شعار قسم ميدان

كيف تُدافع فِرَق النخبة ضد التسديدات البعيدة؟ الإجابة: لا تُدافع!

دائما ما أردنا التسديد من بعيد حينما كُنا صغارا نلهو ونلعب، في مطاردتنا للكرة دائما ما أردنا الحصول عليها والتقدُّم باتجاه المرمى، ومن ثم إطلاق قذيفة مُدوية بعيدة حتى لو لم يكن ذلك قرارا سديدا، الشحن الذهني والعاطفي بعشرات وربما مئات اللقطات والصور الذهنية لتلك التسديدة وهي تُكلَّل بالنهاية السعيدة ربما لم يجعلنا نتخيَّل أي نهاية أخرى للتسديد بعيد المدى سوى في المرمى.

الحقيقة أن الأهداف بعيدة المدى سواء من اللعب المفتوح أو الكرات الثابتة دائما ما كانت مُمتعة وتتركنا بانطباع مختلف دونا عن غيرها بسبب وجود عُنصر المفاجأة وكسر حاجز المألوف، الأمر الذي ينتزع صرخاتك ويُجبرك أحيانا على القفز من كرسيك والإمساك برأسك، وذلك الرصيد العاطفي المتراكم تحديدا هو ما يترسَّخ في أذهاننا للدرجة التي لا تجعلنا نكل أو نمل من التجربة كلما وطأت أقدامنا الملاعب في ساعة لم الشمل، لكن هل كان الأمر مُجديا بالفعل طوال ذلك الوقت؟ أم أننا ما زلنا أسرى لانحيازاتنا العاطفية؟

سراب

بما أننا نتحدث عن التصويب بعيد المدى، فإن ذلك سيقودنا تلقائيا إلى البريميرليغ، الدوري الذي دائما ما كان مرتبطا بتلك الأهداف. وفقا لشبكة "سكاي سبورتس"، في موسم 2008-2009 كان مجموع تسديدات فِرَق الدوري الإنجليزي الممتاز من خارج الـ18 يتجاوز 5000 تسديدة، بينما ظل العدد ينخفض بوضوح بمرور الوقت حتى وصل إلى 3693 تسديدة بعد مرور عشر سنوات وتحديدا في موسم 2018-2019. (1)

بالنظر إلى قذائف جيرارد ولامبارد تحديدا، نخشى ألا يكون ذلك دقيقا أيضا، لأنك قد تتفاجأ عندما تعلم أن كلا اللاعبَيْن معا أحرز في البريميرليغ 12 ضربة حرة فقط. (غيتي)

ولمزيد من التفصيل، كان معدل التسديد من خارج المنطقة يفوق 13 تسديدة للمباراة الواحدة موسم 2008-2009، بينما أصبح في 2018-2019 أقل من 9 تسديدات. بات واضحا أن معدلات التصويب بعيد المدى تنخفض تدريجيا، ومن حق الجميع الآن أن يشعر بالأسى جراء ذكرياته المهدرة ومخزون الصور الذهنية الراسخ الذي يملؤنا بالحنين للماضي، حيث قذائف جيرارد ولامبارد!

بالنظر إلى قذائف جيرارد ولامبارد تحديدا، نخشى ألا يكون ذلك دقيقا أيضا، لأنك قد تتفاجأ عندما تعلم أن كلا اللاعبَيْن معا أحرز في البريميرليغ 12 ضربة حرة فقط. ووفقا لموقع "90Min"، فإن لامبارد أحرز 41 هدفا من خارج المنطقة بنسبة 23.16% من أهدافه، بينما أحرز جيرارد 33 هدفا بنسبة 27.5% من أهدافه. وللأسف لم نجد إحصائية تفصيلية لمقارنة عدد الأهداف بعدد المحاولات بعيدة المدى لنتعرَّف على نسبة التحويل. (2) (3)

لكن يمكن أن نأخذ مؤشرا آخر من الرقم الذي عرضه موقع "Squawka"، الذي يُشير إلى أن أكبر عدد من الأهداف سُجِّل من خارج الـ 18 كان 9 أهداف، والمُسجَّل باسم الويلزي جاريث بيل في موسم 2012-2013، يليه الثنائي مات لو تيسيير من ساوثهامبتون، وجيمي فلويد هاسلبانك من تشيلسي بـ 8 أهداف. لا لامبارد، ولا جيرارد، ولا حتى سكولز، لأنهم ببساطة موجودون فقط داخل مُخيِّلاتنا. (4)


بسبب عدم وفرة إحصاءات محاولات جيرارد ولامبارد، يمكننا اعتماد فيليب كوتينيو بوصفه عينة. لاعب ليفربول السابق متخصص بالتسديد ومعروف بتفضيلاته بعيدة المدى على وجه الخصوص، أثناء وجوده في البريميرليغ مع ليفربول أحرز كوتينيو 19 هدفا من خارج الصندوق. حتى أكتوبر/تشرين الأول 2017، كان كوتينيو يتصدَّر ترتيب لاعبي الدوري بـ17 هدفا، لكن الأهم من ذلك هو أنه قد احتاج إلى 284 تسديدة ليُحرِز هذا العدد، بنسبة تحويل مُزرية (%5.99)، لكن هل لاحظناها أم أننا وقعنا تحت تأثير جمال الهدف الذي يُسجَّل من كل 30 إلى 50 تسديدة؟ (5)

سيادة المنطق

حسنا، لقد تطوَّرت كرة القدم كثيرا خلال العقدين الماضيين، أصبحت أكثر تعقيدا من ذي قبل، وإحدى الزوايا التي تطوَّرت فيها اللعبة كثيرا هي زاوية التفسير، لعلنا الآن أكثر موضوعية، وأقل عُرضة لشراء التابوهات والوقوع في الفخاخ والخرافات، ربما نملك تفسيرا أكثر منطقية حاليا، وجزء كبير من ذلك راجع بالأساس إلى التيارات المعاكسة والثورات التكتيكية التي أعادت تأويل المشهد في تلك الفترة، والسبب الآخر الذي يمكن رصده هو التطور التكنولوجي ودخول علوم البيانات والرياضيات إلى المستطيل الأخضر.

إحدى أكبر الأدوات التي غيَّرت مشهد اللعبة خلال العقد الماضي هو مقياس "الأهداف المُتوقَّعة" الذي غيَّر كثيرا من الأساليب الهجومية لتهدف في النهاية إلى صناعة فرص "عالية الجودة"، والجودة هنا إشارة إلى مدى قُرب المكان من المرمى، وإذا كنت جديدا هنا، فلا يُمكننا حرمانك من تذكير بسيط؛ تقيس الأهداف المُتوقَّعة (xG) جودة الفرصة عن طريق حساب احتمالية تسجيلها من موقع معين على أرض الملعب خلال مرحلة اللعب. تستند هذه القيمة إلى عدة عوامل لحظة التسديد، وتُقاس جودة الفرصة على مقياس يتراوح بين صفر وواحد، حيث يُمثِّل "الصفر" فرصة يستحيل تسجيلها، ويُمثِّل "الواحد" توقُّع أن يُسجِّل اللاعب في كل مرة. (6)

على سبيل المثال؛ فرصة من خط المنتصف من غير المُرجَّح أن تكون بخطورة فرصة من داخل منطقة الجزاء، وإذا افترضنا أن تلك الفرصة من داخل الصندوق كانت تساوي 0.1 فهذا يعني أن من المُتوقَّع أن يُسجِّل اللاعب العادي هدفا واحدا من كل عشر تسديدات في هذه الوضعية، ما يعني أن احتمالية التسجيل تساوي 10%، وبذلك الشكل يمكننا تحديد احتمالية تسجيل اللاعب من كل موقف. (7)

الآن يقفز في عقلك التفسير الأهم لانخفاض معدل التصويب من بعيد خلال السنوات الأخيرة، بالفعل، مقياس الأهداف المُتوقَّعة كان السبب الأكبر وراء ذلك، لأن احتمالية دخول تلك التسديدات ضئيلة للغاية، ومن ثم تزيد تكلفة الفرصة البديلة، بالتالي لا يوجد سبب منطقي في خسارة الاستحواذ مرارا وتكرارا، ووضع الفريق في مواقف خطرة في الوقت الذي يسعى فيه المدربون إلى تحقيق الاستقرار والحد من المرتدات من خلال تأمين الحيازة وتشجيع اللاعبين على اتخاذ قرارات آمِنة، ومن جهة أخرى لا يوجد سبب وجيه يدفع اللاعب إلى إهدار مجهود زملائه مرة تلو الأخرى في محاولات بائسة، هو أكثر مَن يدرك مدى بؤسها لأنه مهما بلغت قدراته، فإن نسبة تحويله لهذا النوع من التسديدات إلى أهداف تظل ضئيلة.

إذن هل نحن على مشارف انقراض التسديد من بعيد؟ الإجابة هي لا، للأسباب ذاتها، لأن التطور المستمر للعبة من الناحية الخططية وتعقُّد الطرق والأساليب الدفاعية بمرور الوقت يدفع الفِرَق المهاجمة في كثير من الأحيان إلى التصويب من بعيد، بوصفه حلا قائما نتيجة فشل اختراق تنظيم الخصم وصناعة فرص عالية الجودة، وهنا يمكننا التساؤل؛ ماذا عن مناقشة العملية من منظور دفاعي؟ هل انحصرت المناقشة على المنظور الهجومي فقط؟

بالطبع لا، في النهاية كل الإجراءات الهجومية تقابلها أخرى دفاعية من المنافس، والطريقة المُتَّبَعة للتعامل مع التصويب بعيد المدى هي ببساطة محاولة منع التسديدة من الأساس من خلال الضغط على المُسدِّد لتقليص مساحة التسديد ابتداء أو اندفاع اللاعبين رميا بأنفسهم في محاولة التصدي لها، خاصة إذا كانت التسديدة قريبة نسبيا من حدود المنطقة حيث توجد الخطورة، لذلك يَعتبر المدربون تلك المساحة حدًّا لتراجع المدافعين يتعيَّن عليهم الخروج عنده والتداخل لمنع تلك التسديدات، لكن بإعادة تأويل الموقف وفقا لكل التطورات التي شهدتها اللعبة مؤخرا، ربما هنالك طريقة أخرى للدفاع ضد تلك التصويبات، والأهم أنها قد تكون أكثر منطقية.

معمل ليفربول

كان هدف لاوتارو مارتينيز، لاعب إنتر ميلان، ضد ليفربول في دوري الأبطال الموسم المنصرم محل جدل كبير بسبب الطريقة التي دافع بها فيرجيل فان دايك ضد تسديدة لاوتارو، خاصة أن الكرة كانت على مشارف المنطقة بينما لم يحاول الأخير اعتراضها، وذلك تحديدا هو ما استوقف المحلل "كريس سامرسيل"، لأنهم في ليفربول لا يتركون شيئا للمصادفة، حيث يملك النادي أحد أفضل كوادر التدريب وتحليل الأداء في العالم إن لم يكونوا الأفضل، وثانيا أن ذلك السلوك جاء من أفضل مدافع في العالم، وهو ما يُلزمنا بالتفكُّر ومحاولة مجاهدة سيل الإجابات السهلة، وذلك تحديدا ما نجح فيه سامرسيل. (8)

لحظة تسديد لاوتارو ضد ليفربول في إياب دور الـ 16 من دوري أبطال أوروبا 2021-2022 (وسائل التواصل)

عاد كريس إلى جميع التسديدات من خارج المنطقة التي استقبلها ليفربول منذ بداية الموسم، ورصد السلوكيات الدفاعية التالية: أولا أن الضغط على المُسدِّدين عادة ما يكون خلفيا أو جانبيا لمضايقة المُسدِّد، وثانيا أن المدافعين غير مهتمين بعملية التصدي للتسديدات، وكل ما يحاولون القيام به فقط هو تحييد أنفسهم بل والابتعاد عن مسار التسديدة، وثالثا وأخيرا أنك لن تجد لاعبا من ليفربول يرمي بنفسه نحو المُسدِّد في محاولة التصدي للتسديدات من خارج المنطقة.

كان ذلك ما استنتجه كريس من تحليل الفيديو، بينما تؤكد لغة الأرقام أن هناك أمرا مُتَّبَعا في ليفربول، حيث يملك الفريق أقل نسبة تصدي للتسديدات بعيدة المدى في الدوري خلال الموسم الماضي (15%) بفارق كبير عن أقرب منافسيه برينتفورد (26%)، وهو ما يجعلنا نتساءل: لماذا يدافع ليفربول بهذا الشكل الغريب؟

حسنا، هناك عدة أسباب لذلك، أولها هو السماح بالتسديدات الرديئة. لقد عرفنا الكثير عن مقياس الأهداف المُتوقَّعة واتخاذ خيارات أفضل للتسديد في الحالة الهجومية، لكننا لم نتعلَّم بعد كيفية استخدام تلك المعرفة في الأساليب الدفاعية، من المنطقي أنه إذا كنت تُدافع عن المساحات الأخطر، فإنك ستسمح للخصوم بالتسديد من مواقع منخفضة القيمة. كونك مُدافعا، عندما تُقرِّر الخروج لصد التسديدات، فإنك حتما ستترك مساحة خلفك يمكن استغلالها من مهاجمي الخصم ومن ثم إتاحة الفرصة لخصمك لخلق مواقف تسديد أفضل، كما أنك تُقصي نفسك من احتمالية الفوز بالكرات الثانية بعد تصدي حارس المرمى.

ثاني الأسباب هو مساعدة حارس المرمى؛ فمن خلال الزُّهد في محاولة التصدي للتسديدات فإن المدافعين يسمحون بمجال رؤية أفضل لحارس المرمى، بدلا من تشكيل الحواجب (Screens) والتشويش على الحارس بشكل غير مُتعمد، وكلما حظي الحارس بمجال رؤية أفضل، كانت استجابته أسرع للتسديدة ومن ثم تزيد احتمالية تصديه لها، لذلك يضغط لاعبو ليفربول بشكل خلفي وجانبي على المُسدِّد لتشتيته مع ضمان توفر مجال رؤية أفضل للحارس، وإذا كان ذلك الحارس من النخبة، فمن الأفضل أن تدعه يقوم بما يُجيده بدلا من النيابة عنه!

ثالث الأسباب هو الحفاظ على الأفضلية الحركية؛ فعبر ترك مهمة التصدي للحارس، فإن تركيز المدافعين ينصب كُليًّا على منع اختراقات الخصم، بالتالي يصبح من الصعب خداعهم بالتمويه الذي عادة ما يكون فعالا على حدود المنطقة، وقتها لن يستطيع المهاجم خداع المدافع لأنه لن يحاول تثبيت نفسه للتصدي، بالتالي لن يخسر أفضليته الحركية لصالح المهاجم.

السبب الرابع هو أن تلك الطريقة تسمح بتجنُّب المفاجآت؛ من المبادئ الدفاعية الفردية أو الجماعية هو "جعل اللعب مُتوقَّعا" من خلال توجيه الخصم لاتجاهات أو خيارات بعينها يدافع فيها الفريق بشكل أفضل، ومن الواضح أن عملية التصدي للتسديدات تتناقض مع ذلك المبدأ، لأنك لا يمكنك توقُّع مآل التسديدة بعد التصدي لها، ومن ثم تصبح هناك فرصة للدخول في مواقف فوضوية في مناطق خطرة قد لا تكون في صالح الفريق المُدافع، وبذلك يفقد الفريق سيطرته على الموقف برُمَّته.

ومن خلال عدم التصدي للتسديدات بعيدة المدى، فإن ليفربول لا يحد فقط من المفاجآت ولكن من الهدايا أيضا، إذ لا يتداخل مدافعوه مع تسديدات الخصم التي غالبا ما تنتهي في المُدرجات، بالتالي يحد الفريق من عدد الركنيات ضده التي أصبحت من أهم مصادر التسجيل مؤخرا، حيث بلغت نسبة التسجيل من الركنيات نحو 12.3%، ومن الكرات الثابتة عموما 31% من إجمالي الأهداف المُسجلة في الدوريات الخمس الكبرى. (9)

من المغري في النهاية أن نستنتج أن ذلك الأسلوب "أفضل" من غيره، لكن ذلك لم يكن الهدف، أولا لأن ذلك لم يُختبر كفاية لتقييمه كاملا بعد ظهور أفكار مضادة له، وثانيا لأن الهدف من التقرير كان خوض المناقشة من منظور دفاعي والتعرف على الأسلوب الجديد الذي يتبعه ليفربول.

بالمناسبة قد لا تكون تلك مساحة مثيرة بالنسبة للكثيرين، لكن وجب إلقاء الضوء على قدرة ليفربول على إعادة التفكير المستمر في كثير من جوانب اللعبة، وإعادة تأويلها في ضوء المعارف الحديثة، حيث يُبرِز ذلك قدرة الفريق الكبيرة على صُنع طفرات تنافسية في الجوانب الدقيقة للعبة، وهذا هو ما يصنع الفارق في المستوى العالي، حيث تظل هوامش التطور ضيقة ومحدودة بشدة.

_____________________________________________

المصادر:

  1. هل التسديدات بعيدة المدى خيار ناجح
  2. إحصاءات ستيفن جيرارد
  3. أكثر 5 لاعبين تسجيلا للأهداف من خارج المنطقة في تاريخ الدوري الإنجليزي
  4. أكثر مَن سجَّل من خارج المنطقة في موسم واحد في الدوري الإنجليزي
  5. مَن هو أفضل هداف من خارج المنطقة في الدوري الإنجليزي؟
  6. ما الأهداف المتوقعة؟
  7. ماذا تعرف عن الأهداف المتوقعة؟
  8. هل يكسر ليفربول "تابوه" دفاعيا مقدسا؟
  9. دفاعا عن التسديدات طويلة المدى
المصدر : الجزيرة