شعار قسم ميدان

ما وراء يونيون برلين.. قصة صعود ملهمة بطلها الجمهور

برلين مدينة جذابة للأعين، بداية من شوارعها ومعالمها التي تفوح منها رائحة الحرب، مرورا بساحاتها الخضراء التي لا مثيل لها، ووصولا إلى كونها مركزا تجاريا واقتصاديا وعالميا، وموطنا للكثير من العلامات التجارية المهمة. ربما لتلك الأسباب هي إحدى أكثر مدن أوروبا جذبا للسياح من أنحاء العالم بـ6.3 ملايين سائح سنويا، ويمكنك أن تتصفح بعض صور المدينة ببحث بسيط عبر غوغل لترى إلى أي درجة هي مدينة فاتنة حقا. (1)(2)(3)

قد تبدو لك تلك مقدمة تقليدية ومملة، لكنها كانت ضرورية لوضع النقاط على الحروف، فقد كنا نريد ببساطة أن نجيبك عن سؤال: "بمَ تشتهر برلين؟"، وكما لاحظت فإن كرة القدم ليست على قائمة الإجابات، فالمدينة التي تملك أكثر من 50 ناديا لكرة القدم يتنافسون بالدرجات المختلفة من الهرم الكروي لا يوجد بها نادٍ واحد من أكثر عشرة أندية تتويجا باللقب في تاريخ ألمانيا. (4)(19)

في إيطاليا هناك روما ولاتسيو، وفي إسبانيا يوجد الريال وأتلتيكو، وفي فرنسا يقبع باريس سان جيرمان على رأس الهرم، وفي إنجلترا تحمل أندية لندن وحدها أكثر من 100 لقب عبر التاريخ الكروي الإنجليزي. لطالما كانت أندية العاصمة مُنافسا مستمرا على الألقاب المحلية في دوريات أوروبا الكبرى، وتملك مقعدا دائما بالمحافل الأوروبية، على عكس ألمانيا التي تغيب فيها أندية العاصمة، ولفهم ذلك ربما نحتاج هنا إلى العودة بالزمن 92 عاما لنرى أحد أندية عاصمتها متوَّجا بلقب الدوري الممتاز، تحديدا عام 1931 حين تُوِّج هيرتا برلين باللقب آنذاك. (5)(6)

ربما عند ذكر اسم المدينة يتبادر للأذهان مباشرة هيرتا ويونيون برلين، لكن في الحقيقة لم تكن مبارياتهما يوما تحمل تلك العداوة الصارخة، ولم تعج مدرجات الفريقين فيها بصخب يُدمي الآذان، فقط مباراة كغيرها، وإن كانت لفريقين من المدينة ذاتها. هذا جزء بسيط مما جنته الحرب، فيونيون كان في الشرق، أما هيرتا فكان في الغرب، ذاك الذي حُرِّم على سكان الشرق العبور إليه. (7)(20)

في الواقع هناك ديربي آخر في برلين يحمل تلك الصفات المذكورة مثل الصخب، والمعارك الجماهيرية الطاحنة؛ ديربي الشرق، الذي نشأ خلف الجدار التاريخي، وحمل اسما آخر من كبار برلين، لكنَّ أحدا لن يذكره، لأنه الآن مجرد عضو في قائمة أندية الهواة التي تقبع في الدرجات الدنيا. برلينر إف سي دينامو (BFC Dynamo)، الذي -للمفارقة- يحمل ألقابا أكثر من هيرتا ويونيون! (7)(8)(9)

شرير القصة

نادي بي إف سي دينامو الذي تأسس بعد ثلاث سنوات من إنشاء شتازي كان تابعا للبوليس السري، ولم يكن ذلك خلف الغرف المغلقة، ولكنه كان معلنا ولم يخفَ على أحد. (غيتي إيميجز)

قد تجعلك السطور الماضية تتعاطف مع بي إف سي دينامو، ونلتمس لك العذر، فلعلك شعرت أنه أحد الأندية الكبرى التي جار عليها الزمن، أو جعلته اقتصاديات اللعبة ينهار كغيره من القوى الكروية العظمى، لكن يؤسفنا حقا أن نقطع تلك اللحظة الرومانسية، فنادي بي إف سي دينامو أبعد ما يكون عن أن يتعاطف معه أحدهم!

لعلك تعرف أن ألمانيا انقسمت بعد الحرب العالمية الثانية بين عامي 1949 و1990 إلى دولتين منفصلتين؛ ألمانيا الغربية المنضوية تحت لواء الغرب ممثلا في بريطانيا وأميركا وفرنسا، وألمانيا الشرقية التي كانت تحت إمرة السوفييت. انقسمت برلين بدورها أيضا؛ برلين الشرقية للسوفييت، وبرلين الغربية لباقي الحلفاء. (10)

مع بداية عام 1950 -بعد عام من إعلان الجمهورية الألمانية الديمقراطية "ألمانيا الشرقية"- أُنشئت إحدى أهم ركائز إدارة الحكم التابعة للسوفييت وهو البوليس السري (Secret Police)، الذي عُرف آنذاك باسم "شتازي" (Stasi)، وهو أحد أشهر أجهزة المخابرات في التاريخ الحديث. بوليس سري ومخابرات؟ ونادٍ يجب ألا تتعاطف معه؟ يبدو أنك بدأت بإمساك أطراف الخيط. (11)

كما خمنت، فنادي بي إف سي دينامو الذي تأسس بعد ثلاث سنوات من إنشاء شتازي كان تابعا للبوليس السري، ولم يكن ذلك خلف الغرف المغلقة، ولكنه كان معلنا ولم يخفَ على أحد، حتى إن النادي أُسس في البداية لأعضاء البوليس السري والنظامي للدولة، هذا بالطبع قبل أن يفتح أبوابه للاعبين من مختلف الرياضات. (12)

الدولة تحت إمرتنا، إذن أندية الدولة تحت إمرتنا أيضا. كان ذلك شعار إيريك ميلكه، أكبر أنصار دينامو برلين ورئيسه الشرفي، الذي كان رئيس شتازي في الوقت ذاته، ففي عام 1954 أجبر مجموعة من لاعبي "دينامو دريزدن" (Dynamo Dresden) وبعض الأندية المحلية الأخرى على الانتقال إلى دينامو برلين في صفقات انتقال من طرف واحد. (12)

بي إف سي دينامو امتلك السلطة والنفوذ، وبالتبعية الأموال أيضا، لذلك فما حدث عام 1954 لم يكن سوى البداية فقط لعقود من الفساد الكروي. فاز دينامو برلين بـ10 ألقاب على التوالي من دوري الجمهورية الألمانية الديمقراطية في الفترة بين عامي 1979-1988، في رأيك، كيف حصل عليها؟ بخلاف أن الفريق كان يضم صفوة اللاعبين، كونه ببساطة نادي إيريك ميلكه أو نادي الدولة، فإنه استخدم كذلك كل الطرق غير المشروعة للفوز بتلك الألقاب؛ منشطات، تحكيم موجه، وغيرها. يقولون إن من أمِنَ العقاب أساء الأدب، وفي حالة بي إف سي دينامو، كان المسؤول عن المُعاقبة هو المُذنب ذاته. (12)

نادي الشعب

فريق يونيون برلين (غيتي)

"لا نُريد خنازير شتازي"

كانت تلك هي العبارة الأشهر لجماهير يونيون برلين في الديربي مع بي إف سي دينامو، في إشارة واضحة إلى دعم البوليس السري للأخير، إلى درجة أن الفريق الأول لبي إف سي دينامو كان يُلقَّب من قِبَل جمهور يونيون بـ"أحد عشر خنزيرا!"، وكما توقعت، لم يمر ذلك مرور الكرام، فقد قُوبلت تلك العبارات بعدد من الاعتقالات من قيادات البوليس السري والنظام الحاكم في أحيان كثيرة. (12)

كما تعلم، فالكرة والسياسة لا ينفصلان، وينطبق ذلك تماما على قصتنا اليوم. فمن وجهة نظر جماهير يونيون برلين وغيرهم، لم يكن فريق بي إف سي دينامو سوى رمز من رموز الفساد في البلاد، دمية أخرى من دُمى النظام، شأنه شأن معظم أندية الشرق، التي كانت تابعة بشكل أو بآخر للنظام الحاكم، بعضها تحت راية الجيش، وبعضها الآخر تحت راية شتازي. (12)(13)

من المرجح أنك بدأت الآن في التعاطف مع فريق يونيون برلين، ببساطة لأن تلك أحد طباعنا نحن البشر؛ نميل رغما عنا للمستضعفين في مواجهاتهم لأصحاب الأيادي العُليا. هذا هو شعورنا نحن، مَن ليس لهم علاقة تربطهم بهذا النادي، ولم يمروا قط على برلين أو الشرق الألماني، فما بالك إذن بمَن وُلد بتلك الحقبة، وعاشها فصلا تلو الآخر!

هؤلاء الذين شعروا آنذاك بأنهم مُستبعدون ومنبوذون؛ شعروا في جنبات ملعبهم الصغير بأنهم في بيتهم. كان يونيون جزءا منهم، وهم جزء منه، "يونيون" بالنسبة إليهم لم يكن مجرد نادٍ، بل كان رمزا حقيقيا لوحدة المغلوبين على أمرهم، وفي الوقت الذي كان فيه بي إف سي دينامو ملكا لشتازي، كان يونيون برلين ملكا للجميع، وبيتا لكل متمرد على سلطة شتازي ومكائد النظام.

رغم أن شتوتغارت احتل المركز السادس عشر من جدول ترتيب البوندسليغا 2018، كان يضم في صفوفه أسماء ليست بالهينة، كبنجامين بافار نجم بايرن الحالي وبطل العالم آنذاك. (غيتي)

دعنا الآن نقفز بالزمن بضعة عقود للأمام، تحديدا قبل خمسة أعوام من الآن. كان يونيون ينافس على الصعود من القسم الثاني للبوندسليغا، حيث حلَّ ثالثا في جدول الترتيب خلف كولن وبادربورن، وهو ما يعني تأهل الأخيرين مباشرة، وتأجيل حلم يونيون لمباراتين إضافيتين وفق نظام خروج المغلوب، ضرب فيهما الفريق موعدا مع شتوتغارت. لم يلعب يونيون قط في البوندسليغا، وهذه المرة كان الحلم أقرب من أي وقت مضى، فلم يصل الفريق إلى هذا المركز من قبل، وبالتبعية كانت هذه هي المرة الأولى التي يلعب فيها بمرحلة حاسمة كتلك. (14)(15)

بنظرة أولية للمباراة، لم تكن التوقعات في صالح يونيون؛ فشتوتغارت، ورغم أنه احتل المركز السادس عشر من جدول ترتيب البوندسليغا، كان يضم في صفوفه أسماء ليست بالهينة، كبنجامين بافار نجم بايرن الحالي وبطل العالم آنذاك، بالإضافة إلى ماريو غوميز وهولغار بادشتوبر نجمَيْ بايرن السابقين، ومنذ تطبيق نظام خروج المغلوب "البلاي أوف" في ألمانيا، لم تقوَ فِرَق الدرجة الثانية على كسب بطاقة الصعود من فِرَق البوندسليغا إلا في مرتين فقط من أصل 10، آخرها كانت قبل تلك المواجهة بسبع سنوات. (15)(16)

في الذهاب نجح يونيون في اقتناص تعادل ثمين بهدفين لمثلهما، ليُصعِّب المهمة على شتوتغارت في مباراة العودة بأفضلية أهدافه خارج قواعده، التعادل بلا أهداف أو بهدف لمثله يؤهله، وهو ما كان له بالفعل، في مباراة لو أُعيدت 10 مرات لفاز شتوتغارت بها جميعا، مباراة أُلغي فيها هدف للضيف، وكان نجمها الأول رافال غيكفيتش حارس مرمى يونيون. (15)(16)

معركة حُبِست فيها الأنفاس للثواني الأخيرة، في لحظة كاد فيها بافار أن يضرب الحلم في مَقتل، لكن أصابع غيكفيتش وقفت دون ذلك، في تصدٍّ كُتب به تاريخ ليونيون، وجاءت من بعده إحدى أكثر اللقطات شاعرية في ألمانيا بالعقد الأخير؛ ففي غضون ثوانٍ أصبحت المدرجات خاوية من الجماهير، لا، لم يُغادروا الملعب، بل نزلوا جميعهم إلى أرض الملعب في مشهد مهيب، يليق تماما بحجم الحدث، اهتزت فيه أرجاء ملعب آن دير آلته فورشتراي، معقل الفريق، كما لم تهتز من قبل! (16)

أما آن لصاحب البيت أن يدافع عن بيته؟

مرَّ يونيون برلين بعديد من الأزمات ليصل إلى ما وصل إليه، أزمات ربما لو حدثت مع نادٍ آخر لأهلكته، وربما كان الآن ليصارع في دوريات الهواة. لذلك، لم يكن التأهل للبوندسليغا تاريخيا فقط لأنه الأول من نوعه، بل كانت هناك لحظات فارقة بتاريخ النادي الحديث جعلت تلك اللحظة تبدو أكثر شاعرية مما هي عليه.

"بدون الجماهير، هذا النادي لا شيء"

(الصحفي الألماني جيكوب سويتمان (20))

ربما كانت الأموال مُعضلة كبرى ليونيون على مدار تاريخه، لكنه امتلك في المقابل مشجعين حقيقيين، وفي الوقت الذي كان غريمه الأزلي يُكمل 5000 مناصر بشق الأنفس في مبارياته. (غيتي)

بعكس معظم الأندية التي تمر بأزمات مفصلية، لم ينتشل يونيون من على حافة الهاوية أحد مليارديرات روسيا أو أميركا، أولئك الذين يشترون الأندية كشرائهم لوجبة بيغ ماك، والقادرون على ضخ أموال لا حد لها بمجرد أن تطأ أقدامهم تلك الأندية. في الحقيقة، كانت قصة يونيون مختلفة قليلا، فالنادي مُنح الخلاص بأيدي مُشجعيه. ماذا ستفعل إن هجم أحد اللصوص على منزلك؟ بالطبع ستدافع عن بيتك حد الاستماتة، يشبه ذلك كثيرا ما فعلته جماهير يونيون من أجل نادٍ لطالما رأته بيتا لها.

في عام 1990، هُدِم جدار برلين، وعادت ألمانيا لتتحد من جديد تحت راية واحدة، ليبدأ يونيون آنذاك رحلته من دوري القسم الثالث. كان يونيون على الموعد، واستطاع في تسعينيات القرن الماضي أن يحصل على المركز الأول بدوري القسم الثالث في 5 من 10 مواسم لعبها. هذه حقيقة وَقْعها غريب على الأذن، أليس كذلك؟ لماذا لم يصعد الفريق إلى دوري القسم الثاني إذن بواحدة من تلك المرات؟ (17)

تكمن الإجابة في افتقاد الفريق للأموال الكافية، ومروره بتخبطات وأزمات مالية كُبرى جعلت استقراره المالي على المحك. هي الأموال ذاتها التي كانت عائقا كبيرا أمام يونيون منذ عهد بي إف سي دينامو؛ الفريق الذي كان ينعم بالسلطة والأموال آنذاك. (12)

توالت الأزمات واحدة تلو الأخرى، ففي عام 2008 تعرَّض يونيون لصدمة كبرى، حيث أصبح وجوده في دوري القسم الثالث مهددا، لأن ملعبه، آن دير آلتي فورشتراي، وفقا للاتحاد الألماني لكرة القدم "DFB"، لم يعد يتمتع بالصلاحية الكافية لأن يكون ملعبا لأحد فِرَق الدرجات الثلاثة الأعلى، ويحتاج إلى ترميمه على أقل تقدير ليصبح مُتماشيا مع معايير الاتحاد، ولكي يفعل الفريق ذلك يحتاج بالطبع إلى الأموال، العديد منها في الحقيقة. (17)(18)

ربما كانت الأموال مُعضلة كبرى ليونيون على مدار تاريخه، لكنه امتلك في المقابل مشجعين حقيقيين، وفي الوقت الذي كان غريمه الأزلي يُكمل 5000 مناصر بشق الأنفس في مبارياته، كانت مدرجات آن دير آلته فورشتراي تكتظ عن آخرها بجمهور يونيون، الجمهور ذاته الذي سيساهم في إعادة تشييد معقل فريقه بيديه وبعرق جبينه. (18)

ما قام به جمهور يونيون كان فريدا من نوعه، حيث تطوع مشجعو الفريق واحدا تلو الآخر لأجل إتمام عمليات الترميم؛ 140 ألف ساعة عمل، ونحو 2000 متطوع، بعضهم جارت عليه الأزمة الاقتصادية وأفقدته وظيفته، فلم يجلس مكتوف الأيدي، بل عرض المساعدة على ناديه بشكل تطوعي، أما البعض الآخر فتخلوا عن حقهم المشروع بالنوم في بيتهم بأيام العطلة، واستغلوها لمساندة بيتهم الآخر بأزمته. هل هناك ما هو أكثر عاطفية من مشجع يستيقظ يوميا بالسادسة صباحا ليقضي ساعات من العمل التطوعي في بناء ملعب فريقه؟ (18)(19)

"إنها أكثر تجربة فريدة من نوعها في مسيرتي المهنية، يقضي المشجعون أوقات فراغهم وإجازاتهم في العمل بموقع البناء. إنهم ملتزمون تماما تجاه المجتمع، وستكون أي شركة سعيدة بوجود مثل هؤلاء العمال".

(سيلفيا فايسهايت، مشجعة قديمة ليونيون ومديرة مشروع إعادة بناء الملعب (18))

في عام 2004، تعرض يونيون برلين لخطر حقيقي بالإفلاس، وكالعادة، كان مشجعو الفريق هم أبطال الرواية. حيث قاموا آنذاك بتنظيم حملة "تبرع بالدم من أجل يونيون". (غيتي)

كانت سيلفيا واحدة من بين 6-10 مهندسين محترفين في الموقع، أما البقية فكانوا من مشجعي الفريق المتطوعين بوقتهم ومجهودهم، تماما كما لو أنهم يتقاضون أجرا نظير عملهم. ما فعله هؤلاء المشجعون وفّر على فريقهم مليوني دولار من الأموال التي خُصصت لترميم الملعب، التي بلغت 15 مليون دولار، وفّر الجمهور على ناديه أجر العمالة الذي بالطبع كان عبئا إضافيا بجانب مواد البناء وغيرها، ليعيدوا إحياء البيت الخَرِب، مُحوِّلين إيّاه إلى قطعة من الجمال. (18)

في الموسم التالي مباشرة، لم يخيب المدرب واللاعبون آمال مشجعيهم بعد دور البطولة الذي قدموه، ليقدموا بدورهم بطولة أخرى يظفر فيها الفريق ببطاقة الصعود، ليعود بذلك إلى دوري القسم الثاني، بعد أن قضى المواسم الخمسة الأخيرة بدوري القسم الثالث، كان من بينها موسم بالقسم الرابع حتى. (18)

لحظة، ألم يمنع الاتحاد الألماني الفريق من الصعود إلى القسم الثاني في تلك الفترة من الأساس؟ نعم، في الحقيقة ذاكرتك تعمل جيدا، لكن الاتحاد سمح ليونيون بالصعود أخيرا في موسم 2001-2002، قبل أن يتدمر الوضع المالي للفريق مرة أخرى فيما بعد. الآن، دعنا نُجبك الآن عن سؤال كنا طرحناه بالأعلى؛ نعم، في الواقع هناك ما هو أكثر عاطفية من بناء المشجعين لملعب فريقهم. (19)

في عام 2004، تعرض يونيون برلين لخطر حقيقي بالإفلاس، واحتاج آنذاك إلى 1.5 مليون يورو بشكل عاجل ليسدد ديونه، وكالعادة، كان يونيون قليل الحيلة، وكالعادة أيضا، كان مشجعو الفريق هم أبطال الرواية. قام المشجعون آنذاك بتنظيم حملة "تبرع بالدم من أجل يونيون"، نعم، لقد قرأت الجملة بشكلٍ صحيح. لاقت الحملة رواجا بين أوساط المشجعين، وتبرع العديد منهم، ثم قاموا بتحويل الأموال التي نالوها جرّاء ذلك إلى الفريق لإعطائه قُبلة الحياة. قصة تبدو أسطورية من الخارج، لكنها حقيقة وليست خيالا، لنادٍ فداه مشجعوه بدمائهم حقيقة لا مجازا. (17)

رئيس بخلفية مشجع

ما فعله جمهور الفريق لإنقاذه من الإفلاس، وبقدر ما كان شاعريا ومن القلب، لكنه لم يكن كافيا، ليأتي الآن دور بطل آخر من أبطال القصة؛ ديرك زينغلر، وهو رائد أعمال ينشط بمجال المقاولات. ديرك، وبمساعدة جمهور الفريق وحملة تبرعه، استطاع أن ينتشل الفريق من الإفلاس، ليصبح منذ ذلك الحين رئيسا للنادي. (17)

ربما تلك مفارقة أخرى من مفارقات القصة، فحتى عندما تدخّل أحد رجال الأعمال لحل الأزمة، كان رجل أعمال بخلفية مشجع، وقف بمدرجات الفريق من قبل، وتجرّع من الكأس المُرّة ذاتها. لم يكتفِ زينغلر بما فعله في 2004، فقد كان له دور كذلك في إعادة تشييد ملعب الفريق بعد ذلك في 2008، مُخصصا الأموال وساعات العمل رفقة جمهور الفريق الذي شمر عن ساعديه وتوافد بالمئات. (21)

استطاع ديرك زينغلر أن ينتشل فريق يونيون برلين من الإفلاس، ليصبح منذ ذلك الحين رئيسا للنادي.  (غيتي)

"علينا أن نجمع وراءنا كل هؤلاء الذين يشاركوننا رؤيتنا لكرة القدم، وللقيام بذلك يجب أن نظهر أكثر مما نحن عليه". (22)

جاءت تلك الكلمات على لسان زينغلر في عام 2016، تحديدا في الذكرى الـ50 لإنشاء النادي باسمه الجديد "يونيون برلين". الفريق كان يقدم مستويات جيدة على مدار سنوات في دوري القسم الثاني، ويبقى فيه بسهولة عاما بعد الآخر، لكن ماذا بعد؟ كانت تلك هي المُعضلة، دخل الفريق في منطقة الراحة. (22)

كان ذلك هو الأمر ذاته الذي انتقده مدرب الفريق في الفترة بين يوليو/تموز 2016 وديسمبر/كانون الأول 2017، ينس كيلر، مُعربا عن استيائه من افتقار النادي واللاعبين إلى الطموح الكافي. ما قصده زينغلر من كلماته كان واضحا؛ يحتاج هذا النادي إلى عمل أكبر ليلحق بركب الكبار. لحُسن الحظ، زينغلر كان رجلا على قدر كلمته، ليبدأ منذ ذلك الحين ثورة شاملة، تغيَّر بعدها كل شيء. (22)

لا أموال؟ لا مشكلة

"بالنسبة لي، وصول أوليفر رونرت إلى منصب المدير الرياضي هو إحدى اللحظات الفارقة. لقد انتقلنا من مجرد نادٍ صغير إلى نادٍ يملك رؤية واضحة لما نقف عليه في كل مرحلة".

في مايو/أيار عام 2018، عُيِّن أوليفر رونرت مديرا رياضيا ليونيون، لكن ذلك لم يكن منصبه الأول بأروقة النادي، وإنما ترقى إلى منصب المدير الرياضي بعد عام من العمل مديرا لقسم الكشافة. ربما ذلك ما يميز أوليفر من الأساس؛ رؤيته الثاقبة للمواهب، فقد عمل لـ6 سنوات مديرا لأكاديمية شالكة في إحدى أكثر فتراتهم ازدهارا وإنتاجا للمواهب، بالإضافة إلى مهنته الأبرز بوصفه كشافا، التي عمل بها لثلاثة أعوام مع شالكة على فترتين. (23)

كان أوليفر الوسيلة التي أخذت بيد أبناء يونيون نحو غايتهم، سائرين بالطريق ذاته الذي سارت به أندية كبرايتون وبرينتفورد، نسخة أخرى من "MoneyBall" وإنما على الأراضي الألمانية، الأمر بسيط؛ إن لم تكن تملك أموالا كافية، فعليك إذن أن تفكر بشكل مختلف وبرؤية مُغايرة. على قدر بساطك، مُد ساقيك.

بنظرة بسيطة على موسم صعود الفريق للبوندسليغا 2018-2019، سنجد أن اللاعبين الأكثر تأثيرا كانوا هؤلاء الذين ضمهم أوليفر إلى الفريق بأثمانٍ بخسة في عامه الأول، فمثلا انضم سيباستيان أندرسون هداف الفريق وأكثر لاعبيه مساهمة بالأهداف -17 مساهمة- في صيف 2018 دون أن يكلف خزينة النادي فلسا واحدا! (24)

لم يكن أندرسون الوحيد، حيث ساهم أربعة لاعبين آخرين بـ8 مساهمات تهديفية في موسم الصعود، ولم يكلفوا خزينة النادي مجتمعين سوى 1.75 مليون دولار. هؤلاء اللاعبون إما كانوا أسماء مهمَّشة في فِرَقهم بالبوندسليغا، وإما مواهب صاعدة في دوريات أقل كدوري القسم الثالث، وفي الحالتين هم أحوج ما يكون إلى فرصة، ولديهم ما يكفي من الدوافع لإثبات الذات، لذلك كان يونيون برلين بمنزلة تلك الفرصة لهم، وهم، بالمثل، كانوا فرصته لكتابة تاريخ جديد. (24)(25)(26)

كان أوليفر الوسيلة التي أخذت بيد أبناء يونيون نحو غايتهم.  (الفرنسية)

ربما كان الصعود للبوندسليغا يعني الكثير لمشجعي الفريق الذين طال انتظارهم، لكنه لم يعنِ أي شيء بالنسبة لأوليفر، الرجل الذي استمر على النهج ذاته منذ يومه الأول وحتى اللحظة. كل ما فعله أوليفر عقب الصعود هو توسيع النشاط قليلا، وعدم قصر التنقيب عن المواهب في ألمانيا فقط، بل توجَّه إلى دوريات أخرى كالدوري الهولندي والبلجيكي.

ربما أبرز مثال على ذلك هو هداف الفريق في الموسم الحالي شيرالدو بيكر، اللاعب السابق لأكاديمية أياكس، الذي وجد صعوبة في اللعب مع الفريق الأول، ليأخذ جولة في أندية هولندا قبل أن يضمه يونيون من أدو دين هاخ الهولندي بصفقة انتقال حر في صيف 2019. شيرالدو يملك 0.5 معدل مساهمة بالأهداف مع يونيون للمباراة منذ ذلك الحين، وسجَّل إجمالا 17 هدفا، وصنع 21 هدفا في جميع البطولات، لترتفع قيمته السوقية بما يعادل 13.5 مليون دولار في تلك الفترة. (27)(28)(29)

هذا النهج في الاعتماد على مجموعة متنوعة من المواهب منح الفريق مرونة كبيرة وقدرة على تجاوز الصدمات، في بعض الأحيان قد تعني خسارة لاعب مؤثر فقدان إيقاع الفريق بالكامل، لكنها بالنسبة لأوليفر لم تكن تعني سوى استبدال غيره به، بهذه البساطة، بل إن اللاعبين الذين يُستَقدمون لملء الفجوة ربما يقدمون إضافة أكبر من سابقيهم.

دعنا نُعطِك مثالا بارزا من أمثلة عدة لذلك؛ في صيف 2020 رحل أندرسون هداف الفريق لنادي كولن، في صفقة أنعشت خزائن النادي بـ6.5 ملايين دولار. لم يكتفِ أوليفر بتعويضه بلاعب واحد، بل باثنين، الأول ماكس كروز بصفقة انتقال حر من فناربخشة التركي، والثاني تايوو أوونيي مُعارا من ليفربول، قبل أن يتم شراؤه في الصيف الذي يليه بـ6.5 ملايين دولار. (30)(31)(32)

يكفي القول إن كروز كان هداف الفريق في موسم 2020-2021 في البوندسليغا، مُساهما في 17 هدفا في 18 مباراة فقط، أما أوونيي فكان هداف الفريق في الموسم الذي يليه بـ15 هدفا، قبل أن يرحل عن الفريق في الصيف الماضي بربح 14 مليون دولار. أن تضم لاعبين بأثمان بخسة ليقدموا إضافة تفوق أثمانهم بفارق ضخم ليس بالأمر السهل بالتأكيد، لكن ما هو أصعب من ذلك هو أن تقوى على تعويض رحيلهم كأن شيئا لم يكن. (24)(32)

يونيون اليوم يقبع في المرتبة الثالثة من جدول الترتيب، وينافس عملاقَيْ البوندسليغا بوروسيا وبايرن على اللقب، رغم أنه يملك إحدى أقل ميزانيات الصرف على الإطلاق في ألمانيا، بمتوسط صرف 14.25 مليون دولار في الموسم الواحد منذ بداية موسم صعوده، هذا الرقم الضئيل ليس فقط لا يُقارن بأرقام فِرَق الطليعة، وإنما لا يوجد سوى نادٍ واحد من أندية البوندسليغا الحالية أنفق أقل منه في تلك الفترة، وهو نادي بوخوم الصاعد حديثا في الموسم الماضي. (41)

المركب التي يقودها رئيسان.. لا تغرق

أورس فيشر مدرب فريق يونيون برلين. (رويترز)

تتحقق تلك المقولة عندما يكمل الرئيسان عمل بعضهما بعضا، وعندما يكون كلٌّ منهما على دراية بما يوكل إليه. ليحقق هذا الفريق ما حققه، كان هناك رجل آخر يقدم عملا استثنائيا بجانب أوليفر، وهو بالتأكيد أورس فيشر مدرب الفريق، الرجل الذي لا تهمه الأسماء بقدر ما يهمه صلابة الهيكل التكتيكي للفريق والعمل الجماعي.

ربما لهذا لم يؤثر رحيل أي لاعب على الفريق، وانسجمت البدائل سريعا في وقت قياسي، وحتى نضع الأمور في نِصابها، استخدم فيشر 76 لاعبا مختلفا في سنواته الخمس مع يونيون، دون أن يؤثر ذلك على فريقه بأي حالٍ كان. (33)

تُوِّج فيشر بلقب الدوري السويسري مرتين مع نادي بازل قبل قدومه ليونيون، وهو اللقب الذي لم يفز به الفريق من ذلك الحين، رغم ذلك، لم تكن تلك محطته الأبرز، بل كانت المحطة التي سبقتها مع فريق "Fc Thun"، وهي التي أقنعت مسؤولي يونيون أن هذا الرجل قادر على صناعة الفارق بأدوات بسيطة.

مع "Fc Thun" استطاع فيشر أن يصل بالفريق إلى دور مجموعات الدوري الأوروبي للمرة الأولى في تاريخه، ورغم أنه فاز بلقب الدوري مرتين مع بازل، فإن الموسم الذي فاز به بمدرب العام كان موسم 2014-2015 الذي حقق به المركز الرابع رفقة "Fc Thun"، وهو أفضل مركز حققه الفريق منذ موسم 2004-2005 عندما حل ثانيا. (34)(35)

أورس لا يرفع خطوطه ويضغط بحِدَّة عالية كمدربي المدرسة الألمانية أمثال كلوب ورالف رانغنيك، وربما كذلك لا يلعب أكثر كرة قدم جذابة في مرحلة الحيازة كأصحاب فلسفة اللعب التموضعي بيب غوارديولا ودي زيربي، لكنه في المقابل قادر على صناعة منظومة دفاعية خرسانية بأقل جودة متاحة، وهو الأمر الذي تميزت به كل فِرَقه بسويسرا، زيوريخ وبازل و"Fc Thun".

لم يختلف الأمر كثيرا مع يونيون، فهو ثاني أقل فريق استقبالا للأهداف في البوندسليغا حتى الآن، وهي الإحصائية ذاتها التي حلَّ فيها الفريق ثالثا بالموسم الماضي، وخامسا بموسم 2020-2021. تغيرت بعض الأسماء فقط، لكن هيكل فيشر بالمقابل كان يزداد قوة وصلابة! (36)

الأمر المُدهش أيضا هو أن الفريق حلَّ في المراتب ذاتها فيما يخص التسديدات المُستقبلة، مُدهش لأن فيشر ليس مدربا استحواذيا، أقصى متوسط استحواذ ليونيون في مواسم فيشر الأربعة بالبوندسليغا هو 44.7%، ما يعني أن الفريق يستقبل اللعب لفترات أطول ويدافع في مناطق منخفضة أكثر من الفِرَق الاستحواذية كبايرن ودورتموند ولايبزيغ، لكنه في النهاية يستقبل عدد تسديدات أكثر مما يستقبلونه بفارق طفيف. (37)(38)(39)

يعود ذلك بالطبع لهيكل الفريق المُحكم خلف الكرة، برسم 5/4/1 أو 5/3/2 الذي يصعب جدا اختراقه، والسر بالتأكيد ليس في الرسم ذاته بقدر التناغم في حركية الفريق كالجسد الواحد، وإغلاقهم المستمر للثغرات الناتجة عن ديناميكية اللعب، بمعدلات ركض تفوق خصومهم بـ5 كيلومترات في المتوسط لكل مباراة. (40)

يونيون برلين تحت الكرة بكتلة منخفضة "5/3/2". (مواقع التواصل)

يونيون برلين حالة تستحق الدراسة حقا، فريق واجه صعوبات بالجملة، وتوقع له الكثيرون ألا يخرج منها سالما، لكنه كان يخرج في كل مرة برواية أكثر إلهاما من سابقتها. حتى مسيرته في البوندسليغا توقع الجميع في البداية أنها مجرد طفرة وستنتهي بنفاد الدوافع المؤقتة، لكن يونيون فاجأ الجميع بكونه فريقا لا يتوقف عن الحلم وتجديد دوافعه.

مشروع تحققت به كل عوامل النجاح، بإدارة حكيمة، ومدير رياضي بعين كشاف خبير، ومدرب ولاعبين لا سقف لطموحهم، ومن خلف كل هؤلاء جمهور لا مثيل له يشحذ همتهم. ثُلّة من الحالمين اجتمعوا في مكان واحد في الوقت ذاته، وتعاهدوا على ألا تكون لأحلامهم أعمار افتراضية، وألا تُكتب للقصة نهاية إلا تلك التي تفوق خيالات الجميع.

نسمع كثيرا عن قصص الصعود، ونسمع بالقدر ذاته عن قصص الوفاء، لكن هذه ليست مثل تلك القصص. هذه قصة لن تراها مجددا على الأرجح، على أرض الواقع على الأقل. قصة لا ينقصها سوى الموسيقى التصويرية المناسبة لتحولها إلى إنتاج سينمائي ضخم، تتحقق فيه جميع عوامل الملحمة المثالية التي تجذب قلب المشاهد؛ البناء الدرامي، والحبكة، والنهاية السعيدة.

قصة تجعل كل مَن شاهدها ينهض من مكانه مصفقا عقب النهاية، لكن حدوث هذه القصة على أرض الواقع بالفعل يمنحها رونقا خاصا، وروحا بذاتها. قصة تجعل البدن يقشعر لسماعها، قصة الجماهير التي لم تبخل بشيء من أجل النادي الذي تعشقه، حتى ولو آل الأمر إلى دمائهم.

_________________________________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة