شعار قسم ميدان

الأرجنتيني الثائر وفيدل كاسترو وبابلو إسكوبار.. كيف أصبح مارادونا "برغر كينغ" الشيوعية؟

الرئيس الكوبي فيدل كاسترو (يسار) وهو يلعب بكرة القدم مع نجم كرة القدم الأرجنتيني السابق دييغو أرماندو مارادونا
الرئيس الكوبي فيدل كاسترو (يسار) وهو يلعب بكرة القدم مع نجم كرة القدم الأرجنتيني السابق دييغو أرماندو مارادونا. (الفرنسية)

سواء كنت متابعا لكرة القدم، أو لم يكن لك علاقة بها من قريب أو من بعيد، فأنت بالطبع تعرف دييغو أرماندو مارادونا، ومن المحتمل أنك تعرفه جيدا، لقد شاهدته كثيرا محمولا على الأعناق وبيده ذهبُ كأس العالم، ومر عليك المقطع الشهير لعمليات الإحماء على أنغام "لايف إز لايف" (live is life) في واحد من أعظم الاستعراضات في القرن العشرين، وشاهدت عن قرب "يد الله" وهي تضع الإنجليز خارج البطولة الكروية الأهم، كأس العالم، وباعتبارك منتميا لعالمنا العربي؛ فلعلك ترى في هذا الأمر انتصارا شخصيا لك.

 

لكن هل شاهدته قبلا يرتدي قبعة تخص الزي العسكري الكوبي؟ هل رأيته يربت على يد ياسر عرفات؟ غالبا لا، لكن الحقيقة أن اللاعب الأشهر والأعظم من وجهة نظر الكثيرين كانت له جولاته السياسية في العالم المعادي للغرب، وفي رواية أخرى، كانت هناك بعض الأنظمة التي تستغل ولعه بقضايا المهمشين لاستخدامه دعاية سياسية تخطب بها ود الشعوب.

 

عشرة جنود وثلاث بنادق

Argentinian ex soccer star Diego Armando Maradona (L) talks to Cuban President Fidel Castro, before recording Maradona's TV program "The 10's Night" in Havana 27 October 2005. Maradona is in Cuba to record this special interview with Castro, in preparation to his weekly program broadcasted in Buenos Aires. AFP PHOTO / Ismael Francisco Gonzalez - AIN (Photo by ISMAEL FRANCISCO GONZALEZ / AFP)
نجم كرة القدم الأرجنتيني السابق "دييغو أرماندو مارادونا" (يسار) يتحدث مع الرئيس الكوبي فيدل كاسترو. (الفرنسية)

عند لحظة ما أصبح الزعيم الكوبي فيدل كاسترو محاصرا من كل الجهات، لكنه رغم ذلك لم يتوقف عن المقاومة، كان يعلم تماما بأن لديه ميزتين قد تفيدانه عندما يشتد الحصار: الكاريزما المطلقة التي تمنحه ثقة عمياء في نفسه، ووشم على فخذ مارادونا الأيسر.

 

كان كاسترو لاعبا لكرة القدم في فترة المراهقة، ومن المفارقات أنه كان يلعب في مركز الجناح الأيمن رغم أيدولوجيته اليسارية، وفي نتيجة طبيعية تمسك الرجل بصداقة عميقة مع دييغو وجعله مقربا لأقصى الحدود، واستضافه في هذا البلد اللاتيني الصغير لمساعدته في الإقلاع عن إدمان الكوكايين. (1,3)

AMSTERDAM: An ode to Maradona's friend Fidel Castro appears as a tattoo on the leg of Diego Maradona. Castro allowed Maradona to kick his cocaine addiction in Cuba. Maradona trained with Boca Juniors on a field of Ajax's De Toekomst training center in Amsterdam
وشم لصديق مارادونا فيدل كاسترو يظهر على ساق دييغو مارادونا. حيث ساعد كاسترو مارادونا بالتخلص من إدمانه للكوكايين في كوبا. (شترستوك)

هناك تفسيرات عديدة لشرح تلك العلاقة المتشابكة لم يمتلك أيٌّ منها دليلا واضحا، لكن بربط الأحداث؛ ربما اقتنع فيديل للحظة أن خطط البروباغندا الرأسمالية قد تفيده، وأن استقطاب الجماهير بطرق ملتوية وبإعلانات براقة تُلهب الحماس لن يكون مضرا للاشتراكية وقتيا؛ وفي خضم الأزمة وجد أمامه فرصة أن يتعامل مع أكثر الأشياء تعاطيا في العالم، كرة القدم، إذن فلا ضير من أن نستقطب تلك الجماهير الجاهزة تماما للمعركة، فالشماريخ مشتعلة والأعناق مرفوعة والكل دائما متأهب في الكورفا، وبالطبع كانت حلقة الوصل بينه وبين تلك الجماهير هو هذا الأرجنتيني القصير.

"كاسترو لديه حماس شديد، ولديه إيمان عميق بما يفعل، كاسترو يعمل وكأنه 10 جنود يمتلكون 3 بنادق".

هكذا صرح مارادونا، وطبقا للنظريات التي تؤمن بقوة البروباغندا فإن دييغو كان أخطر رصاصة في بنادق كاسترو.

 

كوكايين الشعوب

هناك مقولة شائعة تقول: "لكل زمان دولة ورجال"، وفي ثمانينيات القرن المنصرم؛ كان بابلو إيميليانو إسكوبار أخطر رجال زمنه، تلك السطوة التي كان يتمتع بها ويفرضها على محبيه وخصومه ظلت حاضرة في أذهان الجميع، ولا تزال الأساطير تُحاك حول صولاته وجولاته إلى يومنا هذا؛ الرجلُ الذي حارب عدة دول وحدهُ ولم يجد ملجأ يأويه عندما تبعثرت الأوراق سوى صورة التقطها مع أحد الأشخاص، وأنت تعرفه على أية حال.

 

كان بابلو كولومبيا فقيرا تربى على كراهية الساسة واعتبرَ نفسهُ معاديا لهم، وبالتبعية كانت كراهيته لدول الغرب الرأسمالي أشد قسوة. لذا لم يكن مستغربا أن ارتبط الرجل بالمنظمات الشيوعية في بلدته ميديين، ارتباطا كان في ظاهره دفاعا عن قضية يؤمن بها، لكن في باطنه كان ستارا لإضفاء شرعية ما على أعماله المشبوهة ومنها تجارة المخدرات.

 

ومع تطور الأحداث وخوضه الانتخابات البرلمانية تحت مظلة الشيوعي الثائر والداعم للفقراء، لم يكن أمام أعضاء الكونغرس الكولومبي -المُسيطر عليه من قِبل الولايات المتحدة- إلا سحب الثقة منه، وفي أول انعقاد للبرلمان، وهذا -كما لك أن تتوقع- أثار سخطه الشديد؛ تفجيرات متعددة، واغتيالات للعديد من الشخصيات السياسية البارزة في الدولة، وأطنان من الكوكايين تُلقى يوميا على شواطئ فيلاديلفيا، وجيش به عدة آلاف من الجنود جاهزون تماما لإشعال الدولة عن بكرة أبيها. كانت هذه هي السياسات التي تعامل بها البارون مع الدولة، وهو ما أدى إلى تكاتف الحكومتين الكولومبية والأميركية لإسقاطه والقبض عليه. (5)

 

هل سمعت من قبل عن لا كاتدرال؟ إنه السجن الذي بناه بابلو إسكوبار لنفسه بعد الاتفاق على تسليم نفسه للسلطات الكولومبية، وهو مجمع ضخم يحتوي على حمامات للسباحة، وملاعب للتنس، ومجموعة من المطاعم، وعدد من الملاهي الليلية والحانات، بالإضافة إلى ملعب كامل التجهيزات لكرة القدم، مع أحقية اختيار حراس هذا السجن بنفسه! (10)

 

هنا تقع المفارقة الأبرز؛ أن علاقة هذا القاتل الدموي بلعبة ترفيهية مثل كرة القدم كانت متشعبة وقوية. في تقرير بعنوان "كيف غيّر بابلو إسكوبار كرة القدم الكولومبية للأبد؟"، طَرح الكاتب بعض الحقائق حول تمويل بابلو لنادي بلدته ميديين، بالإضافة إلى بناء العديد من الملاعب للسكان المحليين، ويمكننا أيضا أن نرى العديد من المؤلفات التي تناولت كيفية ابتكار بابلو للمراهنات في كرة القدم، والأشدُ تطرفا رأوا أن هذا الكولومبي قد وضع اللبنة الأولى لألعاب مثل الفانتازي، ومن هذا المنطلق جاء تصريح ليونيل ألفاريز، لاعب المنتخب الكولومبي سابقا، عن بابلو حين قال: "كان بابلو إسكوبار يُنتَقد بسبب إنشاء تلك الملاعب من أموال المخدرات، لكن بالنسبة لنا كنا نشعر بالحظ والسعادة فقط لوجودها"، وهنا تحضر مفارقة أخرى في غاية الأهمية: لقد قُتل هذا الأنيق مرتديا حذاء لكرة القدم، أول حذاء اشتراه في حياته؛ كما صرحت زوجته ماريا فيكتوريا. (6).

 

برغر كينغ في السجن

Fidel Castro gives his cap to Argentina's soccer star Diego Armando Maradona at the Revolution Palace in Havana, July 28, 1987. Maradona received the Prensa Latina "Most Outstanding Latin American Athlete" prize. REUTERS/Prensa Latina (CUBA)
عند التأمل في مسيرة دييغو وعلاقته بالزعماء من كاسترو إلى هوغو تشافيز، ستجد نمطا ثابتا؛ لقد كان أصدقاؤه مجموعة من القادة لدول فقيرة وثائرة تعادي الغرب. (رويترز)

يمكننا أن نرى من خلال تلك التفاصيل طبيعة العلاقة بين إسكوبار ودييغو خاصة مع إدمان الأخير للكوكايين، فبعد عدد من السنين والمناوشات والقتلى والأشلاء المتطايرة هنا وهناك قرر بابلو أخيرا تسليم نفسه، على شرط أن يقضي مدة عقوبته في سجنه الفاخر الخاص، ولنقل الضغط إلى الدولة، قام بدعوة دييغو في مباراة استعراضية داخل المحبس، هل تعلم لماذا هذا الأرجنتيني تحديدا؟ ربما لأنه نجا من الفقر تماما مثل بابلو. (4)

 

وتخيل هذه الصيغة: دييغو أرماندو مارادونا، البطل الذي هزم الإنجليز وهزم الشمال الإيطالي بمصانعهم وتسليحهم وعتادهم وحده، وكان ملجأ للفقراء وحِصنا لهم، محتضنا المُجرم بابلو إسكوبار. تلك الصورة التي علقها بابلو في مكتبه كانت كفيلة بتثبيت الصورة الذهنية له عند محبيه؛ "روبن هود"، كما كان يُحب أن يُطلق عليه.

 

وهنا تقبع الفكرة الأخيرة؛ الرأسمالية الأميركية انتصرت على السوفييت، ببرغر كينغ، أو ماكدونالدز، لا تهمنا العلامات التجارية ذاتها بقدر تأثير الدعاية، فبعد أن فقد ميخائيل غورباتشوف، آخر الزعماء السوفييت السيطرة، لجأ إلى سياسة الانفتاح على الغرب مما أفقد الاتحاد السوفيتي أيديولوجيته المميزة، لكن الغريب أن الشعب لم يرفض تلك السياسيات، بل أقبل عليها، فعند افتتاح فرع ماكدونالدز الأول بموسكو عام 1990، اصطف آلاف المواطنين السوفييت في ليلة الافتتاح، بل والمدهش أن الاحتفالات جاءت صاخبة لحد بعيد، وفي هذه اللحظة فقط أدرك الغرب انتصاره المهيب، لقد استطاعوا -عن طريق الدعاية- أن يدخلوا نمط الحياة الغربية في عقول ألدّ أعدائهم، وهذا هو النصر الذي لن تستطيع الترسانة النووية أن تمحوه من الوجود.(8,9)

"الدعاية الناجحة يجب أن تُبنى على أفكار قليلة وبسيطة وتعتمد التكرار والتكرار، ببساطة اكذب حتى يصدقك الناس".

جوزيف جوبلز، وزير الدعاية النازي. (7)

عند التأمل في مسيرة دييغو وعلاقته بالزعماء من كاسترو إلى هوغو تشافيز، ستجد نمطا ثابتا؛ لقد كان أصدقاؤه مجموعة من القادة لدول فقيرة وثائرة تعادي الغرب، وهو نمط يمكن اختصاره في المشهد التالي؛ زعيم اشتراكي يجلس على مكتبه الأنيق وينفث دخان سيجاره ببطء، متابعا مباراة حامية الوطيس بين منتخب الأرجنتين ومنتخب إنجلترا في كأس العالم، فجأة ينتفض مهللا؛ لقد شاهد لتوه لاعبا قصيرا يرتدي الرقم 10 يراوغ سبعة لاعبين مسجلا هدفا هزم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وبعد تلك الفرحة الغامرة يعود إلى وقاره وجِلسته، يمسك بقلم ويكتب هامشا إلى وزير إعلامه: "إن المعركة التي بيننا وبين هذه الدول ليست أقل صخبا من تلك المباراة، وبما أن الحل دائما يكون في يد ساحر يتبعه العوام، إذن أحضروا لي دييغو أرماندو مارادونا، إنه برغر كينغ الخاص بنا، إنه برغر كينغ الشيوعيين".

—————————————————————————————-

المصادر:

1- Diego Maradona: Argentina football icon’s off-pitch politics – BBC

2- ‘Cubans loved him’: Maradona, friend of Castro, mourned in Cuba, Frace24

3- رحيل دييجو – من مارادونا لفيدل: "الجناح الأيسر يليق بك"، filgoal

4- Inside Diego Maradona’s party with Pablo Escobar in prison alongside stunning girls, Daily star.

5- Pablo Escobar, Biography.

6- How Pablo Escobar changed Colombian football forever, The sporting.

7- مقولة جوزيف جوبلز

8- McDonald’s Russian restaurants have just reopened. Photos show thousands of people queueing for their first Big Mac when the chain arrived in Moscow in 1990, INSIDER.

9- Mikhail Gorbachev Championed ‘Glasnost’ and ‘Perestroika.’ Here’s How They Changed the World, TIME

10- La Catedral: The Prison Pablo Escobar Built For Himself, History of yesterday

المصدر : الجزيرة