شعار قسم ميدان

الصراع على النفط.. الحرب الخفية للقوى الدولية في ليبيا

تمتلك ليبيا ثاني أكبر احتياطي نفطي في إفريقيا بـ 48 مليار برميل بحسب منظمة "أوبك"، ما يجعل البلاد في الوقت ذاته محل أطماع عدد من الدول. (رويترز)

في مطلع يوليو/ تموز الماضي، ظهر الجنرال الليبي خليفة حفتر في حشد عسكري أمام قادة قواته التي سيطر من خلالها على الجزء الأكبر من أراضي شرق البلاد، وهي نفسها المسؤولة عن خيبته الكبرى إثر فشله في حسم معركة إسقاط طرابلس عام 2019 بالبطش العسكري، وهو ما لم يكن يتوقعه حفتر، الذي اضطر بعد تحولات مفاجئة في الميدان للقبول بالحل السلمي، ولو ظاهريا. ورغم هذه الهزيمة المؤثرة على خريطة الأحداث في ليبيا، ظل حفتر محط أنظار الجميع، فهو رغم ثقوب بدلته العسكرية، لا يزال اسما سياسيا مهما وصاحب حضور لافت في أغلب الأراضي الليبية(1)(2).

لم يفقد حفتر حلمه في أن يكون يوما الحاكم الوحيد لليبيا ما بعد القذافي، وقد ظهر في الفترة الأخيرة شبه واثق من أن عناصر السلطة قد عادت مرة أخرى إلى متناول يده، أو ربما باتت قاب قوسين أو أدنى من ذلك، فاستهل خطابه الأخير بالهجوم على المبعوث الأميركي الخاص إلى ليبيا، سفير واشنطن ريتشارد نورلاند، ثم أعلن مهلة نهائية لإعادة رسم طريقة لتوزيع الثروة النفطية تنتهي بعد شهرين مع نهاية أغسطس/آب الماضي، ومن ثم بعدها يبدأ تحركا عسكريا يستهدف موانئ وآبار النفط، إلى جانب مقرات حكومة عبد الحميد الدبيبة المعترف بها دوليا، والتي تستحوذ على ما يقدر بـ91% من إيرادات النفط التي بلغت نحو 22 مليار دولار العام الماضي، مقابل قدر ضئيل من مداخيل تلك الثروة بلغت 7% ذهبت للمنطقة الشرقية، و2% للمنطقة الجنوبية، والواقعتين تحت سيطرة حفتر، وتقع فيهما 90% من حقول النفط والغاز في البلاد، وأغلب المنشآت وموانئ تصدير المحروقات(3)(4).

وضعت الفجوة الواسعة لتوزيع إيرادات النفط كل الأطراف في مشكلات مستحكمة كان من الصعب تجاوزها بمحادثات في الداخل أو الخارج، ولم تفلح أي قوة إقليمية أو دولية في الوصول إلى صيغة تمنع المساس بورقة النفط، ولا يعني احتمال انفجار الموقف في الداخل من جديد سوى أن تتضرر أسواق النفط العالمية، لأن النفط الليبي الذي يتدفق بمعدل 1.2 مليون برميل يوميا(5) يذهب الكثير منه إلى العملاء الأوروبيين الذين يبحثون عن بديل للنفط الخام الروسي المفقود، ويتوازى مع ذلك التسابق بين عدة دول للاستحواذ على عقود في سوق الطاقة في الداخل، ما يعني أن الصراع أضحى قريبا من التحول إلى ما يشبه حرب بالوكالة، فلطالما رسم النفط سياسات الجميع تجاه ليبيا، وهو ما ظهر مثلا في تخلي الغرب عن القذافي نفسه في عام 2011 بعدما فقد سيطرته على آبار النفط(6).

النفط وتحركات السياسة

في الرابع من يونيو/حزيران الماضي، استقبلت "جورجيا ميلوني"، رئيسة الوزراء الإيطالية، قائد قوات شرق ليبيا، خليفة حفتر. لم تكن هذه الزيارة إعلانا صريحا من روما بالتحيز لرجل الشرق الليبي، بقدر ما كانت مسعى ومحاولة للحفاظ على مصالح إيطاليا في مستعمرتها القديمة، خاصة أن "ميلوني" نفسها استبقت تلك الدعوة بزيارة لطرابلس في يناير/كانون الثاني الماضي، حين وقعت رئيسة الوزراء الايطالية صفقة بقيمة 8 مليارات دولار مع حكومة الدبيبة لصالح شركة "إيني" الإيطالية لتطوير حقلين للغاز البحري.

وقعت رئيسة الوزراء الايطالية "جورجيا ميلوني" صفقة غاز بقيمة 8 مليارات دولار مع حكومة الدبيبة، لصالح شركة "إيني" الإيطالية، عن طريق تطوير حقلين للغاز البحري، 28 يناير 2023. (Anadolu)

هدفت هذه الصفقة إلى تعزيز إمدادات الطاقة إلى أوروبا من بوابة إيطاليا، في وقت فطمت فيه القارة نفسها عن النفط والغاز الروسيين بسبب الحرب في أوكرانيا، وتورطت في الوقت نفسه في شراء الغاز الأميركي بأسعار مرتفعة. ورأى الأوروبيون أنهم تورطوا في تلك الحرب مع تاجر أكثر جشعا من عدوهم الروسي، حين كانت واشنطن تمضي في رفع الأسعار دون اعتبار، ما دفع فرنسا التي واجهت أزمة وقود مثلا للإعلان عن عدم قدرتها على الاستمرار في دفع ثمن الغاز بقيمة مضاعفة، وأن ذلك ليس معيار الصداقة، في إشارة إلى خذلان أميركي واضح(7)(8)(9).

كانت إيطاليا تدرك حين اتصالها بحفتر أن اتفاقها مع حكومة الدبيبة لم يكن كافيا لتأمين مصالحها، على رأسها أن تلك الحكومة لا تمتلك -رسميا- صلاحية إبرام الاتفاقات والمعاهدات منفردة دون تصديق برلمان طبرق في الشرق، طبقا للاتفاق السياسي الليبي الذي انبثقت عنه تلك الحكومة. لم يكن بإمكان روما أيضا ضمان تمرير مصالحها دون ترتيب مع حفتر الذي يمكن أن يعرقل أي تحركات تتم من دون التوافق معه، خاصة أنه يضع كلتا يديه على أغلب حقول النفط والغاز في البلاد، وعلى أغلب المنشآت وموانئ تصدير المحروقات، إلى جانب أن "ميلوني" نفسها تدرك حجم احتياجها لحفتر في ملفات أخرى، على رأسها ملف الهجرة غير النظامية من ليبيا إلى إيطاليا، مع سعيها لفرض حصار بحري على سواحل ليبيا لوقف قوارب المهاجرين، وهو وعد قطعته رئيسة الوزراء في حملتها السياسية خلال صعودها إلى السلطة(10).

وفي موقع غير بعيد عن ليبيا، تحركت روما أيضا إلى الجزائر للسبب ذاته، والتي حلّت العام الماضي بصفتها أكبر مورد للغاز في إيطاليا بنسبة 40%، لتسد بذلك الفجوة التي كانت تعوضها سابقا من روسيا. أدركت الحكومة الإيطالية المتعطشة للغاز أن الموقف مع إطالة الحرب قد دخل بالفعل في مرحلة خطيرة، وأن تأخير الوصول إلى اتفاقات جديدة سيكون له عواقب قد لا تستطيع منعها، لذا تحركت روما لمضاعفة الغاز الأذربيجاني إليها، مع توقيع صفقة مع الجزائر بقيمة 4 مليارات دولار لزيادة إمدادات الغاز، ولم تكن إيطاليا وحدها في السباق، فرغم أن فرنسا أقل تأثرا بحظر روسيا الغاز عن أوروبا، لأن النرويج تلبي معظم احتياجاتها، فإنها هرعت هي الأخرى إلى أفريقيا، وقدمت تنازلات للجزائر بخصوص الحصول على تأشيرة الدخول مقابل عقد لتزويدها بالغاز، قبل أن توقع اتفاقية شراكة مع الإمارات في مجال الطاقة (11)(12).

جاء ذلك كله في سياق تحركات أوروبية أوسع للحج إلى الدول الغنية بالنفط والغاز، مثل الولايات المتحدة والنرويج وقطر والإمارات وليبيا والجزائر، لتعويض حصة روسيا البالغة 40% من الغاز و30% من النفط المتدفِّق إلى القارة العجوز، لكنّ حسابات أخرى في الخفاء ميّزت التنافس بين إيطاليا وفرنسا، خاصة على موارد الغاز في شمال أفريقيا، فالطموح الإيطالي بالسعي لجعل روما مركزا للغاز في شمال أفريقيا يتصادم مع الخطط الفرنسية، وما يُزعج باريس أنها ترى أن تحركات "ميلوني" لا تنحصر في محاولة تأمين واردات الطاقة فقط، من دون أن يتخلل ذلك ترتيبات مسبقة أعدت بعناية وفق خطة طموحة لليمين الحاكم تسعى لاستعادة الدور الإستراتيجي لإيطاليا في الشمال الأفريقي بعد سنوات من التراجع، والبداية الحقيقية للصدام كانت في ليبيا، ساحة الثروة التي يسيل عليها لُعاب الإيطاليين والفرنسيين والأميركيين وحتى الروس على السواء(13).

النفط وقود الفوضى

في لحظة فارقة امتلك خليفة حفتر عصا موسى بسيطرته عام 2013 على منطقة الهلال النفطي الليبي التي تحوز في باطنها ما يقارب 80% من مخزون ليبيا النفطي، واستطاع وحده أن يعرقل نصف صادرات البلاد. (رويترز)

تبدأ القصة غير المروية من سقوط نظام القذافي خلال الثورة الليبية التي اندلعت في فبراير/شباط عام 2011، حيث كانت معارك السيطرة على النفط هي البُعد الغائب في تلك الاحتجاجات التي اهتزت لها عواصم كثيرة في أوروبا خاصة الدول الصناعية التي تعتمد على جزء من حصة ليبيا النفطية المقدرة آنذاك بحوالي 1.65 مليون برميل يوميا. لذا، وعقب اجتماع موسع لوزراء الطاقة الأوروبيين، تقرر أنه لا مفر من التدخل العسكري لحلف الناتو لإسقاط النظام، وكان أول شيء فعلته تلك القوات فور وصولها هي توسيع عملياتها لتشمل حقول النفط والموانئ النفطية، باعتبارها منشآت إستراتيجية ذات أهمية خاصة(14)(15).

ومع انتهاء اليوم الأخير لسيرة القذافي في بلاده عقب مقتله في أكتوبر/تشرين الثاني عام 2011، كان الغرب مطمئنا نسبيا إلى أن مصالحه في الداخل الليبي باتت تحت السيطرة، لكنّ ليبيا في ذلك الوقت كانت تشهد فصلا جديدا من الصراع على السلطة بين العشائر التي حازت في يدها الغنيمة المقتسمة من مخازن أسلحة القذافي، غير أن رجلا واحدا في الشرق عرف طريقه جيدا نحو الزعامة والسلطة، رغم أنه في تلك الأثناء كان جنرالا متقاعدا فاقدا للنفوذ العسكري والشعبية السياسية إلى جانب تاريخ مثير للجدل من الهزيمة والفرار في عهد النظام السابق، وفي لحظة فارقة امتلك خليفة حفتر عصا موسى بسيطرته عام 2013 على منطقة الهلال النفطي الليبي التي تحوز في باطنها ما يقارب 80% من مخزون ليبيا النفطي، واستطاع وحده أن يعرقل نصف صادرات البلاد، فيما أبقى العالم على قيد الحياة والأمل بالنصف الآخر(16)(17).

استدعت انتصارات حفتر الكبرى في تلك المساحة الضيقة الثرية من ليبيا مسارا سياسيا شديد التعقيد، ثم ضاعف الجنرال نفوذه الجديد عبر مظلة حلفاء إقليميين ودوليين رأوا في مشروعه السياسي تأمينا لمصالحهم، سواء من القوى الكبرى المهيمنة على النظام الدولي، أو حتى القوى الإقليمية ذات التأثير العميق في الشرق الأوسط. لكن، ورغم الضوء الأخضر الذي حصل عليه حفتر، لم تسمح له تلك القوى ببيع النفط الذي يسيطر عليه بشكل مستقل، بل أجبرته على الرضوخ وتسليم إدارة تلك المنشآت الإستراتيجية إلى المؤسسة الوطنية للنفط التابعة للحكومة المعترف بها دوليا في طرابلس، كما أجبرته على التراجع، ومُنع من تأسيس كيان موازي لتلك المؤسسة في الشرق حفاظا على مصالح الدول الكبرى في حصة النفط الليبي(18).

ورغم قوة حفتر على الأرض، فإن وضع موارد ليبيا النفطية بأكملها خارج تصرفه، جعل سلطته غير كاملة، ومستقبله السياسي بالتبعية غير مضمون ما لم تكن طرابلس بما فيها تحت قبضته، فأطلق عام 2014 معركة الكرامة بدعوى "محاربة الإرهاب"، وهو يهدف في الأساس لفرض سلطته عسكريا في أغلب الأراضي الليبية في الشرق والجنوب والوسط، بهدف الاستعداد لمعركة أخرى، خاضها لاحقا في عام 2019، بالزحف نحو أسوار العاصمة طرابلس، بهدف وضع موارد ليبيا النفطية بأكملها، وإيراداتها الضخمة تحت تصرفه، من خلال ضم البنك المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط، وبذلك يكتمل لحفتر الهدف الذي خاض في سبيله سنوات من المعارك، لكنّ تدخل تركيا لنجدة حكومة السراج آنذاك أفسد عليه حساباته السياسية والعسكرية بالكامل، وأعاده إلى نقطة الصفر خاوي الوفاض(19)(20).

بفقدان الأمل في انتزاع طرابلس، لم يبق الجنرال الليبي سوى سيطرته العسكرية على الأرض، ما دفعه للتمسك بفرض حصار طويل على المنشآت والموانئ النفطية، لإجبار الولايات المتحدة على الضغط على خصومه في الغرب كي تكون عائدات النفط والغاز موزعة بالتساوي على أقاليم ليبيا الثلاثة (برقة وطرابلس وفزان)، وهو ما يضمن له نهرا من الأموال الجارية لتمويل جيشه وإكمال مشروعه السياسي المتعثر(21).

فوضى الداخل وسباق الخارج

مع استمرار رفض حكومة طرابلس توزيع إيرادات النفط بالطريقة التي طلبها حفتر، لجأ الجنرال إلى روسيا في الفترة ما بين عامي 2017 إلى 2019 لطباعة أموال إضافية قيمتها 11 مليار دولار من الدينار الليبي ضُخت في البنك الموازي في بنغازي، وذلك بعد أن فشلت تحركاته في حصار الموانئ النفطية عام 2020 في إجبار الغرب على الانصياع لشروطه المتمثلة في فتح حساب خاص بإحدى الدول تودع به عوائد النفط مع آلية جديدة لتوزيع العوائد. بهذه الطريقة نجح الجنرال في تأميم الأموال اللازمة لتمويل حربه وإكمال مشروعه السياسي الذي عجز عنه بقوة السلاح(22).

ساعد في تأكيد سردية حفتر أن برلمان طبرق نفسه سبق أن هدد بفرض حصار على صادرات النفط التي تقع في أراضيه، بسبب ما قال إنه سوء استخدام من طرف حكومة طرابلس لعوائد الطاقة، متهما إياها بإهدار مليارات الدولارات دون تقديم خدمات حقيقية. وفي يونيو/حزيران الماضي، هددت الحكومة الموازية المكلفة من مجلس النواب الليبي في طبرق برئاسة "أسامة حماد" بوقف تصدير النفط عبر اللجوء إلى القضاء، استنادا إلى الإعلان الدستوري في مبدأ "التوزيع العادل للثروة"، وهو ما دفع حفتر لاحقا للخروج في خطاب تهديده الأخير. واستند الرجل إلى البيانات الرسمية لحكومة طرابلس، والمصرف المركزي، والتي تُظهر أن المنطقة الغربية استحوذت على 91% من إيرادات النفط التي بلغت نحو 22 مليار دولار العام الماضي من الميزانية دون استفادة حقيقية، بحسب زعمه.

يأتي انفجار الوضع في الداخل في وقت تسعى فيه ليبيا لفتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية في مجال الطاقة، وكانت البداية من تركيا التي وقعت أواخر العام الماضي اتفاقية للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الليبية المُحددة بموجب اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين المُوقعة في وقت سابق، وهي اتفاقية أثارت حفيظة عدة دول أوروبية، حيث راحت تلك الدول تندفع اندفاعا لاقتطاع حصة من كعكة النفط الليبي، مع دعوة المؤسسة الوطنية للنفط الشركات الأجنبية إلى العودة واستئناف أعمالها في مجالي التنقيب والإنتاج، في ظل تحسن تدريجي لم يكن أكثر دلالة عليه من رفع حجم الإنتاج إلى مليون و200 ألف برميل يوميا، مع خطط للوصول إلى مليوني برميل.

ومع الاستقرار السياسي النسبي الذي تشهده البلاد رغم حالة الاستقطاب الشديدة بفعل الوصول إلى حوائط سد تلو الأخرى تمنع الاتفاق على موعد نهائي لإجراء الانتخابات، تتوقع المؤسسات الدولية مثل مؤسسة "فيتش سولوشنز" أن الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في ليبيا سيشهد نموا بنسبة 19.7% خلال العام الحالي 2023، بعد انكماش بنسبة 12.9% العام الماضي، لكن آفاق النمو هذه تبدو مضطربة بسبب فوضى الداخل وسباق الخارج وإمكانية تأثر صادرات النفط بفعل هذه الاضطرابات(23).

لعبة الحبال

تمتلك ليبيا ثاني أكبر احتياطي في أفريقيا بـ48 مليار برميل، بحسب منظمة "أوبك"، تتوزع على أقل من 7 ملايين ليبي، ما يجعل نصيب الفرد فيها من بين أعلى المعدلات في القارة بحسب صندوق النقد الدولي. (أسوشيتد برس)

تمتلك ليبيا ثاني أكبر احتياطي في أفريقيا بـ48 مليار برميل، بحسب منظمة "أوبك"، تتوزع على أقل من 7 ملايين ليبي، ما يجعل نصيب الفرد فيها من بين أعلى المعدلات في القارة بحسب صندوق النقد الدولي، وما يجعل البلاد في الوقت ذاته مطعما لعدد من الدول على رأسها إيطاليا وفرنسا وغيرهما، وتتصدر روما قوائم الراغبين في الكعكة الليبية اليوم، ففي حين كانت باريس ثاني أكبر عميل في ليبيا في عام 2014، تأخرت اليوم لتصبح في المرتبة الـ16 في قائمة شركاء ليبيا بحسب الغرفة التجارية الليبية، في حين تقدمت روما لتصبح الشريك التجاري الأول لطرابلس خلال العام الماضي(24)(25)(26).

تشي نظرة أقرب على الأرض بصورة أوضح للصراع ومعطياته، وتبدأ من استحواذ شركة "إيني" الإيطالية على 80% من حجم الاستثمارات النفطية في ليبيا، في حين تتقاسم النسبة المتبقية عدة شركات أميركية وفرنسية وجزائرية وروسية وهندية، وأكبرها شركة "توتال" الفرنسية التي تستحوذ على 84 ألف برميل يوميا من أصل مليون و200 ألف برميل هي حجم الإنتاج اليومي، ما يعني أن إيطاليا هي المتأثر الأكبر من وقوع إغلاق مدمر في حال لم يتوصل الفرقاء إلى حل يقضي بتقسيم عائدات النفط، كما أن وقوع اضطرابات يؤثر مباشرة على حكومة ميلوني التي تحتاج إلى الاستقرار في ليبيا لحماية مشاريعها النفطية من جهة، وضبط حركة المهاجرين غير النظاميين الذين بلغوا نحو 87 ألف مهاجر وصلوا إيطاليا من الشواطئ الليبية، بحسب مفوضية شؤون اللاجئين لإحصائية عام 2023(27)(28)(29).

يرسم وقوع أغلب آبار النفط في نطاق سيطرة خليفة حفتر صورة للتحركات الأوروبية، لكونه أطلق تحذيره في وقت تخلى فيه الغرب عن المشتقات النفطية الروسية بسبب الحرب في أوكرانيا، وهي أحد أسباب عدم فرض عقوبات عليه رغم اعتماده علانية على مرتزقة فاغنر، لذا تكمن قيمة حفتر بالنسبة لأوروبا في حقيقة أن الاشتباك معه يعرض للخطر أمن الطاقة في إيطاليا وسائر أوروبا وينذر بزيادة في تدفقات المهاجرين غير النظاميين، كما أن دخول روسيا طرفا رئيسيا في الساحة الليبية وسعيها للوصول إلى المياه الدافئة للبحر المتوسط من خلال البحث عن موطئ قدم في ميناء بنغازي، على غرار ميناء طرطوس في سوريا، استدعى من الغرب سياسة براجماتية بالحفاظ على إبقاء حفتر طرفا أساسيا في الصراع، على اعتبار أن التوافق معه ضرورة في أي تسوية سياسية قادمة(30).

وفق هذا المنظور، اعتمدت البراغماتية الأوروبية في الصراع الليبي على اللعب على حبال الجميع، ورغم فتور العلاقات بين الجنرال الليبي والولايات المتحدة وفرنسا، ورغم اعتراف الأمم المتحدة بشرعية حكومة طرابلس، فإن المصالح الغربية تشكل عقبة في طريق كسر شوكة حفتر في ليبيا الذي لا يزال يمتلك أوراق تأثير في قرار الحرب والسياسة في ليبيا، في مقدمتها الورقة الأهم في اللعبة الليبية وهي الموانئ والآبار النفطية، وهو ما يهدد بعودة الاقتتال إلى بلد لا يزال يتلمس طريقه مضطربا بعد 12 عاما على رحيل القذافي.

__________________________________________

المصادر:

  • (1) ليبيا: مجلس الأمن يدعم آلية وقف إطلاق النار ويدعو لانسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة
  • (2) رويترز: حقائق-ما الذي يتضمنه اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا؟
  • (3) Préoccupations concernant la production de pétrole en Libye au milieu des menaces militaires
  • (4) Libya’s oil industry is in disarray right when the world needs it more than ever
  • (5) وكالة الأنباء الليبية: مصرف ليبيا المركزي يعلن ارتفاع الايراد العام إلى 134.4 مليار دينار
  • (6) Security Council Approves ‘No-Fly Zone’ over Libya, Authorizing ‘All Necessary Measures’ to Protect Civilians, by Vote of 10 in Favour with 5 Abstentions
  • (7) L’Italien Eni signe un accord de gaz libyen de 8 milliards de dollars avec la visite du Premier ministre Meloni dans la capitale de Tripoli
  • (8) Pourquoi le gaz américain bon marché coûte une fortune en Europe
  • (9) الأمم المتحدة- الاتفاق السياسي الليبي
  • (10) Le PDG d’Eni dit que l’Italie pourrait augmenter les importations de gaz en Afrique
  • (11) Italy to sign gas turbines contract with Azerbaijan
  • Italy signs clutch of deals with Algeria in bid to boost gas supply
  • (12) France’s Macron addresses visa issue during Algeria trip
  • (13) Franco-Italian tensions peak over immigration, energy competition – competition
  •  (14)Libya not producing enough oil for own needs, NOC says
  •  (15) Transport, Telecommunications and Energy
  • (16) The arms embargo explained
  •  (17) After the Showdown in Libya’s Oil Crescent
  • (18) Libya’s National Oil Corp warns of new attempt at independent oil sales
  • (19) Haftar’s Rebranded Coups
  • (20) Turkey Wades into Libya’s Troubled Waters
  • (21) Libya’s Haftar committed to ending oil blockade, U.S. says
  •  (22) حصري- تسارع وتيرة شحنات أوراق النقد من روسيا إلى شرق ليبيا هذا العام
  • (23) Oil Export Rebound To Drive Libya’s Strong Growth In 2023
  • (24) Libya holds second largest oil reserves in Africa according to US report
  • (25) France and Libya
  • (26) Italy is Libya’s first trading partner in the first eleven months of 2022
  • (27) Eni launches a major gas development project in Libya
  • (28) Libya: TotalEnergies Increases its Interest in the Waha Concessions
  • (29) The Operational Data Portal
  • (30) Russia’s Growing Interests in Libya
المصدر : الجزيرة