شعار قسم ميدان

سلاح ليفربول السري.. "ميدان" يحاور عالِم الأعصاب الذي استعان به "كلوب" لإحراز الأهداف

يورغن-كلوب

غالبا ما تتسم مواجهات ليفربول وأرسنال بشيء من الإثارة. صحيح أن الريدز تمتعوا بأفضلية ملحوظة خلال الأعوام الماضية، لكن مبارياتهم مع الغانرز لا تخرج بصورة مُملة في الغالب. وربما لهذا السبب اختار "يورغن كلوب" لقاء فريقه بالنادي اللندني في كأس الرابطة لدعوة ضيفيه لزيارة ملعب الأنفيلد. أتى الضيفان بحماس كبير، ولم يخذلهما اللقاء على أي حال، إذ كانا على موعد مع مباراة شهدت تسجيل عشرة أهداف دفعة واحدة.

 

لم ينتهِ التشويق مع صافرة النهاية، حيث احتكم الفريقان لركلات الجزاء بعد التعادل في النتيجة 5/5، ليتمكَّن ليفربول من انتزاع بطاقة التأهُّل في الأخير. طبعا يمكنك تخيُّل كيف كانت الأجواء مشتعلة داخل مدرجات ملعب الريدز التاريخي، وهو ما شعر به الضيفان مع كل هجمة، بل مع كل مراوغة، وكل عرقلة، ليخرجا من الملعب برغبة أكبر في التعاون مع النادي الإنجليزي.(1)

شابان ألمانيان لا يتجاوز عمر أيٍّ منهما الثلاثين، أسَّسا معا شركة ناشئة تحمل اسم "Neuro 11" تستهدف رفع الكفاءة الذهنية للرياضيين

لا بد أنك تتساءل الآن عن هوية الضيفين. الأول اسمه "نيكلاس هويسلر"، والثاني يُدعى "باتريك هونتشكي"، وهما شابان ألمانيان لا يتجاوز عمر أيٍّ منهما الثلاثين، أسَّسا معا شركة ناشئة تحمل اسم "Neuro 11" تستهدف رفع الكفاءة الذهنية للرياضيين.(2) وقد تعرَّف "كلوب" ومساعده "بيب لييندرز" إلى عملهما، وقرَّر مدرب ليفربول الاستفادة من تقنيات الشركة على مستوى إحراز الأهداف، ولم يكن رهانه خاطئا على الإطلاق.

 

أخبرناك للتو أنها شركة ناشئة، وكأي شركة ناشئة فهي تتكتم على أسرار عملها، لذلك لا يقوم "نيكلاس" و"باتريك" بالكثير من الأحاديث الصحفية، لكننا نجحنا في إقناع الثنائي بإجراء حوار صحفي هو الأول لأي شبكة إعلامية في العالم العربي والشرق الأوسط، فهل أنت مستعد لمعرفة كيف تحوَّلت أفكار الشابين إلى سلاح يُهدِّد خصوم ليفربول؟

 

مَن أنتما؟

قبل أن نتعرَّف إلى طبيعة تعاون الثنائي مع ليفربول، كان من الضروري أن نتعرَّف إليهما، لذا كان سؤالنا الأول متوقَّعا: مَن أنتما؟

 

نيكلاس: "اسمي نيكلاس هويسلر، درست العلوم في جامعة أوتاوا بكندا، ثم حصلت على درجة الماجستير في علم الأعصاب من جامعة بون بألمانيا، وأكملت الدراسة في هذا التخصص حتى نلت درجة الدكتوراه. أعتبر نفسي محظوظا جدا لأني أقمت في عدّة دول خلال حياتي، عشت في بوروندي، والسويد، وكينيا، وبولندا، وكندا، وأميركا، وطبعا ألمانيا".

 

باتريك: "مرحبا، اسمي باتريك هونتشكي. أنا لاعب كرة قدم سابق، تدرَّجت بين فِرَق الناشئين والشباب لنادي إنيرجي كوتبوس الذي كان يشارك في البوندزليغا حينها، حتى وصلت إلى المشاركة في الدوري الألماني للشباب. بعد ذلك، حصلت على درجة الماجستير في علوم الإدارة، وتحديدا إدارة الشركات والحوكمة، ثم كان لدي فرصة المساهمة في بعض الأعمال، قبل أن نؤسس شركتنا: Neuro 11".

Neuro 11

بدا واضحا أن السيد "هونتشكي" يمتلك خبرة لا بأس بها في كرة القدم، وبالتالي ليس من الغريب أن يؤسس شركة تسعى لأن تجد موطئ قدم في عالم الرياضة، لكن ماذا عن "نيكلاس"؟ ما الذي قد يجمع شابا حصل على أعلى الدرجات الأكاديمية في علم الأعصاب بكرة القدم؟ سألناه، فبدَّد حيرتنا بإجابته.

 

نيكلاس: "كرة القدم كانت لعبتنا المفضلة طوال الوقت، لذلك كنت سعيدا بنشر عدد من الأوراق البحثية المرتبطة باللعبة خلال دراستي. على سبيل المثال، هناك أبحاث عن النشاط الذهني للاعبين حين يسجلون الأهداف. بعدما نلت درجة الدكتوراه، كان لدي فرصة قضاء بعض الوقت في العمل داخل نادي لايبزيغ، وكذلك الاتحاد الألماني لكرة القدم، كي أُلقي نظرة عملية عما يدور داخل الأندية والمؤسسات المحترفة".

 

الجملة الأولى من إجابة دكتور "هويسلر" دفعتنا لأن نطرح سؤالا جديدا: ما نعرفه هو أن مجال اهتمامكما هو الكفاءة الذهنية للرياضيين عموما، فهل لعب اهتمامكما بكرة القدم على وجه الخصوص دورا في اختيار الخدمات التي تُقدِّمها شركة "Neuro 11″؟

 

هنا اندفع نيكلاس بالإجابة: "بكل تأكيد! كرة القدم هي شغفنا وهويتنا. هل تعلم أنني تعرَّفت إلى باتريك أساسا من خلال اللعبة؟ كان ذلك قبل 23 عاما داخل أحد معسكرات الكرة. هذه اللعبة تجمع الناس معا، وذلك المزيج الرائع من الفوز والخسارة في المباريات هو ما يجعلها لعبة ممتعة للغاية.

 

يمكنني بحكم الدراسة والتخصص أن أخبرك لماذا تشعر بالإثارة حين تُسجِّل هدفا، سواء كنت تركل علبة فارغة في سلة المهملات أو تحرز ركلة جزاء حاسمة في مباراة مهمة جدا مثل نهائي بطولة ما، وهو أن آليات دماغك ستعمل في الموقفين بصورة متشابهة ومتقاربة جدا. أليس ذلك مذهلا؟".

 

باتريك: "أريد أن أُضيف شيئا، نحن لدينا خبرة وتجربة مع ممارسة كرة القدم على وجه الخصوص، وهو ما يُمثِّل جزءا من حبنا لمشاهدة المباريات حاليا، فنحن نعرف بعض الشيء عما يدور في الملعب. امتلاك هذه الخبرة كان عاملا مهما ومساعدا بالنسبة لنا كفريق عمل، خصوصا حين نُعِدُّ حصّة تدريبية لتطبيق أفكار وتقنيات الشركة على أرض الواقع مع اللاعبين".

 

يظهر من خلال إجابات "نيكلاس" و"باتريك" أننا أمام شابين مهووسين بكرة القدم، بدأت صداقتهما من خلالها، ثم فرَّقهما التخصص العلمي والدراسة، قبل أن يجتمعا من جديد لتطبيق ما لديهما من أفكار وتقنيات من أجل تحسين أداء الرياضيين. وحين نجحا في تأسيس شركة تُقدِّم هذه الخدمة، كان من البديهي أن يمنحا لعبتهما المفضلة، كرة القدم، أولوية أكبر. ربما حان الوقت الآن لنتعرَّف أكثر إلى ما تُقدِّمه الشركة.

 

هل تتحكم في عقلك؟

Neuro 11

حين زُرنا موقع الشركة عبر شبكة الإنترنت، اكتشفنا أنهم اختاروا شعارا يحمل دلالة مهمة، يقول: "تحكَّم في عقلك، حين تكون بصدد أمر مهم".(3) ليس المقصود هنا هو قرار الاستقالة من وظيفتك، أو تغيير محل إقامتك، أو قيادة سيارتك في هذا الزحام الذي يحاصرنا دون أن تفقد صوابك. صحيح أن كلها أمور مهمة، وتحتاج إلى أن تتحكم بعقلك، لكن "Neuro 11" لن يتمكَّنوا من مساعدتك للأسف. فبعد أن تقرأ هذا الشعار، ستجد بعده جملة بخط أصغر: "نُقدِّم تدريبا للرياضيين المحترفين قائما على البيانات العصبية".

 

إذن هي شركة تُحلِّل البيانات العصبية للرياضيين، وبناء على تلك البيانات تُعِدُّ برنامجا تدريبيا لرفع الكفاءة، لكن متى وكيف قرَّر الشابان إنشاء شركة بهذا التخصص الدقيق؟

 

يُجيبنا دكتور هويسلر ويقول: "الفكرة لم تتشكَّل إلا بعد أن حصلت على درجة الدكتوراه عام 2018، إذ قابلت باتريك لتناول القهوة، وأخبرني أن بإمكاننا أن نُقدِّم شيئا جديدا وفريدا في عالم كرة القدم الاحترافية بفضل خلفيتي العلمية.

 

بصراحة لم أقتنع برأيه تماما في البداية، لكن بعد فترة العمل التي أخبرتك عنها مع نادي لايبزيغ، ثم الاتحاد الألماني، لمست الواقع بصورة أفضل. هنا أدركنا أن هناك إمكانية للاستفادة من تقنيات علم الأعصاب الحديثة في كرة القدم، وبالتالي أسَّسنا الشركة".

 

استفاد "باتريك" من تجربته السابقة مع الكرة الألمانية، إذ كان على دراية بما يخضع له اللاعبون من تدريبات. استعان كذلك بأصدقائه الذين ينشطون في أندية البوندسليغا ودوري الدرجة الثانية، وسألهم عمّا يظنون أنهم بحاجة إلى إضافته إلى مكونات التدريب في الوقت الحالي.(4) كان يعرف أن هناك أندية تهتم بالتمرينات الذهنية، لكن كان يؤمن أن تخصص "نيكلاس" الدقيق في علم الأعصاب سيصنع فارقا ينعكس على جودة اللاعبين، فقط إذا نجح هو وصديق عمره في تقديم خدمة تلائم عالم اللعبة.

 

بعد ذلك، سألنا السيد "باتريك" عن طبيعة الخدمات التي تُقدِّمها شركة "Neuro 11″، وكذلك الجمهور الذي يستهدفون تقديم الخدمة إليه.

أجابنا قائلا: "نحن نُقدِّم خدماتنا للاتحادات والأندية وكذلك الرياضيين المحترفين، أما بالنسبة لطبيعة خدماتنا، فنحن نُقدِّم في الوقت الحالي أمرين؛ الأول هو تدريب لتحسين القوة الذهنية على أحدث طراز علمي وعملي، والثاني هو مجموعة من الدورات والندوات عبر الإنترنت لشرح طبيعة الدماغ وآليات عمله.

 

هذا بالإضافة إلى دورات نعمل عليها الآن لكل المهتمين بدور الجانب الذهني في تحسين الكفاءة الرياضية، مهما كانت خلفية أو معرفة الشخص المهتم. نحن متحمسون جدا لتلك الدورات التعريفية، إذ نرى أن جزءا أساسيا من مهمتنا هو منح الجميع فرصة اكتساب المعرفة الصحيحة عن الذهن.

 

صدِّقني هناك الكثير من المعلومات المهمة عن آلية عمل الذهن، وسيكون من المثير جدا أن يدرك كل شخص حجم الفائدة التي ستعود عليه في حياته اليومية من خلال معرفته تلك المعلومات، خصوصا إذا كان رياضيا محترفا".

 

وبما أن "هونتشكي" قد أشار إلى أهمية القوة الذهنية في الرياضة، فعليك أن تعرف أن هناك أبحاثا وتجارب علمية أُجريت على ألعاب مثل الغولف وكذلك الرماية بأنواعها، وأكَّدت نتائجها هذا الارتباط الوثيق بين عمل الدماغ والإجادة الرياضية. شكَّلت هذه النتائج حافزا أكبر لـ"باتريك" وصديقه، فنجح الثنائي في إقناع الحكومة الألمانية بتمويل مشروعهم بمساعدة جامعة بون، ثم شرعا في تصميم هذا البرنامج التدريبي الذي سينال إعجاب مواطن ألماني يُغني له جمهور ليفربول مساء كل سبت.(5)

 

روجر فيدرير والكرات الميتة

LONDON, ENGLAND - JULY 07: Roger Federer of Switzerland plays a backhand during his men's Singles Quarter Final match against Hubert Hurkacz of Poland on Day Nine of The Championships - Wimbledon 2021 at All England Lawn Tennis and Croquet Club on July 07, 2021 in London, England. (Photo by Julian Finney/Getty Images)
روجر فيدرير

هناك أكثر من مصطلح في قاموس كرة القدم يحمل قدرا من الغرابة، هل سألت نفسك من قبل لماذا يُلقَّب المهاجم بوصف عسكري محض مثل رأس الحربة؟ أو لماذا حين يُخطئ ذلك المهاجم خطأ بسيطا يُتَّهم بجُرم كالتسلل كأنه مُهرِّب مخدرات؟ أو لماذا هناك ما يُسمى بالكرات الميتة (dead balls)، وكأن هناك في المقابل كرات أخرى تدب فيها الروح؟

 

ربما لا نعرف الإجابة عن السؤالين الأول والثاني، ولكن يمكننا استنتاج إجابة الثالث. فالمقصود بالكرات الميتة هي الضربات الثابتة، والكرات الركنية، وكذلك ركلات الجزاء، حيث تتوقَّف الكرة عن الحركة والركض، وترتكز في نقطة محددة تنتظر أن يركلها اللاعب ليُعيد إليها الحياة من جديد. كانت تلك الكرات الميتة مثار اهتمام أصدقائنا "نيكلاس" و"باتريك"، وقد عكفا على تصميم وبناء البرنامج التدريبي الخاص بالشركة لتحسين دقة اللاعب الذي يُنفِّذ تلك الكرات، كي تتحوَّل الكرة الميتة إلى حية ومن ثم إلى هدف.

 

كان الفضول يملؤنا ونحن نسأل دكتور "هويسلر": لماذا تُركِّز شركتكم على الكرات الثابتة تحديدا؟

 

نيكلاس: "هذا لسببين؛ أولا وقبل أي شيء، فأي كرة ثابتة تُحتِّم عليك أن تقف ساكنا للحظة معينة قبل التنفيذ. في تلك اللحظة، يمكن لنا قياس وتتبُّع النشاط الذهني للاعب عبر أجهزة إلكترونية متطورة. أما السبب الثاني فهو أن الأبحاث العلمية أظهرت أن بإمكاننا استغلال تلك اللحظة تحديدا في تحسين دقة التنفيذ عن طريق التحكم بالذهن.

 

بالنسبة لأي ضربة ثابتة، فهناك جانب يتعلق بمهارة اللاعب بالتأكيد، ولكن هناك جانب آخر لا يقل أهمية يتعلق بالعقل، وهذه هي المساحة التي يستهدفها التدريب الخاص بنا".

 

تبدو هذه الإجابة منطقية للغاية، حتى بالنسبة لغير المختصين من أمثالنا. فكِّر في الأمر قليلا، وتخيَّل هذه اللحظة التي كان ينتظر فيها "ديفيد بيكهام" صافرة الحكم قبل تنفيذ تلك الركلة الثابتة أمام اليونان، إذ كانت المباراة توشك على النهاية بنتيجة 2/1 لصالح اليونان، ومع هذه النتيجة يتعقَّد موقف إنجلترا في التأهُّل لمونديال 2002، وكان "بيكهام" قد ارتكب خطأ واحدا أثناء كأس العالم 1998 نال بسببه لعنات الجمهور الإنجليزي.(6) لذلك لا بد أن عشرات الأفكار كانت تُحاصر ذهنه في تلك اللحظة، ولا بد أيضا أنه أحكم السيطرة على عقله جيدا، قبل أن يُسجِّل هدفا تاريخيا ويتحوَّل إلى بطل قومي.

 

أردنا الاستفادة من معرفة مؤسس شركة "Neuro 11" الدقيقة بتخصصه فسألناه: إلى أي مدى يمكن أن تؤثر قوة أو ضعف الحالة الذهنية على دقة الكرات الثابتة في كرة القدم؟

 

نيكلاس: "الحالة الذهنية يمكنها أن تجعل الركلة، أو حتى حركة اللاعب داخل الملعب، إما مثالية وإما دون المستوى على الإطلاق، خصوصا حين تتسم الأجواء حول اللاعب بالضغط الشديد، ﻷهمية المباراة مثلا.

 

دعني أُعطِك مثالا، حين تُسدِّد ركلة ثابتة، فمن غير الجيد أبدا أن تُفكِّر في موقف عاطفي أو متوتر أو حزين. كما أنه ليس من المفيد أن تشعر بالاسترخاء الشديد، لدرجة اللا مبالاة مثلا. المساحة المثالية هي أن يكون ذهنك في المنتصف، هنا ستجد أن دقة تنفيذ الركلة الثابتة أصبحت أعلى.

 

الأمر لا يتوقف عند الكرات الثابتة وحسب، فحتى خلال اللعب المفتوح، من الضروري أن تتحكم في مشاعرك وتروض ذهنك كي تحافظ على تركيزك. أنت تعرف روجر فيدرير بالتأكيد، إنه مثال جيد لما أقوله، فهو لم يصل إلى القمة إلا بعدما تعلَّم كيف يتحكَّم في مشاعره. لا تظن أنها مهمة سهلة، هي عملية مستمرة من التعلُّم".

 

اتصال من يورغن، ووعد من ليندرز

AC Milan vs Liverpool FC - UEFA Champions League- - MILAN, ITALY - DECEMBER 7: Juergen Klopp, Head coach of Liverpool FC gestures prior to the UEFA Champions League match AC Milan between Liverpool FC at San Siro stadium in Milan, Italy on December 07, 2021.
يورغن كلوب

في عام 2019، كان الثنائي قد انتهى من تصميم البرنامج التدريبي، وتأكد "نيكلاس" من فاعليته. حينها أراد الشابان الوصول إلى شخص واحد كي يعرضا عليه مشروع "Neuro 11″، هذا الشخص اسمه "يورغن كلوب".

 

لماذا هذا الاسم دون غيره؟ يقول "هويسلر" في حواره مع موقع "ذي أثليتيك" (The Athletic) إنه تابع ما يصنعه المدرب الألماني رفقة ليفربول، وقرأ عن اهتمامه الكبير بالجانب الذهني من كرة القدم.(7)

 

يمكننا أن نتأكَّد من ذلك عبر تصريحات "كلوب" نفسه، الذي يُلقي اللوم على الإرهاق الذهني بعد الخسارة من برايتون، (8) ثم يعود ليُثني على تعامل لاعبيه الذهني بعد تجاوز لايبزيغ.(9) أضِف إلى تلك التصريحات حقيقة أنه عيَّن مستشارا نفسيا مخصصا للفريق يُدعى "لي ريتشاردسون" له تجارب سابقة مع أندية واتفورد وبلاكبيرن، وحين سُئِل عن سبب هذا القرار، أجاب بذكاء قائلا: "أظن قبل 25 عاما، لم يكن هناك مدرب مختص لحراس المرمى، واليوم يوجد، الأمر كذلك مع الجانب النفسي الخاص باللاعبين أيضا".(10)

 

كانت مهمة الوصول إلى "كلوب" من نصيب "باتريك". استغرق الأمر بعض الوقت بطبيعة الحال، لكنه في النهاية استطاع أن يرسل إليه رسالة نصية كتبها "نيكلاس" للتعريف بالخدمة التي يُقدِّمونها. لم يرد "يورغن" على الرسالة، إنما فاجأ "هويسلر" بالاتصال به شخصيا، ثم دعا الثنائي للحضور إلى مركز ليفربول التدريبي، ميلوود، رفقة المعدات والأجهزة الإلكترونية التي يستخدمونها.(11) نجح الشابان في لفت انتباه أحد أهم مدربي العالم، ولا بد أنهما قفزا من الفرحة فور أن أغلق "كلوب" الخط.

 

طارا معا إلى ليفربول، وهناك حضرا مباراة أرسنال التي أخبرناك عنها، ثم قابلا "يورغن" ومساعده "بيب ليندرز" لشرح نمط التدريب الذي صمَّمته الشركة باستفاضة. بمجرد انتهاء الضيفين من الشرح النظري، منحهما "كلوب" فرصة لتجربة عملية مع أحد اللاعبين على تنفيذ الركلات الثابتة، وهي التجربة التي عزَّزت من اقتناع المدرب الألماني بما في حقيبة الرجلين، إذ أثبتت النتائج أن جودة التنفيذ قد تحسَّنت بالفعل بعد أن خضع اللاعب للتدريب الذهني الخاص بـ"Neuro 11″. هذه المرة لم ينجحا وحسب في لفت انتباهه، بل حصلا على موعد لتوقيع عقود تعاون مع ليفربول.(12)

 

كان كل شيء يسير على خير ما يُرام، حتى اصطدم "باتريك" و"نيكلاس"، ومعهما العالم كله، بكابوس اسمه فيروس كورونا. صحيح أننا لسنا خبراء في الاقتصاد أو ريادة الأعمال، لكننا نعلم جيدا أن تفشي وباء بهذا الحجم هو آخر ما يتمناه القائمون على شركة ناشئة، لأنه كفيل بتعطيل كل نشاط تقوم به، وبالتالي تهديد وجودها من الأساس. أكبر دليل على ذلك هو أن عمل أصدقائنا مع النادي الإنجليزي قد تأجَّل، لكن "ليندرز" أكَّد لهما أن الاتفاق مع ليفربول سارٍ، وسيدخل حيز التنفيذ ما إن تسمح الظروف وتوافق الإدارة.(13)

 

بما أننا ذكرنا "ليندرز"، دعونا ننوه إلى أن هذا الاسم لا ينال التقدير الكافي. طبعا أي مساعد لـ"كلوب" صاحب الشخصية الكاريزمية لن يحظى إلا ببصيص من الاهتمام، لكن ذلك المدرب الهولندي يلعب دورا كبيرا في أي نجاح يُحقِّقه النادي تقريبا، من تغيير منظومة الضغط، إلى الإصرار على التعاقد مع مهاجم رائع مثل "ديوغو جوتا"، وحتى العمل على تطوير إمكانيات "هارفي إليوت" ليتحوَّل إلى لاعب أساسي قبل أن يتم عامه الـ19.(14) وقد كان هو الشخص الذي يتواصل مع "نيكلاس" إبان الحجر الصحي الذي فُرض على الجميع كي يتابع آخر تطورات برنامج "Neuro 11″ التدريبي، ويَعِده بأن الفرصة ستأتي له ولـ"باتريك" في المستقبل القريب.

في إيفيان مع أرنولد وصلاح

هل تعرف إيفيان؟ هي مدينة فرنسية جميلة، تطل على بحيرة ليمان فتزداد جمالا، وقد زارها الشابان الألمانيان في الصيف الماضي. لم تكن النيّة من الزيارة قضاء إجازة هادئة، بل كانا هناك للمساهمة في معسكر ليفربول التحضيري، وإقامة ورش عمل مع اللاعبين المختصين بتنفيذ جميع أشكال الركلات الثابتة.(15) أخيرا جاءت الفرصة، وصدق "كلوب" و"ليندرز" الوعد.

 

نشرت قناة "Neuro 11" على يوتيوب مقطعا واحدا لتلك الورش،(16) حيث يظهر "نيكلاس" و"باتريك" في الملعب رفقة "أرنولد"، و"صلاح"، و"إليوت"، و"جيمس ميلنر". يرتدي كل لاعب منهم أقطابا كهربائية حول الرأس، ويُسدِّد ضربة جزاء أو ركلة ثابتة، بينما يقف أصدقاؤنا أمام شاشة حاسوب محمول في تركيز شديد. الفكرة أن تلك الأقطاب ترصد نشاط ذهن اللاعب قبل وخلال التسديد، ثم يتحوَّل ذلك النشاط إلى مجموعة من البيانات تُرسَل إلى الحاسوب مباشرة، وهكذا يُكوِّن دكتور "هويسلر" معرفة دقيقة عن حالة اللاعب الذهنية.(17)

 

ماذا يحدث بعد ذلك؟ يُعِدُّ "باتريك" وصديقه مجموعة من التوجيهات بحسب حالة كل لاعب. بمعنى أن الملحوظات التي سيحصل عليها "صلاح" تختلف عن تلك الخاصة بـ"ميلنر"، فربما ينبغي لأحدهم التركيز تماما على النقطة التي يريد أن تصل إليها ركلته، بينما على الآخر توزيع نظراته بين تلك النقطة وبين الكرة.(18) وهكذا يتعرَّف اللاعب إلى تفاصيل محددة عليه أن يواظب عليها، وأخرى عليه أن يتجنَّبها، كي يُحكِم السيطرة على ذهنه في سبيل تنفيذ الركلات بصورة أفضل.

 

طبعا كان لدينا ما يفوق عشرة أسئلة حول ما دار داخل هذا المعسكر، لكن "هويسلر" و"هونتشكي" رفضا الحديث عن أي شيء يخص تفاصيل التدريب، وهو أمر يمكن تفهُّمه. وحين ألححنا في طلبنا، اعتذر "نيكلاس" بأدب قائلا: "ما يمكنني قوله هو إننا سعداء للتعاون مع نادي يتمتع بذلك المناخ الاحترافي الفريد، وكذلك مع لاعبين يتميزون بسلوك وعقلية شديدة الانضباط والاحترافية".

 

ليس اللاعبون وحدهم مَن تعاونوا بصورة أدهشت "هويسلر"، إذ يؤكد في حواره مع "ذي أثليتيك" أنه شعر بحجم ثقة "كلوب" ومساعديه فيهم، بداية من حفاوة الاستقبال في المعسكر لدرجة جعلته يحس أنه فرد من عائلة ليفربول، وحتى الاهتمام بتوفير متطلبات الشركة كافة، والالتزام بجدول عمل واضح واحترافي.(19)

 

من الضروري هنا تأمُّل هذه الإشادة. نحن أمام "يورغن كلوب"، واحد من أفضل مدربي العالم، والرجل الذي كتب اسمه في تاريخ ليفربول بحروف من ذهب، وإذا اعتزل التدريب غدا، فسيظل جمهور النادي يغني له ويذكره لسنوات بلا عدد. امتلك هذا الرجل من التواضع والحكمة ما يكفي لمنح الفرصة لشابين صغيرين لعرض ما لديهما، وما إن آمن بما يمتلكانه من معرفة وقدرة، إلا ومهَّد الطريق لتطبيق التدريب الخاص بشركتهما على فريقه.

 

وحين فعل ذلك فإنه لم يُخضِع لاعبا مغمورا أو ناشئا لهذا التدريب، بل أخضع لاعبا يحظى بتقدير بالغ بسبب دقة قدمه مثل "أرنولد"، وآخر ربما يكون الأفضل في العالم حاليا مثل "صلاح"، وثالثا يمتلك عشرين عاما كاملة في احتراف اللعبة وهو "ميلنر". كل هؤلاء ما زال لديهم رغبة في التعلُّم، وتحسين ما يُحسنونه أصلا، واكتساب ميزة واحدة ستساعد على إحراز هدف إضافي.

محمد صلاح

 

حين تُحوِّل الأرقام أحلامك إلى حقيقة

آتت كل هذه الأمور أُكلها على ما يبدو. في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 2021، كان "ترنت أرنولد" يستعد لتسديد ضربة ثابتة على مرمى ويست هام. لا بد أن "نيكلاس" كان ينتظر التسديدة بتركيز كبير، ولا بد أيضا أنه احتفل احتفالا خاصا جدا بعد أن سكنت الكرة المرمى، حتى إنه غرَّد على حساب تويتر وكتب: "هذه اللحظات التي تتحوَّل فيها الأحلام إلى حقيقة".(20) تلك الجملة التي قد تبدو رومانسية من شدة جمالها تحوَّلت في حالة "Neuro 11" وأصبحت واقعا.

 

هل تريد أن تتأكد؟ حسنا، حان الآن وقت الاستعانة بالأرقام والإحصائيات، التي سنحاول من خلالها معرفة إلى أي مدى ساعد برنامج "هويسلر" و"هونتشكي" ليفربول هذا الموسم. فحتى الآن، خاضت الكتيبة الحمراء 26 مباراة بالدوري الإنجليزي، وأحرز "محمد صلاح" و"ساديو ماني" ورفاقهما 64 هدفا خلالها. كم منهم جاء من ركلات ثابتة؟ 15 هدفا، وهم موزعون كالتالي: 12 هدفا من ضربة ركنية، وهدفان من ضربة ثابتة غير مباشرة، وهدف وحيد من ضربة مباشرة هو ذلك الذي سجَّله "أرنولد".(21)

 

المُثير أن هذا الرقم كان مرشَّحا للزيادة، كيف عرفنا؟ عن طريق نموذج إحصائي لا بد أنك سمعت به من قبل اسمه الأهداف المتوقَّعة (xG)، وهو يُشير إلى جودة الفرصة المصنوعة، أي في حالتنا جودة تنفيذ الضربة الثابتة، إذ كان يمكن لليفربول أن يُسجِّل المزيد عن طريق الضربات غير المباشرة، لكن إنهاء الفرص لم يكن بالدقة الكافية.

 

وحتى بعد إهدار بعض الفرص المُحقَّقة، فإن 15 هدفا ليس رقما ضئيلا على أي حال، خصوصا حين تُقارنه بأرقام بقية فِرَق القمة في الدوري الإنجليزي. فلدينا مانشستر سيتي الذي سجَّل 12 هدفا،(22) ثم تشيلسي الذي أحرز 10 أهداف،(23) بينما لم يُسجِّل يونايتد سوى 3 أهداف،(24) وذلك أقل بـ7 عما سجَّله ويست هام،(25) أما أرسنال ففي جعبته 9 أهداف،(26) وأخيرا توتنهام له 5 أهداف.(27) وبذلك يتأكد أن ليفربول بات أكثر فِرَق البريمرليغ استغلالا للركلات الثابتة، بل إنها تحوَّلت إلى سلاح قادر على حسم مباراة لصالحه، كالتي فاز بها الريدز على كريستال بالاس بثلاثية نظيفة جاءت جميعها من ركلات ركنية.

 

حاولنا توسيع نطاق تلك المقارنة لتشمل باقي كبار أوروبا، فوضعنا أهداف ليفربول في مواجهة أهداف ريال مدريد، وباريس سان جيرمان، وبايرن ميونخ، وإنتر ميلان. المشترك بين تلك الفِرَق هو أنها تتصدَّر قمة الدوري المحلي حاليا، لكن لم يصل أي فريق بينهم إلى تسجيل 14 هدفا من كرات ثابتة. وهذا ما يعني أن ليفربول يمتلك أفضلية واضحة تجعل من غير المبالغة وصفه بأحد أقوى فِرَق أوروبا على هذا الصعيد، إن لم يكن الأقوى على الإطلاق.

 

بالتأكيد لا يمكن الادعاء بأن التدريب الذهني كان السبب الوحيد لتلك الأهداف، لأن ذلك سيتجاهل عوامل أخرى مهمة مثل المهارة التقنية التي يتمتع بها "أرنولد" و"روبرتسون"، وقدرات زملائهم "فان دايك" و"ديوغو جوتا" على اقتناص الكرات الهوائية، وكذلك التدريبات التي يُشرف عليها منذ سنوات "بيتر كرافيتز"، مساعد "كلوب"، وفريق المحللين في النادي، لكن في الوقت ذاته، لا يمكن أبدا إغفال تلك الميزة التي أضافها التدريب الذهني، التي قال "يورغن" إنها ميزة لم تكن متاحة في ليفربول من قبل.

 

الخطوة الكبيرة القادمة

بلا شك، يعيش أصدقاؤنا مرحلة عظيمة في مسيرتهما المهنية، تزداد هذه المرحلة نجاحا مع كل هدف جديد يُحرزه ليفربول من كرة ميتة، ويُعزِّز كذلك من فرص شركة "Neuro 11" في الانتشار والتوسُّع مستقبلا، ﻷن هناك أندية ورياضيين سيرغبون في الحصول على ذلك التدريب بعد أن أثبت نجاحا.

 

سألنا السيد "باتريك": هل تظن أن التدريب الذهني لا ينال ما يستحقه من اهتمام في عالم كرة القدم اليوم؟

 

باتريك: "في 2018، أدلى خواكيم لوف مدرب منتخب ألمانيا السابق هو ومدرب آخر في البوندزليغا بتصريحين مهمين، إذ اتفق كلاهما على ضرورة أن يكون هناك عناية أكبر بتمرينات العقل والذهن في كرة القدم، وهناك مؤشرات عديدة تؤكد أن تقنيات علم الأعصاب ستكون أكثر شيوعا وانتشارا في حياتنا قريبا.

 

نحن نرى أن التدريب الذهني -خصوصا المعتمد على التقنيات العصبية- سيكون الخطوة الكبيرة التالية في الرياضة، ونحن سعداء ومُتحمِّسون كوننا جزءا من هذه الخطوة".

 

يُراهن "باتريك" على أن الطلب سيزداد على الخدمات التي تُقدِّمها شركته، لكن تُرى كيف يمكن أن تؤثر تلك الخدمات المبتكرة على كرة القدم؟

 

يُجيبنا هذه المرة دكتور "نيكلاس هويسلر" قائلا: "ما يمكنني قوله هو إن علم الأعصاب هو النقلة التالية الكبرى لتحسين الأداء الرياضي. نحن نؤمن أن بإمكاننا تقديم طريقة مبتكرة تماما لتدريب الذهن، ليس فقط في كرة القدم، ولكن في جميع الرياضات. ونحن نأمل أن نُظهِر قدرتنا على مساعدة لاعب الكرة على التحكم في عقله، وبالتالي توجيه سلوكه، لتصل كفاءة أدائه إلى مستوى آخر".

 

يبدو أن الثنائي يشعر بثقة كبيرة فيما يمكن أن يصلا إليه، والحقيقة أن هذا الشعور ليس مبنيا إلا على سنوات طويلة من البحث والتخصص، والخروج بمشروع بذلا في إنتاجه والتأكُّد من نتائجه جهدا وافرا، قبل استهداف الوجهة الأمثل لعرض المشروع، ثم التمسُّك بالأمل خلال الوقت العصيب الذي مرَّ به العالم، وأخيرا اللحظات التي تحوَّل فيها الحلم إلى حقيقة يمكن رصدها بالإحصائيات.

 

هذه قصة ملهمة جديدة تُقدِّمها لنا كرة القدم، ويمكن استخلاص دروس عديدة منها، ولقد كنا سعداء بالعمل عليها، فشكرنا "نيكلاس" و"باتريك" على الحديث لنا، ونشكرك أنت أيضا على قراءة الموضوع حتى السطر الأخير.

——————————————————————————–

المصادر

  1. مؤسسا شركة "Neuro 11" في ليفربول.
  2. السابق.
  3. موقع شركة "Neuro 11".
  4. مؤسسا شركة "Neuro 11" في ليفربول.
  5. السابق.
  6. غضب الجمهور الإنجليزي من بيكهام بعد مونديال 98.
  7. مؤسسا شركة "Neuro 11" في ليفربول.
  8. تصريح كلوب عن الإرهاق الذهني بعد الخسارة من برايتون.
  9. كلوب يُشيد بتعامل لاعبيه الذهني بعد الفوز على لايبزيغ.
  10. تصريح كلوب عن الاستعانة بمستشار نفسي.
  11. مؤسسا شركة "Neuro 11" في ليفربول.
  12. السابق.
  13. السابق.
  14. دور ليندرز في تطوير إمكانيات هارفي إليوت.
  15. مؤسسا شركة "Neuro 11" في ليفربول.
  16. قناة شركة "neuro11" على يوتيوب.
  17. كيف يعمل التدريب الذهني؟
  18. السابق.
  19. مؤسسا شركة "Neuro 11" في ليفربول.
  20. تغريدة هويسلر على تويتر.
  21. إحصائيات ليفربول.
  22.  إحصائيات مانشستر سيتي.
  23. إحصائيات تشيلسي.
  24. إحصائيات مانشستر يونايتد.
  25. إحصائيات ويست هام.
  26. إحصائيات أرسنال.
  27. إحصائيات توتنهام.
المصدر : الجزيرة