شعار قسم ميدان

فرناندو دينيز.. نحو تحرير كرة القدم من قبضة غوارديولا!

فرناندو دينيز.. نحو تحرير كرة القدم من قبضة غوارديولا!
فرناندو دينيز، مدرب فلومينينزي البرازيلي والمنتخب البرازيلي (وسط)، بيب غوارديولا (يمين)، مدرب مانشستر سيتي، وخوانما ليو (يسار)، مساعده السابق. (الجزيرة)

بوصفه أبا نادما، عبّر خوانما ليو، مساعد بيب غوارديولا السابق وأحد أكبر المؤثرين في كرة القدم الحديثة، عن أسفه تجاه التطور الذي وصلت إليه اللعبة في السنوات الأخيرة، وعن ندمه تجاه المأساة التي أسهم فيها بكونه واحدا من أكبر رواد اللعب الموضعي، الذين أسهموا في نشر المبادئ التي ساعدت على تسريع عملية العولمة التكتيكية، و"أفسدت اللعبة" على حد وصفه. (1)

 

للتبسيط، يُعَد كأس العالم البطولة الأمتع لأننا دائما على موعد مع شيء جديد مختلف. تشارك المنتخبات من كل قُطر في العالم، وكل منتخب يأتي بهويته وإفرازاته الثقافية والاجتماعية في صورة 11 لاعبا، لدرجة أنك تستطيع بسهولة تمييز المنتخب الألماني من البرازيلي بمجرد مشاهدة إحماءات اللاعبين، قبل حتى أن يرتدوا قمصان المباراة.

 

لكن حتى كأس العالم أُفسد وفقا لليو، حيث كان المونديال الأخير فقيرا للغاية على المستوى الفني، تهاجم الفرق القوية بأنماط موحدة لدرجة أننا تقريبا شاهدنا مباراة واحدة تُعاد أكثر من 60 مرة! لم نرَ جديدا، ولا حتى المواهب الفذة التي كانت البطولة دائما مسرحا لها. تمت عولمة اللعبة، وتباعا، طُمست تلك الهوية التي كانت تُميز منتخبا عن آخر.

"نحن (المدربين) لا ندرك حجم الفوضى التي أحدثناها، لقد عولمنا منهجيات التدريب إلى الحد الذي تسللت به إلى نهائيات كأس العالم، والآن، إذا جعلت لاعبي الكاميرون والبرازيل يتبادلون قمصانهم بين الشوطين، فلن تدرك ذلك حتى.. ربما بالوشم أو الشعر الأصفر، لكن ليس بالأداء".

خوانما ليو

 

مأساة ليو

Head coach of Al Sadd SC Juan Manuel Lillo Diez during the Amir Cup Qatar 22/23 semi-final match between Al Sadd SC and AL Shahania SC at Abdullah Bin Khalifa Stadium in Doha, Qatar on 24 April 2023. Al Sadd SC won 5-1
"خوانما ليو" مساعد بيب غوارديولا السابق. (شترستوك)

بدأت ثورة اللعب الموضعي في أمستردام قبل 50 عاما على يد الهولندي "رينوس ميشيلز" مدرب أياكس حينها، الذي كان حريصا على نقلها إلى برشلونة آنذاك، واستمرت في النمو بعدها بين ميلان ساكي وبرشلونة كرويف، مرورا بأياكس لويس فان خال وخوانما ليو، وكان الأخير هو من قدم رسم 4-2-3-1، لكونه يوفر الانتشار "المتزن" للاعبين على مساحة الملعب. أضاف كل منهم للفكرة من واقع تجربته، حتى جاء بيب غوارديولا الذي أكمل اللوحة بإسهاماته العريضة طوال الـ15 عاما الماضية. (2)

 

إذا أردنا اختصار اللعب الموضعي في كلمات محددة، فستكون في: انتشار اللاعبين على مساحات الملعب مكونين هيكلا لا يمكن الإخلال به، يوفر ذلك الهيكل أكبر قدر ممكن من العمق والاتساع لاستغلال مساحة الملعب من حيث الهجوم في مساحة واسعة وإجبار الخصم على الدفاع فيها أيضا. كل لاعب ملتزم بأدوار محددة سلفا داخل مساحته بناء على سياق اللعب وتمركز الخصم، وبالطبع لا يُسمح بوجود لاعبين في نفس المساحة، لأن هذا سيعني وجود مساحة شاغرة غير مستغلة.

تغطية مساحات الملعب في اللعب الموضعي باستخدام هيكل خططي ثابت - المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي
تغطية مساحات الملعب في اللعب الموضعي باستخدام هيكل خططي ثابت – المصدر: مواقع التواصل

استخدام حارس المرمى لخلق الزيادة العددية أثناء الهجوم، واستدعاء ضغط أحد لاعبي الخصم، ثم تمرير الكرة للمساحة التي خلّفها هذا اللاعب، أو الرجل الحر، وبمجرد العثور على أول لاعب حر تبدأ المتوالية في تكرار نفسها وصولا لمرمى المنافس، وكلما حظي لاعبو الفريق بأفضلية تمركزية مقارنة بلاعبي الخصم -خاصة فيما يُعرف بأنصاف المساحات (Half spaces)- كان الفريق أقدر على تحقيق أهدافه.

لم تكن تلك الطريقة عبقرية فقط، ولكنها كانت منطقية جدا في الوقت ذاته، وبسبب نجاحها المدوي عمل الجميع على دراستها وتفكيك أسرارها لتبنيها، وربما بسبب منطقيتها الشديدة لم يشعر أحد عند تطبيقها بأنه بذلك يتجاهل عدة سياقات تتعلق بنوعية اللاعبين المتاحة، والتقاليد الكروية في ذلك البلد/الفريق التي تميزه عن غيره، لدرجة أن ألمانيا حققت كأس العالم 2014 بالطريقة ذاتها، وتبعتها إيطاليا في يورو 2020 بصبغة إسبانية خالصة، وتباعا بات العالم كله يلعب نفس نوع الكرة، وأصبحت الغلبة للأفضل والأكثر إبداعا في تطبيقها. (3)

 

أحدث اللعب الموضعي تطورا هائلا في اللعبة، ولكن المفارقة أن نجاحه الكبير كان كاشفا لعيوبه، فكلما زاد عدد الفرق التي تستخدمه تعلَّم المزيد من الخصوم الدفاع عن أنفسهم ضد تلك المبادئ والمساحات، فأصبحنا نرى كرة قدم واحدة، إذا شاهدت مباراة في الدوري الإيطالي على سبيل المثال فستجد نفسك تشاهد نفس ما شاهدته للتو في الدوري الإسباني.

الأمر الآخر هو أن اللاعبين يتدربون باستمرار على تحديد المساحة الفارغة أو الرجل الحر للوصول إليه بأقصى سرعة ممكنة عبر "التمرير"، ويعني ذلك أن القائمين على اللعبة -خاصة في المراحل التكوينية- لن يستطيعوا سوى إنتاج لاعبين قادرين على التمرير فقط، لأنك -بصفتك لاعبا- لا تملك الحرية لاتباع حدسك إذا رأيت أن عليك التمويه أو المراوغة بدلا من التمرير مثلا، بل عليك نسيان نفسك وكبت غريزتك وارتداء عدسة المدرب، وإلا فستفقد مكانك سريعا.

 

وبما أن اللعب الموضعي في جوهره لا يشجع على المراوغة من الأساس، يراوغ اللاعب فقط إذا كان الموقف متكافئا عدديا، 3 ضد 3، أو 4 ضد 4؛ وقتها تكون المراوغة حاسمة لإقصاء لاعب من الخصم وخلق الزيادة العددية لفريق، لكن ما دمنا أكثر من الخصم ابتداء بسبب الزيادة العددية التي يوفرها هيكل الفريق فما قيمة المراوغة؟

أسهمت تلك السياقات في تحديد تصرفات اللاعبين أكثر وأكثر، وتباعا، فقد اللاعب حس الاستكشاف وسلطة البطولة في الملعب، الأمر الذي كان له دور، بكل تأكيد، في شُحّ المواهب الحقيقية من اللعبة آخر 15 عاما، أولئك القادرون على حل أعتى المواقف بمفردهم، بمراوغة أو بتمويه أو باختراق أو بتبادل التمرير، أولئك الذين أحببنا اللعبة لأجلهم، من أين لنا بمودريتش آخر الآن؟ إنييستا؟ رونالدينيو؟ هنري؟

"نحن نواجه كرة قدم تسود فيها الأكاديمية على الغريزة، لم يعد الشارع هو المدرسة، وذلك لا يعني أنني أشعر بالحنين إلى الماضي، اللعبة أصبحت أفضل من أي وقت مضى على المستوى الجماعي، لكنها ممنهجة بشدة. هناك سلوكيات تتحسن، مثل الاستلام والتمرير، لكن على الجانب الآخر اختفت المراوغة وكل ما يتعلق بالإبداع".

خورخي فالدانو(4)

الإشكالية الأكبر تكمن في الخلط بين الغاية والوسيلة، حسنا، وظيفتنا -بوصفنا فريقا- أثناء الهجوم هي صناعة الفرص ومن ثم إنهاؤها، بينما أثناء الدفاع نحاول منع الخصم من الأمر ذاته. تلك هي الغاية، وبناء عليها يمكن تحقيقها بشتى الوسائل الممتعة. لماذا نرى إذن أن الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك هي عبر اللعب بشكل موضعي ومنهجي صارم مثل مانشستر سيتي؟ لماذا أصبحنا نرى اللعبة فقط من عدسات بيب غوارديولا، وأنه كلما تمكن المدرب من تقمص فريق غوارديولا كان ذلك أفضل؟ أو بالأحرى، لماذا باتت تلك هي الطريقة المثلى للعب كرة القدم؟!

 

إعادة نظر

في 5 يوليو/ تموز من العام الجاري، أعلن المنتخب البرازيلي تعيين مدرب فلومينينزي المغمور، فرناندو دينيز، لقيادة السيليساو بالتوازي مع فريقه، حتى استلام كارلو أنشيلوتي دفة المنتخب مطلع يوليو المقبل. من يكون فرناندو دينيز؟ ولماذا هو تحديدا من بين المدربين المتاحين؟ الإجابة ببساطة لأنه يرى طريقة أخرى للعب كرة القدم. (5)

بصفته لاعبا، حظي دينيز بمسيرة متواضعة في كبار أندية البرازيل بين 1995 و2009. لا تناقض هنا، دينيز يعتقد أنه لم يكن يُحترَم من مدربيه بالقدر الكافي، إذ دائما ما اعتبروه مجرد ترس في آلة، وبما أنه ليس روبينيو أو رونالدينيو، فمن ثَمّ هو لا يملك الحق في التصرف وفق رؤيته في الملعب. (6)

 

ومع حصوله على درجة علمية في علم النفس، تستطيع الآن تخيل شعور الرفض والتمرد يتملّكانه، وبناء عليه سعى دينيز -بصفته مدربا- أن يمنح لاعبيه شعورا مختلفا عن الذي شعر به من قبل مدربيه، لا كآلات، ولكن كبشر قبل أي شيء، لديهم الحق في التعبير عن أنفسهم بحرية أكبر وفعل ما يرونه مناسبا، وما دام لا يتعارض مع مصلحة الفريق. (7)

 

ماذا يعني ذلك على أرض الملعب؟ يعني أن الكرة هي محور اللعب وليس المساحة، من ثم لا مساحات محددة يجب على اللاعبين احتلالها، أينما توجد الكرة يوجد اللاعبون، وعليهم تبادلها وإيجاد الحلول في الرقعة ذاتها. على سبيل المثال، إذا كان الفريق مضغوطا على الرواق الأيمن، يترك الجناح الأيسر موقعه وينضم لزملائه حول الكرة لمساعدتهم على الخروج بها بالكيفية المناسبة بناء على تداخلات الخصم. لا توجد إجابات مسبقة هنا، بل مساحة للارتجال ورد الفعل. إذن، الهيكل متغير طوال الوقت بتغير مكان الكرة، كما أن اللاعبين لديهم الحرية في إدارة الموقف فيما بينهم بالتمريرات القصيرة و المراوغة والتمرير المزدوج. (8)

(مواقع التواصل)

تظهر الفكرة واضحة في مباراة فلومينينزي وريفر بليت في كأس ليبرتادوريس، يحاول فلومينينزي دائما التدرج بالكرة من الأطراف لتحفيز الخصم على الضغط مستغلا خط التماس، يحاول دينيز استغلال تلك القاعدة الدفاعية الذكية في قلب السحر على الساحر.

 

هنا يملك "مارسيلو" الكرة لكن بلا ضغط من مهاجمي ريفر بليت، الذين اكتفوا بتضييق المساحة بينهم لإغلاق زاوية التمرير نحو "غانسو" الذي يتمركز خلفهما، وفي اللحظة ذاتها يقترب منه زميله في الوسط، وذلك لسببين: إعطائه خيار التمرير التمهيدي إذا لم يستطع الدوران، وخلق إشكالية لأقرب مدافع لكونه يضغط الآن على لاعبين وليس لاعبا وحيدا.

لقطة من المباراة
(مواقع التواصل)

هذا ما حدث فعلا؛ باغت غانسو الخصم بتمريرة من لمسة واحدة لزميله الحر، وتمكن بسهولة من الدوران والتقدم بالكرة، وفي الوقت نفسه بدأ بقية زملائه في طلب الكرة في المساحة خلف لاعبي الخصم.

لقطة من المباراة
(مواقع التواصل)

استطاع مدافعو ريفر بليت اعتراض الكرة، وشرعوا في التحول السريع من الدفاع إلى الهجوم، لكن مركزية الكرة بالنسبة إلى لاعبي فلومينينزي كانت حاسمة في إحباط المرتدة، حيث صعدوا سريعا خلف زملائهم، وبذلك كانوا دائما على مقربة من مهاجمي المنافس وتمكنوا من استخلاص الكرة في منطقة حيوية.

لقطة من المباراة
(مواقع التواصل)

بمجرد استخلاص الكرة، بدأ لاعبو فلومينينزي في إعادة توزيع أنفسهم حول الكرة للاتزان مرة أخرى، وذلك بتكوين شكل "الماسة" أو المعيّن، لتوفير 3 خيارات للتمرير لحامل الكرة ما بين قطري وعمودي، على أن يقف كل لاعب بين لاعبين من الخصم، فكما يقول "سباليتّي"، المساحات بين الخطوط لم تعد موجودة، الآن البحث عن المساحات بين اللاعبين، وهو ما يحترفه لاعبو المدرب فيرناندو دينيز.

لقطة من المباراة
(مواقع التواصل)

بذلك استطاع مارسيلو الوصول للاعب الحر بين لاعبي الريفر، لكن اللافت كان المشهد غير المعتاد، 7 لاعبين من فلومينينزي في جانب واحد حول الكرة تاركين باقي الملعب فارغا. لا يوجد انتشار "متزن" للمساحات كما اعتدنا رؤية فرق أوروبا، لا يوجد رسم هجومي "شائع" يمكن مقاربته بهيكل فريقك المفضل ولا هيكل ثابت أصلا، الأمر أبسط من ذلك، لاعبون حول الكرة، وبناء على تمركز لاعبي الخصم سيقف لاعبو فلومينينزي بينهم!

لقطة من المباراة
(مواقع التواصل)

بطريقة مختلفة، وصل لاعبو فلومينينزي للهدف ذاته وتمكنوا من خلق زيادة عددية على المنافس ووضع "كينو" في الموقف الذي يحبه ضد ظهير الخصم ليفتك به ويتجه للمنطقة.

لقطة من المباراة
(مواقع التواصل)

أثناء رحلة كينو من خط التماس إلى منطقة الجزاء، لا يزال لاعبو فلومينينزي في سفرهم مع الكرة، لتجد 4 منهم داخل منطقة الجزاء، واثنين على حدودها في انتظار العرضية، بينما يراقب زميلهم البعيد جناح ريفر بليت لتأمين زملائه. مرة أخرى تغير هيكل الفريق بسبب تغير مكان الكرة ووضعية المنافس، كما أن الإجراءات التعويضية أو الوقائية من اللاعبين خلف زملائهم ليست لحماية المساحات، ولكن أيضا لحماية منطقة الكرة!

"مقارنتي بغوارديولا؟ لأن كلينا يحاول الاستحواذ على الكرة واللعب في مناطق الخصم، فذلك يجعل أمرنا يختلط على الناس، لكننا مختلفان، أسلوبه موضعي، بينما أسلوبي غير موضعي، لقد قضيت فترة معايشة مع بيب غوارديولا وكنت قادرا على رؤية كل شيء، توجد خطوط فاصلة تحدد مساحة كل لاعب، ويجب عليهم البقاء في مساحاتهم والكرة ستصلهم، بينما نحن لا نلتزم بمواقع محددة ونلعب بحرية أكبر حسب موقع الكرة ونتبادل المراكز بشكل طبيعي، أعتقد أن الاختلاف راجع أكثر للثقافة هنا في البرازيل".

فيرناندو دينيز(9)

يعتقد دينيز أن التطور الذي شهدته الكرة الأوروبية في السنوات الأخيرة كان لمجاراة وهزيمة ما تقدمه دول أميركا اللاتينية، وتحديدا البرازيل التي كانت دائما متفوقة بطفرة المواهب. ما زالت البرازيل تنتج المواهب كما يعتقد دينيز، لكنهم لا يحظون بالثقة الكافية من المدربين الذين نسخوا من الأوروبيين، معتقدين أن ذلك كفيل بحل مشكلات الكرة البرازيلية. كان ذلك الاعتقاد خاطئا وفقا لدينيز، لأن الكرة البرازيلية دائما ما كانت مرتبطة باللاعبين وليس بالتكتيك، وتلك هي الهوية التي يجب أن تستردها. (10)

لم يحقق دينيز بطولة مع فلومينينزي حتى الآن، لكون فلومينينزي لا يحظى بالدعم المادي الذي تحظى به الأندية الثمانية الكبرى في البرازيل، لكن بالرغم من ذلك كان قادرا على تحقيق المركز الثالث في الدوري متفوقا على 5 أندية منها، بمتوسط معدل نقاط 1.9 نقطة في المباراة الواحدة، كما أنه مستمر مع الفريق للموسم الثاني على التوالي، وتلك المدة هي بمثابة معجزة في البرازيل. (11)

 

اللافت أن ذلك، ورغم عظمته، ليس الإنجاز الأكبر لدينيز، بل التأثير على المجتمع الكروي وتشجيعه على مراجعة ثوابته، والإثبات بشكل عملي أن هناك وسائل عديدة للوصول للغاية نفسها، وأن مراعاة الأبعاد الاجتماعية والثقافية ضروري للانسجام مع الأدوات المتاحة. الآن بدأ الحراك يتسلل للخارج، مالمو السويدي يحاول تطبيق المبادئ ذاتها، وسيلتيك الاسكتلندي كذلك، وصن داونز الجنوب أفريقي، والأرجنتين في كأس العالم الأخير ربما كانت نموذجا أكبر، وأخيرا خوانما ليو بنفسه في قطر مع السد القطري. (12)

 

يسقط اللعب الموضعي؟

إن شعرت بقدر من المبالغة، فذلك ليس مقصودا بتاتا. نعلم أن الحماس للجديد قد يدفع للمبالغة، لكن الأمر هنا مختلف، لعدة أسباب: أولها أن ما يقدمه دينيز ليس ثوريا عما يُقدَّم في أوروبا، فبالرغم من الحرية الكبيرة التي يمنحها للاعبين فإنهم لا يزالون مقيدين ببعض المبادئ، مثل التزام الفريق دائما ببناء اللعب على الأطراف وليس في العمق، أو التمركز "بين" لاعبي الخصم لتحقيق الأفضلية التمركزية على الخصوم.

كما يملك الفريق هيكلا خططيا طوال الوقت، لكنه ليس ميكانيكيا صارما يسعى فيه اللاعبون لتعويض المساحات التي يتركها زملاؤهم، بل يكون دائما حول الكرة، كما يهتم الفريق بمبادئ الدفاع الوقائي عند وصوله لمناطق الخصم حتى يكون آمنا من المرتدات.

 

الغايات واحدة في النهاية، سواء بإيجاد اللاعب الحر خلف لاعبي وسط أو دفاع الخصم أو تفريغ مساحة معينة لأحدهما كي يستغلها، الفارق الجوهري أن اللاعبين هم محور كل شيء وليس النظام، وأن الكرة هي محور الأمر برمته وليست المساحة.

 

كان بيب غوارديولا شديد البراعة في إطلاعنا على طرق جديدة لاستخدام نفس الـ11 لاعبا في الملعب بشكل أذكى من ذي قبل، وكان ناجحا للغاية في سعيه لذلك، بداية من المهاجم الوهمي، مرورا بالأظهرة الداخلية، ومؤخرا مع تشكيل خط دفاع كامل من قلوب الدفاع، مع إمكانية تحول أحدهم بسهولة إلى لاعب وسط، والأهم أنه كان يفوز دائما أثناء إجرائه كل تغيير فيها!

 

من ثم سيظل إرثه مهيمنا، لأن طرقه اختُبرت بما فيه الكفاية وأثبتت فاعليتها، كما أن لها العديد من المكتسبات التي لا تقدر بثمن، بينما لا يزال ما يقوم به دينيز رهن الاختبار في المستوى العالي، لكنه على أي حال صنع حراكا فكريا كما يظن الإيطالي فرانشيسكو فاريولي، مساعد دي زيربي السابق ومدرب نيس الفرنسي حاليا، إذ يعتقد أن الحراك سيطول منهجيات التدريب والإعداد البدني وتحليل الأداء أيضا، لأن منح المزيد من الحرية للاعبين داخل أفكار المدرب من شأنه أن يغير كثيرا من فكرة السيطرة. (13)

 

يؤمن فاريولي أن الأمر يستحق الدراسة بكل تأكيد، خاصة أنه طُبق من وقت لآخر في أوروبا، بالإشارة إلى أياكس تن هاخ، الفريق الذي وصل لنصف نهائي الأبطال، وأيضا نابولي سباليتي بطل إيطاليا، إذ كان نابولي فريقا حركيا ومتدفقا للغاية لا يرتبط لاعبوه بالمراكز كثيرا، بل يلعبون حيث توجد الكرة، وذلك مفهوم تماما بالنظر إلى الجودة الرفيعة للاعبين، مثل كفارا وزيلينسكي ولوبوتكا وأنغيسا وإلماس.

"لا توجد هياكل خططية بعد الآن، المساحات لم تعد بين الخطوط، بل بين اللاعبين، تكمن الحرفية في التلاعب بالخصم لخلقها، لا يمتلك لاعبو فريقي مواقع ثابتة في الملعب، الانسجام بينهم يسمح لهم بالتحرك في المساحات الشاغرة وقتما وجدوها، وعندما يتحرك أحدهم يعوضه الآخر".

لوتشيانو سباليتي (14)

من المفهوم أن يحاول كل مدرب فرض درجة عالية من النظام أثناء محاولاته للسيطرة على المباراة، لكن مع كل ذلك أثبتت كرة القدم إن بإمكانها صفع تلك المحاولات بسهولة. فماذا لو راجع المدربون علاقتهم بفكرة السيطرة وبدور البطولة، ومنحوا البطل الحقيقي "اللاعب" حرية أكبر في الملعب؟ بالتأكيد لن تكون مطلقة، لأن في النهاية كرة القدم لعبة جماعية، لكن القليل منها قد يكون كفيلا بتغيير المشهد الحالي.

 

يحاول الجميع السيطرة على كل شيء حتى يتوقفون عن القلق ويضمنون المستقبل، لكن منذ متى والحياة توفر لنا ضمانات على أي شيء؟ الحياة مخاطرة في حد ذاتها على أي حال، ربما الحل في اعتياد صحبة القلق واحتضان تجليات اللحظة والتسليم، لأننا في النهاية لن نستطيع السيطرة على كل شيء، فهذا سمتنا، وذاك سمت الحياة.

"يلعب فريقي كرة قدم مفتوحة، بشكل يعطيك مساحة -بصفتك لاعبا- للتعبير عن نفسك والتطور. كرة القدم غنية جدا، والملعب كبير جدا، وهناك 11 لاعبا يمكنهم إنشاء العديد من التفاعلات ضد 11 لاعبا آخرين، لذلك يجب أن نتحلى بالشجاعة ونمنح أنفسنا بعض الحرية لنكون قادرين على خلق الأشياء. أعتقد أنني أتعلم دائما، وكلما تحسنت أرى عالما أكبر حيث يمكنني التطور أكثر".

فيرناندو دينيز (15)

———————————————————————————

المصادر:

1- مقابلة ليو مع صحيفة ذا أثلتيك
2- التموضعي – جيمي هاميلتون
3- تحليل مايكل كوكس لمنتخبات يورو 2020 – ذا أثليتيك
4- مقابلة خورخي فالدانو
5- تعيين فيرناندو دينيز مدربا للمنتخب البرازيلي
6- مسيرة فيرناندو دينيز – ترانسفيرماركت
7- مقابلة فيرناندو دينيز
8- تحليل فريق فلومينينزي 2022 – توتال فوتبول أنالسيز
9- مقابلة فيرناندو دينيز (2)
10- مقابلة فيرناندو دينيز (3)
11- ترتيب الدوري البرازيلي موسم 2022
12- تحليل فريق السد القطري رفقة خوانما ليو – توتال فوتبول أنالسيز
13- حديث فرانشيسكو فاريولي مع أنطونيو غالياردي مساعد مدرب المنتخب الإيطالي
14- نابولي يهاجم المساحة.. كيف تأقلموا عندما منعهم فرانكفورت من ذلك؟ – ذا أثليتيك
15 – تصريح فيرناندو دينيز

المصدر : الجزيرة