شعار قسم ميدان

الروحانية الرقمية.. هل زادت التقنية من روحانيتنا في رمضان؟

ها هو الضيف الكريم قد أقبل من جديد، ومع كل عودة لهذا الضيف الكريم، تجد لدى الكثيرين شكوى واحدة تقريبا هي أن رمضان "لم يعد مثلما خلا"، إذا سألت مواليد التسعينيات مثلا فيسجيبونك بحنينهم إلى رمضان في الصغر، ذلك الذي توارثوا طقوسه عن آبائهم، ونحن لم نأتِ اليوم لنخبركم بالكلام التقليدي حول كون رمضان لم يتغير أو أن أرواحنا فقط هي التي أصبحت أكثر ثقلا، فالحقيقة هي أن رمضان تغيّر كثيرا بالفعل خلال السنوات الماضية.

في العصر الرقمي اليوم، يتجه العديد من المسلمين إلى التكنولوجيا لتعزيز خبراتهم الروحية خلال الشهر الكريم. من تطبيقات الأجهزة المحمولة التي تقدم مواعيد الصلوات اليومية والتلاوات القرآنية، إلى تطبيقات الصحة مثل تلك التي تتابع نسبة الماء في أجسامنا وتذكرنا بشربه، وصولا إلى تطبيقات العمرة الافتراضية، أصبحت الأدوات الرقمية تشغل حيزا من الحياة الرمضانية للعديد من المسلمين.

تقول "نورة مصلح" المترجمة المستقلة القاطنة بمدينة الطائف السعودية لـ"ميدان": "أستخدم تطبيقا لحساب السعرات الغذائية، لأن مع تخبط جدول النوم في رمضان من الممكن أن يزيد الوزن، كما أنني أستخدم سناب شات وتيكتوك للحصول على الوصفات ومشاركة اللحظات الرمضانية". ترى نورة أن أثر التقنية على تجربتها الرمضانية إيجابي في مجمله، خصوصا فيما يتعلق بتنظيم الأكل، وهو أحد المظاهر التي تفرض نفسها على الشهر الفضيل.

غذاء الروح

جاء في التراث أن رجلا توجه إلى فقيه ليخبره أنّه أفطر يوما في رمضان، فقال له الفقيه: "اقضِ يوما مكانه". رد الرجل: "قضيت"، ثم تلا ذلك أنّه أتى أهله وقد صنعوا "مأمونية" (وهي نوع من الحلوى الفاخرة)، فسبقته يده إليها، فأكل منها، فأجابه الفقيه: "اقضِ يوما مكانه". قال الرجل: "قضيت، وأتيت أهلي وقد صنعوا هريسة، فسبقتني يدي إليها". فقال الفقيه: "أرى ألا تصوم بعد ذلك إلا ويدك مغلولة إلى عنقك".

يعجّ التراث العربي بالعديد من القصص المشابهة عن الطعام في شهر رمضان، ومن المفارقات رغم أن الصوم يعني الامتناع عن الطعام أثناء النهار، فإن الطعام يظل عنصرا أساسيا طوال الشهر الكريم. يبدأ تجار التجزئة في تخزين المنتجات قبل شهر على الأقل لتلبية الطلب الزائد، وتمدد محلات البقالة والسلع ساعات عملها حتى منتصف الليل، وتقدم عروضا خاصة بشهر رمضان المبارك، وليس من المستغرب أن تكون إعلانات الأطعمة والمشروبات منتشرة في كل مكان خلال الشهر الكريم، وأن يغرق هاتفك الذكي بإعلانات من تطبيقات طلب الطعام السريع مع العروض التي تغريك تارة بـ"اللمة" والأصدقاء، وتارة بلذة الطعام.

هذه التطبيقات تغير ثقافة الطعام أكثر مما نظن. في جاكرتا على سبيل المثال، تُظهِر بيانات تطبيق "غو فوود" (GO-FOOD) المختص بتوصيل الطعام زيادة في الطلب بنسبة تصل إلى 450% خلال شهر رمضان، تحديدا في أوقات السحور، حيث يقوم الناس بطلب طعامهم قبيل الفجر (1). ورغم أن ساعات الصيام الطويلة يُفترض أن تقلل استهلاك الطعام، فإن البيانات تُظهِر أن استهلاك الطعام خلال الفترة بين الإفطار والسحور يتجاوز معدلات الاستهلاك المعتادة. خلال شهر رمضان، لا تزيد فواتير الطعام بنسبة 50-100% فحسب، بل تشير التقديرات إلى أن 15% من نفقات الطعام السنوية تُنفَق خلال شهر رمضان. (2)

(شترستوك)

تجعل تطبيقات طلب الطعام الوصول إلى الأطعمة الجاهزة والمتنوعة بمختلف أشكالها أيسر من أي وقت مضى، لكن ذلك لا يغري الكثيرين على أي حال. سأل "ميدان" إسلام فوزي، مصمم خبرة المستخدم (UX Design) المقيم في القاهرة عن استخدامه لتطبيقات طلب الطعام في رمضان، فأجاب: "لا أستخدم هذه التطبيقات أبدا بصراحة، لا في رمضان ولا قبله ولا بعده، مع أني أعمل في تصميم هذه التطبيقات، لكنني أحب الأكل وأُفضِّل أن أشتري مكوناته بنفسي، وفي الأحوال العادية أنا متمسك بالطبخ في البيت، وشعور تحضير الأكل نفسه تجربة جميلة وتفرغ الذهن وتعلم التفكير الإستراتيجي أيضا، فهي مكسب من جميع الأحوال، مع توفير الأموال بالتأكيد".

اتفقت نورة مصلح مع فوزي فيما يتعلق بتطبيقات طلب الطعام، مؤكدة أن من الصعب عليها تقبُّل فكرة طلب الأكل من الخارج لصغر حجم عائلتها، والأهم بسبب الصحة، حيث إنها تُفضِّل بعد ساعات الصوم الطويلة أن يدخل جسدها أكل نظيف، وما تقصده بالنظيف هو الأكل الخالي من المقليات وكميات السكر المهولة في الطعام السريع المتوفر عبر تطبيقات طلب وتوصيل الطعام.

في عام 2019، كشفت دراسة استقصائية أجرتها "ستاتيستا"، وهي منصة على الإنترنت متخصصة في بيانات السوق والمستهلكين، أن 80% من المسلمين يُفضِّلون الإفطار في المنزل، الأمر الذي كان له تأثير على مشتريات الطعام السريع. خلال عام 2020 أيضا، كان هناك اتجاه ملحوظ نحو الوجبات المطبوخة في المنزل بدلا من الوجبات الجاهزة أو تناول الطعام في المطاعم، وفقا لتقرير صادر عن المنصة نفسها. لكن الإحصاءات نفسها تشير إلى أن 96% من المشاركين من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اشتروا منتجات البقالة والأطعمة والمشروبات خلال شهر رمضان، بزيادة قدرها 56% مقارنة ببقية العام، رغم جائحة "كوفيد-19". (3)

ربما لم تُصِب التكنولوجيا الحديثة الأكل المنزلي في مقتل في البلدان العربية مثلما حدث في إندونيسيا، لكن هناك أركان أخرى غير ظاهرية وتصيب جوهر التدين والروحانية في رمضان، وكانت تجلياتها بادية تماما كبدر ليلة النصف من رمضان حين يضيء ظلمة السماء.

الشبكة الروحية

يرى البروفيسور دونالد إنون، مؤلف كتاب "الروحانية الرقمية: صعودها وما تعنيه للهوية الروحية والإيمان والممارسة"، أن تأثير تقنيات الشعائر والممارسات الروحية شديد الوطأة وربما يصبح مروعا. (مواقع التواصل)

في عالمنا المعاصر، غزت "الرقمنة" كل شيء حتى وصلت إلى ممارساتنا الدينية والروحية. لوحظ هذا النوع من "الروحانية الرقمية" منذ أوائل التسعينيات بوصفه نتيجة غير متوقعة لاستخدام الأدوات الرقمية والوجود في البيئات الافتراضية، لكن الأمر زاد في العقد الماضي مع استخدامنا بكثافة لتطبيقات الهاتف المحمول والأجهزة اللوحية في الشعائر والممارسات الروحية، فترى المسلمين يستخدمون تطبيقات مثل المسحراتي للقيام بدور المسحراتي الفعلي، أو الساعات الذكية لتذكيرهم بمواعيد الصلاة، وكذلك تطبيقات المصحف الإلكتروني وأذكار المسلم، بل الأدهى هي تجربة العمرة (والحجّ) الافتراضية، التي أقبل الناس عليها بشدة خلال الجائحة. (4)

تنامى الاعتماد على "الروحانية الرقمية" بشكل ملحوظ خلال جائحة كورونا، حيث أُغلقت أماكن العبادة في العديد من الدول للحد من انتشار الفيروس. يرى البروفيسور دونالد إنون، مؤلف كتاب "الروحانية الرقمية: صعودها وما تعنيه للهوية الروحية والإيمان والممارسة"، أن تأثير هذه التقنيات شديد الوطأة وربما يصبح مروعا، لأن تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتقنيات الواقع الافتراضي التي صنعت تجارب مثل العمرة الافتراضية بإمكانها إلى تذهب إلى أبعد من ذلك عبر محاولة تصوير الحياة الآخرة مثلا. لكن يظل السؤال الأهم: هل زادت هذه التقنيات الحديثة روحانيتنا حقا؟ أم أنها مجرد وهم ألِفته عقولنا وشبَّهته بالتجربة الروحية؟

تشترك التقنيات الحديثة مثل الواقع الافتراضي مع جائحة كورونا في نقطة لا خلاف عليها وهي تأثير العزلة، والعزلة ترتبط بالروحانية، فترى الناس يتهجدون في رمضان أو يعتكفون في مساجدهم، لكن لأن المعنى يبرز بمضاده فلقد اتضحت أهمية الأشياء المادية والحواس في خلق التجربة الروحية نتيجة لتجربة الجائحة.

أشار المشاركون إلى هذا المعنى بالتحديد في إحدى الدراسات التي أُجريت على مسلمي بريطانيا، حيث أوضح المشاركون أن افتقادهم لـ"مشاعر رمضان" كان أكثر وضوحا في عام 2020، لأن الإغلاق ساهم في خفض أو منع بعض المظاهر التي تخلق شعور رمضان في العادة مثل الصلاة في المساجد أو الوجود وسط المجتمع المسلم، الأمر الذي أوضحته آية، إحدى المشاركات التي أُجبرت على قضاء رمضان في سكن الطلاب، بعيدا عن المسجد والمجتمع المسلم بأسره وعائلتها المباشرة. شعر بعض مسلمي بريطانيا بوجود شيء غير طبيعي خلال هذا الشهر، وقد أكدت حالة الإغلاق والعزلة التي سببها الوباء أهمية التعبيرات المادية والحسية في التجربة الروحية، وأهمية "الطبيعة الحسية" للممارسة الدينية، لا سيما خلال شهر رمضان. (5)

يناقش ويليام إنديك في كتابه فكرة أن الناس اليوم يبحثون عن المزيد من الخبرات الشخصية والمباشرة عن الدين، وكيف أتاحت التكنولوجيا ذلك من خلال الممارسات الرقمية. (مواقع التواصل)

على الجانب الآخر، يجادل ويليام إنديك، أستاذ علم النفس المشارك بجامعة كورنيل في فصل "فلسفة الإدراك الروحي والشبكات الروحية" من كتاب "The Digital God" حيال نقطة العزلة، ويرى أن ظهور التكنولوجيا الرقمية قد أتاح للناس فرصا جديدة للتعبير الروحي والمشاركة، مما أدى إلى إنشاء أشكال جديدة من الشبكات والمجتمعات الروحية.

يدرس إنديك كيف تطور مفهوم الروحانية بمرور الوقت، وكيف أثَّر العصر الرقمي على هذا التطور، ويناقش فكرة أن الناس اليوم يبحثون عن المزيد من الخبرات الشخصية والمباشرة عن الدين، وكيف أتاحت التكنولوجيا ذلك من خلال الممارسات الرقمية مثل التأمل عبر الإنترنت والتجارب الدينية للواقع الافتراضي، كما يسرد الكاتب الطرق التي خلقت بها وسائل التواصل الاجتماعي فرصا جديدة للتواصل الروحي وبناء المجتمع، ويشير إلى أن القدرة على التواصل مع الأفراد ذوي التفكير المماثل في جميع أنحاء العالم سمحت للناس بتكوين "مجتمعات روحية عالمية".

هذا عينه هو ما تشير إليه "تقى الرفاعي"، معلمة اللغة العربية لغير الناطقين بها التي تدرس حاليا في كلية الألسن في جامعة عين شمس عندما سألها "ميدان"، حيث قالت: "صراحة، ألاحظ أن الأمر له جوانب إيجابية وسلبية. في البداية، كان رمضان مقتصرا على مشاركة شعوري به ضمن دائرتي الخاصة فقط، وهو ما يمكن أن يكون شعورا ناقصا. حاليا، أشعر بأن هنالك أجواء مختلفة أكثر ومميزة جدا تظهر من خلال مشاركة الناس".

ذروة التجربة الروحية

وفقا للبروفيسور إنديك، فإن التجربة الروحية لا تقتصر على السياق الديني، ولكن يمكن أن تحدث أيضا في الحياة اليومية، ويمكن إثارتها بواسطة مجموعة متنوعة من المحفزات، مثل الموسيقى والفن والطبيعة وحتى ألعاب الفيديو. يناقش إنديك مفهوم "تجارب الذروة" كما وصفه عالم النفس أبراهام ماسلو ولكن من منظور رقمي، ويستكشف إمكانات التقنيات الرقمية، مثل الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي، في تسهيل تجارب الذروة التي تحاكي أو تعزز التجارب الروحية. يناقش إنديك أيضا مفهوم "الدين التقني" (Techno-religion)، الذي يشير إلى اندماج التكنولوجيا والروحانية، وإمكانية التقنيات الرقمية لخلق أشكال جديدة من التجربة الدينية، مثيرا أسئلة حول طبيعة التجربة الروحية وإمكانية التقنيات الرقمية لإعادة تشكيل فهمنا للروحانية. (6)

هناك مخاوف بشأن تأثير التكنولوجيا على إحساسنا بالذات وعلاقتنا بالله.    (شترستوك)

في السنوات الأخيرة، ومع ظهور مفهوم "ما بعد الإنسانية" (Transhumanism)، وهي فكرة تسعى إلى استخدام التكنولوجيا لتعزيز القدرات الجسدية والمعرفية البشرية، نشأت أسئلة حول كيفية تأثير التكنولوجيا على حياتنا الروحية. يعتقد أنصار ما بعد الإنسانية أنه يمكننا استخدام التكنولوجيا لتجاوز قيودنا البيولوجية وتحقيق حالة "ما بعد الوجود البشري"، يمكن أن يشمل هذا كل شيء من واجهات الدماغ الحاسوبية التي تعزز قدراتنا العقلية، إلى الهندسة الوراثية التي تقضي على الأمراض وتطيل أعمارنا.

في الوقت نفسه، يلجأ الكثير من الناس إلى التكنولوجيا بوصفها وسيلة لاستكشاف روحانياتهم. ولكن ماذا يحدث عندما يتقاطع هذان الاتجاهان؟ كيف ستؤثر التكنولوجيا على حياتنا الروحية ونحن نتقدم نحو مستقبل ما بعد الإنسان؟ إحدى النتائج المحتملة هي أن التكنولوجيا ستصبح مصدرا جديدا للتجربة الروحية، ومثلما لجأ الناس تقليديا إلى الدين لإيجاد معنى وهدف في الحياة كما تشير بعض النظريات، فقد يلجأون إلى التكنولوجيا بوصفها وسيلة لتحقيق السمو والارتباط بشيء أكبر من أنفسهم. يعتقد بعض علماء ما بعد الإنسانية أننا قد نكون قادرين على خلق تجارب روحية جديدة تماما من خلال التكنولوجيا، مثل تحميل وعينا إلى عالم رقمي حيث يمكننا أن نعيش تجربة مختلفة تماما.

بالطبع هذا يثير مجموعة من الأسئلة الأخلاقية والفلسفية، لكن لنبدأ بأكثرها حرارة: إذا استخدمنا التكنولوجيا لتعزيز خبراتنا الروحية، فهل نكون منخرطين في ممارسة روحية حقيقية؟ هل تستطيع التكنولوجيا حقا أن تحل محل الروابط الإنسانية العميقة التي غالبا ما تكون في قلب الممارسة والشعائر الدينية؟ هناك أيضا مخاوف بشأن تأثير التكنولوجيا على إحساسنا بالذات وعلاقتنا بالله. عندما نصبح أكثر اندماجا مع التكنولوجيا، هل نفقد الاتصال بجوانب أنفسنا الضرورية لحياتنا الروحية؟ وماذا يحدث عندما تفشل التكنولوجيا في هذا المضمار كما تفعل دائما؟

رغم هذه المخاوف، ليس هناك مَن ينكر أن التكنولوجيا كان لها بالفعل تأثير عميق على حياتنا الروحية. من منصات الوسائط الاجتماعية التي تسمح لنا بالتواصل مع الأفراد المتشابهين في التفكير، إلى تطبيقات التأمل التي ترشدنا خلال تمارين اليقظة، فتحت التكنولوجيا طرقا جديدة للاستكشاف الروحي. وبينما نواصل دفع حدود ما يمكن أن تفعله التكنولوجيا، فمن المحتمل أن تصبح حياتنا الروحية متشابكة بشكل متزايد مع العالم الرقمي، وهو ما يحتم علينا النظر في تأثير التكنولوجيا على معتقداتنا وقيمنا الأساسية، عندها فقط يمكننا احتضان إمكانات الروحانية الرقمية بالكامل مع حماية الأشياء التي تجعلنا بشرا في المقام الأول.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر:

المصدر : الجزيرة