطاع المدني والمجتمعات المحلية على تقوية أركانها من أجل رعاية المحتاجين والضعفاء، فإنه لا يدافع عن تفكيك جهاز الدولة البيروقراطي البتة، ويُصرِّح قائلا: "هذا ما أسميه بالشيوعية، وهذا النوع من الإجراءات هو ما يحدث في بعض الدول مثل بريطانيا، لكني لا أدعو إلى محو الدول أو إزالة وجودها، حينذاك ستندلع الحروب فورا".

 

ويرفض جيجيك انصهار الجميع تحت جهاز الدولة، لأن هذا سيُشكِّل نوعا من الديكتاتورية العمياء، ولكنه عوضا عن ذلك يُطالب بتعزيز الفاعلية السياسية للناشطين والحقوقيين والمراقبين والهيئات الرقابية والبحثية من أجل تجاوز الأزمة بأقل الخسائر الممكنة. ويختم جيجيك كتابه برؤيته للوضع؛ فهو يُلقي بنظرة استشرافية للمستقبل وينقلها لنا: عالم ما بعد كورونا هو عالم رأسمالي أكثر توحشا؛ النظام سيضحي بكبار السن والمسنين والضعفاء وسيتركهم ليموتوا في مقابل تشغيل عملية الاقتصاد، والعمال سيضطرون إلى قبول أوضاع أقل إنسانية لمعيشتهم، وآليات المراقبة والسلطة سوف تتمدّد. نعم، لن تخرج الرأسمالية منتصرة من الفيروس، لكنها لن تخرج منهزمة كذلك.

المصادر

  1. نعوم تشومسكي: ما بعد كورونا أخطر من الوضع الراهن