شعار قسم ميدان

لماذا تخلت واشنطن عن مصر والسودان في قضية سد النهضة؟

الولايات المتحدة، التي عوَّلت عليها القاهرة لحل أكبر تهديد مائي يواجهها، تساهم في عملية تشييد سد النهضة عبر عدة شركات أميركية (الأناضول)

في التاسع من سبتمبر/أيلول 2023، اجتاح إعصار دانيال سواحل اليونان قبل أن يتوجه بعواصفه العاتية إلى السواحل الأفريقية، بداية من مدينة بنغازي الليبية وصولا إلى منطقة الجبل الأخضر. وهناك كانت الكارثة الكبرى الأشد وقعا والأكثر تنكيلا في مدينة درنة، بعدما تسبب الضغط الهائل للمياه في انهيار السدَّين المائيَّين المحيطين بالمدينة، اللذين تبلغ سعتهما التخزينية 25 مليون متر مكعب من المياه. وكأن الأمر لم يكن كافيا، أتت تلك المياه مُحمَّلة بالطين، ما ضاعف قدرتها التدميرية، فجرفت في طريقها كل ما قابلها، وتحولت درنة إلى مدينة مغمورة بالمياه، بعدما اختفى ربع مساحتها، وبات الآلاف من سكانها في عداد المفقودين.

وفي الوقت نفسه تقريبا، أعلنت إثيوبيا وصولها إلى الملء الرابع لسد النهضة، الذي ترى مصر أنه يواجه عيوبا فنية في بنيته، إلى جانب موقعه المرتكز في منطقة حزام زلازل. ورغم أخطاره، فإنه يُعد أكبر مشروع لإنتاج الطاقة الكهرومائية في أفريقيا، بتكلفة نحو 4.8 مليارات دولار أميركي، وبسعة تخزينية تُقدَّر بنحو 74 مليار متر مكعب من المياه، أو ما يقرب من ثلاثة آلاف ضِعْف سعة سَدَّيْ درنة، وهي سعة تقترب من مجموع ما تحصل عليه مصر والسودان من الحصة السنوية من مياه النيل. ويقول الخبراء إن السد يمكن أن يحجب مرور النيل الأزرق إلى دولتَيْ المصب لمدة متواصلة تبلغ عاما ونصف العام في أيام التدفق العادية، لكن ما فاقم الشكوك المصرية هي المساعي الإثيوبية لبناء ثلاثة سدود جديدة خلف سد النهضة، بسعة تخزينية 200 مليون متر مكعب من المياه، وكان تبدُّل الموقف الأميركي هو أولى العقبات التي اصطدمت بها القاهرة في خضم مساعيها لكيلا يكون مصير أمنها المائي بيد إثيوبيا، ولكيلا تطولها كارثة طبيعية محتملة جرَّاء السد (1).

القاهرة وأديس أبابا.. التحولات بين ترامب وبايدن

في الخامس عشر من ديسمبر/كانون الأول 2022، نشرت وسائل إعلام مقطعا مصورا يُظهر الرئيس جو بايدن، ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، وعددا من القادة الأفارقة، أثناء مباراة المغرب وفرنسا ضمن نصف نهائي كأس العالم المُقام في قطر، في جو غابت عنه الأعراف الدبلوماسية والتقاليد الرسمية الصارمة (2). كانت الصورة أكثر دلالة من غيرها على تبدل العلاقات بين البلدين، بعدما شابها من توترات عدة منذ اندلاع الحرب في إقليم تيغراي عام 2020، لكن المياه عادت إلى مجاريها مع اشتراط واشنطن انسحاب الجيش الإريتري، وتوقيع اتفاق سلام نهائي، ومن ثمَّ نأت إثيوبيا بنفسها عن الوقوع فريسة لاستمرار العقوبات الاقتصادية الغربية (3)(4).

تعكس التغيرات في العلاقات بين واشنطن وأديس أبابا انقلابا واضحا في علاقة الوسيط الأميركي مع القاهرة في قضية السد، خاصة أن موقف الولايات المتحدة شهد تقلبات عدة أضرَّت بموقف مصر في القضية برُمَّتها. وتبدو تلك الشواهد حاضرة، بداية من عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي تدخل بصورة شخصية لصالح الرئيس المصري، واستضافت واشنطن في عهده عددا من جولات التفاوض بين مصر والسودان وإثيوبيا، حتى إنه يُتهم بإعطائه الضوء الأخضر للقاهرة بتفجير السد في مكالمة مع رئيس الوزراء السوداني السابق في الحكومة الانتقالية عبد الله حمدوك، ضمن ضغوطات لا تخلو من لغة التهديد مارستها واشنطن لإجبار أديس أبابا على الرضوخ لاتفاق قانوني ملزم يشمل في بنوده الإفصاح عن قواعد أمان السد، وملئه في أوقات الجفاف، ونظام التشغيل، وآلية فض النزاعات.

رغم عدم كفاية التطمينات الأميركية، اطمأنت القاهرة لموقف السودان، وانقسام المدنيين والعسكريين في قضية السد، إلى جانب أن مصر ذاتها لم تتخذ خطوات تصعيدية حتى تجاه المحطات المُعلنة لملء السد. لكن بين ليلة وضحاها تغيَّرت موازين القوى، وخسر ترامب الانتخابات الرئاسية، وصعد بديلا عنه الرئيس الديمقراطي جو بايدن، الذي خسرت مصر بصعوده بعض أوراق الضغط الأميركية التي أرهقت الجانب الإثيوبي (5).

إذ لم يولِ الرئيس السابق ترامب أهمية تُذكَر للوضع السياسي في مصر، لكنه على النقيض، فرض عقوبات على إثيوبيا عام 2020، وحجب عنها مساعدات بنحو 272 مليون دولار، في خطوة علنية عقب تحرك إثيوبيا للبدء في ملء سد النهضة قبل التوصل إلى اتفاق مع مصر والسودان، وهو الموقف الذي عدَّه الإثيوبيون انحيازا صارخا. ولكن ذلك لم يدم طويلا مع وصول جو بايدن، الذي بدأ سياسة مغايرة للمسار الذي اتبعه ترامب (6)(7)(8).

واشنطن وأديس أبابا.. حتميات التقارب

في الأشهر التي سبقت الملء الرابع للسد، التي احتفلت فيها إثيوبيا باكتمال 90% من أعمال البناء، عمد المتحدثون باسم الخارجية الأميركية إلى تصدير صورة لدعم واشنطن لأمن مصر المائي، والتأكيد أن الإدارة الأميركية تدعم حلا دبلوماسيا سريعا لقضية سد النهضة، يكفل حماية مصالح كل الأطراف. ولكن جُملة من الوقائع والتحركات كانت تشي بتحرك واشنطن لاستمالة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، واستعادة نقطة الاتصال المفقودة معه منذ نوفمبر/تشرين الثاني عام 2020، بعدما تسببت حربه في إقليم التيغراي في توتر علاقات البلدين.

لطالما اعتبرت واشنطن الطريقة التي اتبعها آبي أحمد في القتال تهديدا لمصالحها في إثيوبيا والقرن الأفريقي. وبينما اعتقد أحمد أن الاعتماد على الجيش الإريتري يكفل له حسم معركته، نظرا للعداء التاريخي الذي يجمع الإقليم بحكام إريتريا، فإن الولايات المتحدة لم تنظر إلى هذه التحركات بعين الرضا. لقد رأى الأميركيون أن تصاعد الحرب سيؤدي إلى تبعات كارثية، لعل أخطرها انتقال المواجهات إلى أقاليم أخرى تشهد توترات مع السلطة المركزية، ما مَثَّل تهديدا للاستقرار في القرن الأفريقي الكبير (9).

رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد (يمين) يستقبل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن (الأناضول)

ومع ازدياد عنف الحرب، وفشل آبي أحمد في إخضاع إقليم التيغراي، بدا أن الولايات المتحدة قد وقعت في أزمة المخاطرة بفقدان نفوذها مع استمرار العقوبات على أديس أبابا، وهو ما اضطر إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لتغيير نهج سياستها العقابية، ومنع استنزاف حليفها من بوابة العقوبات، على اعتبار أن ذلك الاتجاه يضر بالإستراتيجية الأميركية في ظل توجه آبي أحمد إلى الصين التي تعاظم نفوذها في أفريقيا، لا سيَّما إثيوبيا بسبب موقعها الجيوسياسي. ووفقا لتلك المعادلة سعى الأميركيون إلى احتواء أديس أبابا، وتفكيك التحالف الإثيوبي الإريتري، ثم أخيرا منع آبي أحمد عبر السياسة الناعمة من المُضي قُدما في اتجاه يضر المصالح الأميركية (10).

وفي سبيل تحقيق ذلك، غضَّت الولايات المتحدة الطرف عن الفظائع التي ارتكبها الجيش الإثيوبي بحق سكان إقليم التيغراي (11). لذلك تغيرت اللهجة الأميركية تجاه إثيوبيا بين عامي 2020-2022، وبدأ رئيسها في خطب ود آبي أحمد، بداية من اتصالات هاتفية، ثم لقاءات عدة مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن تضمنت وعودا بالمساعدة في رفع العقوبات الاقتصادية، مع عدم دعم أي تحرك للتحقيق القضائي في جرائم الحرب، وما قد يتبعها من عزل النظام الإثيوبي دوليا.

ومع استجابة أديس أبابا للشروط الأميركية، بدأ فصل جديد من التقارب، لتسريع اتفاق السلام مع جبهة التيغراي في أواخر عام 2023، مع تجاوز نقاط الخلاف. تضررت القاهرة من ذلك التقارب مع تخلي واشنطن عن موقفها القديم بشأن السد، لكن لم تكن واشنطن فقط هي التي غيرت من موقفها الداعم للقاهرة.

ماذا تبقى لمصر من حلفاء؟

رغم العلاقات المستقرة التي تجمع القاهرة وبكين، فإن مصالح الصين الاقتصادية والسياسية في إثيوبيا تتجاوز كثيرًا مشروعاتها الاستثمارية في مصر والسودان (غيتي)

سعت القاهرة أواخر عام 2021، مع تكشُّف ملامح الموقف الأميركي بالتزامن مع صعود الرئيس جو بايدن، لتوظيف أدواتها من أجل الحصول على دعم البيت الأبيض لسياستها في الداخل والخارج. فقد سعى بايدن لتقليص المساعدات الأميركية السنوية البالغة 1.3 مليار دولار بسبب مسائل متعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان، كما مضى في سياسات إقليمية تجاهل بها مصالح القاهرة عربيا وأفريقيا مقابل الحصول على ثقة حلفاء جدد. وحين اختبرت مصر ثقتها في الحليف الأميركي، وقررت التصعيد من لهجة خطابها الدبلوماسي ضد إثيوبيا، وتقديم شكوى رسمية إلى مجلس الأمن، فإن جُل رهاناتها باءت بالفشل. حتى إن فرنسا، التي كانت تترأس مجلس الأمن وقتها، أعلنت صراحة عجزها عن حل الخلاف بين البلدان الثلاثة، ما أدى إلى ارتياح إثيوبي إلى أن توقيع اتفاق مُلزم يضمن تحقيق المطالب المصرية لم يعد يلوح في الأفق.

ومن المفارقات أن الولايات المتحدة، التي عوَّلت عليها القاهرة لحل أكبر تهديد مائي يواجهها، تساهم في عملية تشييد السد عبر عدة شركات أميركية أبرزها شركة "سباير كورب"، التي وفَّرت التوربينات والمولدات. وبحسب ما نشرته وكالة "بلومبرغ" تولت تلك الشركات مهمة توريد جميع المعدات الكهربائية بقيمة 250 مليون يورو، كما أن بوابات السد جميعها صناعة أميركية. ومع ذلك، يبدو أن التوجه المصري إلى الصين لا يمكن أن يكون خيارا بديلا.

لقد حاولت مصر بالفعل أن تقترب من الصين بعد أن أدركت طبيعة النفوذ الذي يحظى به الجانب الإثيوبي في أروقة مجلس الأمن، خاصة مع ما تمتلكه الصين من نفوذ ضخم في إثيوبيا بفعل مشاركتها فنيا في بنية السد. ورغم العلاقات المستقرة التي تجمع القاهرة وبكين، فإن مصالح الصين الاقتصادية والسياسية في إثيوبيا تتجاوز كثيرا مشروعاتها الاستثمارية في مصر والسودان، وربما يفسر هذا الرفض الصيني للتدخل في الأزمة الحالية، وإعلانها الحياد السلبي على جميع الجهات (11).

اكتفت الصين بعرض التعاون مع مصر في مشروعات لتحلية المياه. وبالمثل، أعلنت فرنسا عبر سفيرها في الأمم المتحدة أنها لن تقف في مواجهة أديس أبابا، والأمر نفسه ينطبق على روسيا التي تلتزم خطا واحدا، إلى جانب الاتحاد الأوروبي، يتمثل في حث الأطراف على التفاوض دون الانحياز لواحد منها، وهو موقف تستفيد منه أديس أبابا بالدرجة الأولى.

ويبدو أن مصر لم يبقَ لها الكثير من أوراق الضغط، إذ لم تستطع الحصول حتى على دعم صريح من بعض الدول الخليجية التي عوَّلت عليها للقيام بدور الوساطة أو الضغط بما تمتلكه من علاقات أو استثمارات في إثيوبيا. ومع انشغال السودان بالحرب الداخلية، تجد مصر نفسها وحيدة تقريبا في مواجهة أكبر المخاطر المحدقة بأمنها القومي، وبدون أوراق حقيقية للضغط في نهاية المطاف.

______________________________________________

المصادر

  1. عباس شراقي: القوة التدميرية لسد النهضة تعادل 1000 قنبلة نووية.
  2. Joe Biden watches Morocco vs. France game with Moroccan PM & other African leaders, praises keep pouring in for the Atlas Lions.
  3. U.S. Weighs Offering Economic Lifeline to Ethiopia Despite War Atrocities.
  4. واشنطن تحجب مساعدات عسكرية عن مصر بسبب "انتهاكات" حقوق الإنسان.
  5. U.S. to withhold $130 mln of military aid to Egypt over human rights -official.
  6. US stops Trump’s aid freeze to Ethiopia over dam dispute.
  7. US Restoration of Foreign Aid to Ethiopia Signals New Course.
  8. Trump and Africa: How Ethiopia was ‘betrayed’ over Nile dam.
  9. The US risks losing its influence in the Horn of Africa. Here’s how to get it back.
  10. How Ethiopia’s Civil War Exacerbates Strategic Competition Between The U.S. and China.
  11. Ethiopian Military-Run Company Seeks More Foreign Partners.
المصدر : الجزيرة