شعار قسم ميدان

تتابعهم حتى في منازلهم.. كيف أصبحت فلسطين مختبرا لتقنيات المراقبة الإسرائيلية؟

المعلومات قوة لا يُستهان بها، هذا ما أثبتته الكثير من الحوادث في السنوات الأخيرة. ولطالما استخدمت السلطات قوة الرقابة والمعلومات لإخضاع مواطنيها، وإذا كنا نتحدث عن سلطة الاحتلال التي تستمد شرعيتها من القمع وحده، فإن الأمر يصبح بالتأكيد أكثر أهمية وخطورة. لذلك، كان وما زال جمع البيانات عن السكان الفلسطينيين بالكامل جزءا لا يتجزأ من سياسات الاحتلال الإسرائيلي وقبضته الصارمة، ومع تطور التكنولوجيا والتقنيات المستحدثة تصبح تلك القبضة أكثر صرامة وأقوى سيطرة.

سابقا، كانت البيانات تُجمع بوسائل غير مباشرة عن طريق شبكات التجسس وطرق جمع المعلومات التقليدية، أما الآن فإن الأمور باتت أكثر سهولة وخطورة في الوقت نفسه. فضمن مشروع "المدينة الذكية" المُطبق في مدينة الخليل على سبيل المثال، تنتشر كاميرات المراقبة في جميع الأحياء، ترصد وتترقب الفلسطينيين في كل لحظة، وتتابع تحركاتهم حتى داخل منازلهم، على أن تُرسل هذه المعلومات إلى قاعدة بيانات محوسبة تسجل حرفيا "كل شاردة وواردة تخص الفلسطينيين".

"بانوبتيكون" رقمي

وفقا لما أوردته صحيفة "هآرتس" العبرية، لا يُسمح للجنود الإسرائيليين المسؤولين عن المراقبة الرقمية في الضفة الغربية والقدس المحتلة بالعودة إلى منازلهم قبل أن يصلوا إلى هدفهم، حيث يُطلب من أي جندي يفشل في تحميل 50 صورة لفلسطينيين على نظام التعقب المسمى "الذئب الأزرق" (Blue wolf) البقاء في الخدمة حتى يصل إلى العدد المطلوب من الصور، الذي يقوم لاحقا بتحميله على قاعدة بيانات تُستخدم للتتبع والتجسس على الفلسطينيين. (1)

تُزوَّد الهواتف الذكية لهؤلاء الجنود بتطبيق يحمل الاسم نفسه، "الذئب الأزرق"، ويُطلب منهم تصوير وجوه الفلسطينيين وبطاقات هويتهم بأي ذريعة، على أن تربط هذه المعلومات ببيانات أخرى مسجلة على قاعدة محوسبة تضم المعلومات المتعلقة بالتصاريح، وإذا كان محظورا من التنقل والاقتراب من المستوطنات، أو لديه مخالفات أمنية، وفق تصنيفات الاحتلال. وحتى يعمل التطبيق بالكفاءة المطلوبة يجب توسيع قاعدة البيانات إلى أقصى حد، لا عجب إذن أن جنود الاحتلال كانوا يتبارون في تصوير الفلسطينيين، بمَن فيهم الأطفال وكبار السن، مع جوائز للوحدات التي تجمع عددا أكبر من الصور.

تصف مصادر داخل صفوف الاحتلال نفسه قاعدة البيانات هذه بأنها "فيسبوك خاص للفلسطينيين". لاحقا، عند مسح وجه أحد الأشخاص المسجلين بواسطة التطبيق، يومض الهاتف بألوان مختلفة لتنبيه الجنود إذا كان الشخص سيُعتقل أو يُقبض عليه أو يُترك لحاله، أي إنهم يتركون قرار تحديد مصير فرد بيد أكواد تطبيق برمجي للتعرف على الوجه، يحدث هذا بينما لا يزال العالم في سجال دائر بين هل ينبغي أن نترك القرارات الحاسمة مثل إطلاق القنابل والقرارات العسكرية النهائية بأكملها للآلة، أم أن القرار النهائي يجب أن يُترك للإنسان؟ (2)

اختارت إسرائيل جوابها إذن، وهو جواب متوقَّع من سلطة احتلال تركز جهودها على مراقبة الأصوات الفلسطينية، وتقييد حرية التعبير. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن المراقبة في فلسطين تتشابه مع "البانوبتيكون" (Panopticon)، وهي آلية للتحكم الاجتماعي والنفسي اقترحها الفيلسوف الإنجليزي جيريمي بنثام في القرن الثامن عشر. في وسط البانوبتيكون يقف حارس في برج مراقبة، وتحيط به زنازين السجن الواقعة بأكملها في مجال رؤيته، لذا فإن السجناء لا يعرفون ما إذا كانوا مراقبين أم لا في أي وقت، ولهذا يحرصون على ضبط سلوكهم دائما.

في وسط البانوبتيكون يقف حارس في برج مراقبة، وتحيط به زنازين السجن الواقعة بأكملها في مجال رؤيته، لذا فإن السجناء لا يعرفون ما إذا كانوا مراقبين أم لا. (رويترز)

جادل الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في تحليله لـ"البانوبتيكون" بأن الغرض منه هو "ترتيب الأوضاع بحيث تكون نتائج المراقبة دائمة، حتى لو كانت المراقبة نفسها غير متواصلة". يقف المنطق نفسه المصاب بجنون العظمة وراء آليات المراقبة الإسرائيلية، فالهدف هنا ليس فقط مشاهدة الفلسطينيين من خلال الكاميرات الموضوعة في كل مكان، ولكن الأهم جعلهم يشعرون بأنهم مراقبون في كل وقت بغض النظر عن مكان وجودهم. وبالتالي فإن المراقبة الرقمية الإسرائيلية هي أحدث تكرار لتكتيك جيش الاحتلال الإسرائيلي "أنت دائما مراقب"، الذي تُنشر بموجبه الدوريات العسكرية الإسرائيلية بكثافة في المجتمعات الفلسطينية لغرض وحيد هو إظهار مدى انتشار جيش الاحتلال وسيطرته.

في هذا الصدد، ناقش جنديان إسرائيليان سابقان تحدَّثا إلى منظمة "بركينغ ذا سايلنس" (Breaking the Silence)، وهي مجموعة مكونة من قدامى المحاربين الإسرائيليين المعارضين للاحتلال، برنامج المراقبة بشرط عدم الكشف عن هويتهم. تقدم هذه الشهادات أول وصف علني واسع النطاق لبرنامج المراقبة الإسرائيلي وآلياته. (3)

وفقا للمنظمة، قام جيش الاحتلال الإسرائيلي بتركيب كاميرات بماسح ضوئي للوجه في مدينة الخليل لمساعدة الجنود عند نقاط التفتيش على التعرف على الفلسطينيين حتى قبل تقديم بطاقات هوياتهم، ضمن مشروع يُطلق عليه "مدينة الخليل الذكية". يهدف المشروع إلى مراقبة جميع سكان المدينة في كل وقت، بما يشمل مراقبة المنازل الخاصة في بعض الأحيان. (4)

كاميرات مراقبة إسرائيلية على منزل فلسطيني قرب بؤرة تل الرميدة الاستيطانية بالخليل (الجزيرة نت)

عموما، تُعَدُّ تقنية التعرف على الوجوه إحدى أكثر التقنيات إثارة للجدل، وقد حُظر استخدامها رسميا فيما لا يقل عن اثنتي عشرة مدينة أميركية، بما في ذلك بوسطن وسان فرانسيسكو، كما دعا البرلمان الأوروبي إلى حظر استخدام الشرطة لتقنيات التعرف على الوجه في الأماكن العامة. (5) لكن ذلك لم يمنع جيش الاحتلال من اعتماد هذه التقنيات القائمة بشكل أساسي على الذكاء الاصطناعي جنبا إلى جنب مع أساليب الرقابة التقليدية التي لا تزال متبعة أيضا إلى اليوم. ويحتج مسؤولو الاحتلال بأن التصوير باستخدام الطائرات بدون طيار على سبيل المثال يقلل من حاجة جنود جيش الاحتلال إلى اقتحام منازل الفلسطينيين، لأنه يُمكِّنهم من جمع المعلومات الاستخباراتية من مسافة آمنة. (6)

فراسة الآلة

أشرنا في السطور الماضية إلى أن أحد الأهداف الرئيسية للمراقبة هو شعور شامل بين الفلسطينيين بأنهم مراقبون جميع الوقت، مما سيجعل السيطرة عليهم أسهل، لكن الأمور تتعدى ذلك بكثير، وهنا دعنا نطرح عليك سؤالا: هل سبق أن سمعت عن الاستخدامات العسكرية لتقنيات "تحليل المشاعر"؟

تُعَدُّ تقنية "مستكشف المشاعر" شكلا من أشكال التعلم الآلي المثير للجدل الذي لا يزال يفتقد إلى المصداقية. تدَّعي شركة غوغل أن أنظمتها يمكنها تمييز المشاعر الداخلية من وجه الشخص وتصريحاته، وهي تقنية رُفضت بشكل واسع باعتبارها تعتمد على علم زائف، حتى إن شركة مايكروسوفت قررت أنها لن تقدم مزايا "استكشاف المشاعر" من خلال منصتها للحوسبة السحابية "آزور"، مشيرة إلى افتقارها للأساس العلمي. (7)

لكن غوغل لا تتفق في هذا الرأي مع مايكروسوفت على ما يبدو، بل قررت أن تُقدِّم إلى الكيان المحتل مشروعها، "نيمبوس" (Nimbus)، وهو مشروع الحوسبة السحابية للحكومة الإسرائيلية، ويتضمن إتاحة استخدام تطبيقات "غوغل كلاود" السحابية للوكالات الحكومية في دولة الاحتلال. لكن إسرائيل لن تستخدم خدمات غوغل السحابية فقط، بل ستُطعِّم هذا التعاون بتقنيات الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة، بما في ذلك ربما تقنيات "مستكشف المشاعر" المثيرة للجدل. وبحسب ما ورد، يمنع العقد بين الجانبين غوغل من رفض تقديم خدمات لكيانات حكومية إسرائيلية محددة، مثل جيش الاحتلال الإسرائيلي. (8)

رغم ادعائها الالتزام ببعض المبادئ الأخلاقية، وجدت غوغل نفسها في مأزق مع موظفيها من قبل. في عام 2018، دخلت غوغل في شراكة مع وزارة الدفاع الأميركية في مبادرة تسمى "بروجيكت مايفن" (Project Maven)، وهو عقد ذكاء اصطناعي يمكن الاستفادة منه لتحسين دِقة ضربات الطائرات بدون طيار، لكن بعد احتجاجات الموظفين على توظيف التكنولوجيا في أعمال القتل، اختارت غوغل عدم تجديد العقد.

في غضون ذلك، أنهت غوغل أيضا العمل على مشروع "دراغون فلاي" (Dragonfly)، وهو محرك بحث وتطبيق إخباري خاضع للرقابة للاستخدام في الصين، بعد انتقاده من قِبَل دعاة حرية التعبير. بالمثل، احتج العشرات من موظفي غوغل وأمازون المعارضين لمشروع نيمبوس، لكن احتجاجاتهم لم تؤتِ ثمارها كما سبق. (9)

على ما يبدو، ما تبيعه شركات التقنية للحكومات ليس مجرد خدمات، إنها ببساطة تضع القوة في أيدي الدكتاتوريين والمتسلطين. غوغل تبيع القوة لإسرائيل، وللولايات المتحدة وربما للصين، وتساعد على تمكين صناعة التحكم والرقابة، لكن الشركة العملاقة لا تعبأ بذلك ما دام يخدم أغراضها التجارية، ولعل فلسطين تُقدِّم مثالا واضحا على هذا التوجه.

مُختبر المراقبة

(الجزيرة)

لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن الأراضي الفلسطينية تُستخدم اليوم مختبرا لإسرائيل لاختبار تقنيات التجسس والمراقبة قبل بيعها للأنظمة القمعية في جميع أنحاء العالم. هذه التجارة لها آثار مقلقة، لا سيما أن المزيد من الحكومات قد استفادت من أدوات المراقبة الرقمية ضد المعارضين السياسيين والنشطاء والصحفيين والعاملين في المجتمع المدني.

تُقدِّم شركات إسرائيلية مثل "NSO Group" مثالا صارخا على المخاطر التي يُشكِّلها هذا الوضع. صعدت المجموعة إلى قمة أسواق الأمن السيبراني الخاصة من خلال تجنيد قدامى المحاربين من وحدات المخابرات الإسرائيلية النخبوية، الذين يمكنهم بسهولة وضع خبرة المراقبة في سياق عسكري لاستخدامها في القطاع الخاص.

عملت شركة التجسس الإلكتروني من كثب أيضا مع وزارة الخارجية الإسرائيلية، التي ساعدتها على تصدير برامج التجسس إلى الأنظمة الاستبدادية والديمقراطيات الليبرالية على حدٍّ سواء. في السنوات التي تلت ذلك، عُثِر على برنامج "بيغاسوس"، برمجية التجسس الأخطر حتى الآن، على نحو خمسين ألف هاتف حول العالم، وزعمت تقارير أن الولايات المتحدة ناقشت شراء التكنولوجيا. ولكن بعدما تأكد استخدام "بيغاسوس" في اختراق هواتف موظفين في وزارة الخارجية الأميركية نفسها، وضعت واشنطن مجموعة "NSO" على القائمة السوداء. (10)

لا يقتصر الأمر على "NSO" وحدها، حيث تقوم شركات إسرائيلية أخرى أقل شهرة بنشر تقنياتها من الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى جميع أنحاء العالم. قامت إحدى الشركات الإسرائيلية الرائدة في تصنيع تقنيات التعرف على الوجه تسمى "أوستو" (Oosto) بتجهيز نقاط التفتيش في جميع أنحاء الضفة الغربية باستخدام ماسحات ضوئية بيومترية في عام 2019، ثم بدأت في تصدير هذه التقنيات إلى الخارج بعد بضعة أشهر، حيث تُستَخدم الآن كاميرات للتعرف على الوجه عند مداخل مراكز التسوق والملاعب الرياضية، ومجمعات مكاتب في 43 دولة. بالمثل، كما كانت شركة الاستخبارات الإسرائيلية "سيلبريت" (Cellebrite) رائدة في مجال التقنيات التي تخترق أجهزة آيفون المقفلة للشرطة الإسرائيلية، وقد قامت الآن بتصدير تقنياتها إلى وكالات إنفاذ القانون في جميع أنحاء الولايات المتحدة. (10)

كان كل ما سبق دفاعا عن الفلسطينيين، لكن المؤكد أن الفلسطينيين ليسوا وحدهم هم المهددين بسبب تقنيات الغزو الرقمي، حتى لو كانوا يُمثِّلون حالة فريدة من نوعها بسبب خضوعهم لسلطة احتلال غاشمة. فبالنظر إلى التوسع العالمي لتقنيات المراقبة، لا تتطلب المقاومة جهودا من الفلسطينيين فحسب، لكنها تتطلب حملة عالمية شاملة لحماية الخصوصية الفردية في مواجهة عالم الرقابة الذي يتوسع ويتغوَّل يوما بعد يوم.

______________________________________________

المصادر:

  1. Israeli soldiers not allowed off shift until 50 Palestinians are .
  2. Death by algorithm: the age of killer robots is closer than you think
  3. Breaking the silence
  4. Israel escalates surveillance of Palestinians with facial recognition program in West Bank
  5. Europe edges closer to a ban on facial recognition
  6. Philosopher Micah Goodman Is An Unofficial Counsel To Israel’s Prime Minister:
  7. Microsoft to retire controversial facial recognition tool that claims to identify emotion:
  8. Google workers protest $1.2B Project Nimbus contract with Israeli military:
  9. Google and Amazon Workers Fill Streets to Protest Israel’s ‘Project Nimbus’
  10. How the Occupation Fuels Tel Aviv’s Booming AI Sector
المصدر : الجزيرة