شعار قسم ميدان

باستخدام إستراتيجيات الإبصار.. كيف رأى ميسي تحرك مولينا؟

"لعبت ضد هذا "الميسي"، ولقد استنجدت بوالدتي! وقتها لم يكن من الممكن الإمساك به، إذا فكرت في عرقلته فإنك لن تستطيع اللحاق به، عندما كنت في مدريد، كان راموس مُكلفا برقابة ميسي والذهاب معه أينما ذهب، لكنك تكتشف بعد المباراة أن راموس قد تم التلاعب به، من الصعب جدا الدفاع أمامه، لذلك لا أعتقد أننا علينا مراقبته رغم أنه الآن أبطأ من ذي قبل ولا يركض كالسابق". (1)

كانت تلك كلمات لاعب هولندا السابق رفائيل فان دير فارت قبل مباراة هولندا والأرجنتين، وهي تخبرنا أن قضية إيقاف ميسي لا تزال هي التحدي الأبرز لكل مَن يقابل البرغوث، ورغم سهولة المهمة نسبيا على الورق عندما يرتدي ليو قميص المنتخب، فإنه مُستمر في تعقيد الأمور على الجميع، لأنه ببساطة يُعيد إنتاج نفسه من حين إلى آخر، كأن كونه عبقريا لا يكفي.

بدأت الرحلة بوصفه جناحا على الطرف الأيمن، ثم تحوَّل إلى العُمق في دور المهاجم الوهمي، ثم صانع لعب صريح في حقبة لويس إنريكي وما بعدها، ومؤخرا مع تقدمه في العُمر فإننا أمام ميسي "الحكيم" الذي يلعب في خط الوسط، يعتقد فالدانو، لاعب الأرجنتين السابق ومدير نادي ريال مدريد، أن الوقت قد جعل ميسي أكثر حكمة، وذلك هو الناتج الطبيعي لـ1000 مباراة احترافية. (2) (3)

أمام هولندا، وبسبب وجود مدرب بقيمة لويس فان غال، كانت هناك توقعات كبيرة لرؤية مخطط مُبتكر لإيقاف ميسي، وقد كان، أعطانا فان غال فكرة إضافية مضادة لإيقاف البرغوث، ورغم تماسك مخطط فان غال ونجاحه في إبعاد ميسي قدر الإمكان عن مناطق الخطر، فإننا كالعادة رأينا تجليا عبقريا من ميسي كان كفيلا بهدم المعبد على رؤوس مَن فيه، وهو ما تكرر مجددا في مباراة كرواتيا في الدور نصف النهائي، لكن دعونا الآن نركز على مباراة هولندا، ولندخل إلى صلب الموضوع مباشرة.

لا جديد تحت الشمس

قبل مباراة الأرجنتين وأستراليا كتب الكاتب والمحلل الرياضي لشبكة "ذا أثلتيك" (The Athletic) جون مولر تقريرا بعنوان "إليك كيفية إيقاف ميسي"، من بين الأفكار التي طرحها مولر كانت فكرة "التكتل في العُمق" لإجبار ميسي على الخروج للأطراف حيث لا يُفضل ليو اللعب بالسنوات الأخيرة، إذ إنه بالنظر إلى خريطة استقبال ميسي للكرة في تلك النسخة من البطولة، نجد أنه ينشط في عمق الملعب للتأثير على مُجريات اللعب بشكل أكبر بدلا من الانعزال على الطرف. (4)

 

"أول شيء عليك معرفته هو مكان العثور عليه. هذا سهل: إنه الرجل الصغير الذي يتجول ورأسه لأسفل وكأنه فقد عدساته اللاصقة في مكان ما في العُشب بالقرب من نصف المساحة اليُمنى".

(جون مولر)

ذلك تحديدا ما قام به فان غال، حشد أكبر عدد من اللاعبين لإغلاق عمق الملعب وترك الأطراف كليا لدفع ميسي إلى الطرف الأيمن ومحاولة الضغط عليه هناك، أو إجباره على النزول إلى مناطق منخفضة وإبعاده عن المناطق المؤثرة قدر الإمكان.

أثناء الدفاع بكتلة متوسطة يتولى جاكبو رقابة إنزو فيرنانديز، على أن يتمركز برغفاين وممفيس في المسافة للداخل لإغلاق مسارات التمرير للعمق وتحديدا للاعبي وسط الأرجنتين ماك أليستر ورودريغو دي باول، الذين تتم مراقبتهم فرديا من كلٍّ من دي رون وفرينكي دي يونغ على التوالي.

بينما أثناء الدفاع بكتلة مخفضة، يتراجع برغفاين وجاكبو للأسفل لسببين؛ أولهما إغلاق مسارات التمرير القُطرية للعُمق وخاصة على ميسي، وثانيا تحقيق التكتل اللازم لنسف إمكانية اللعب بين خطوط الفريق، لتصبح المسافة بينهما وبين المدافعين غير قابلة للاختراق مع أدوار فرينكي ودي رون في محاولة قراءة مسارات اللعب ومطاردة مَن يحاول الاستلام خلف جاكبو وبرغفاين.

الأمر الآخر الذي قام به فان غال كان الاستفادة من عنصر الأمان الذي يوفره اللعب بـ5 مدافعين، من خلال تكليف المدافع الأقرب لميسي بالخروج لمقابلته بدون تردد والضغط عليه للنهاية أثناء طلب للكرة، وذلك لتحقيق فكرة بسيطة جدا؛ إجبار لاعبي الأرجنتين على البحث عن خيارات أخرى للتمرير بعيدا عن ميسي "المراقب"، وإجبار ميسي نفسه على اللعب وظهره للمرمى لأطول فترة ممكنة في حالة استلامه، ودفعه للتمرير الخلفي.

كان الأمر فعالا حقا، فوفقا لبيانات "ستاتس بومب" مرَّر ليو 48 تمريرة فقط في 120 دقيقة، وهو الرقم الأضعف له في البطولة، 46% من تلك التمريرات كانت تحت ضغط، والأهم أن 31% منها كانت للخلف، تماما حيث خطط فان غال، ليأتي دور ميسي كي يُدلي بدلوه في حل الإشكالية. (5)

بعد قطع بليند الكرة من دي باول أثناء محاولة الربط مع ميسي، بدا أن صبر الأخير قد نفد، وضغط مباشرة على ممفيس ديباي في محاولة لوأد عملية التحول الهجومي للمنتخب الهولندي، نجح ميسي في دفع ممفيس والتأثير على دقة تمريرته التي وصلت إلى أوتاميندي بدلا من برغفاين، قبل أن ينقلها المدافع مباشرة إلى الظهير الأيمن مولينا في محاولة للقيام بالهجوم المضاد.

بمجرد وصول الكرة إلى مولينا، بدأ ميسي في تفقُّد محيطه بالاستكشاف البصري، وأخذ المعلومات اللازمة للتداخل، استخدم ليو ما رآه جيدا، حيث استغل ارتداد لاعبي هولندا باتجاه مرماهم لحماية مناطقهم أثناء عملية التحول الدفاعي، وبدأ في النزول إلى الأسفل عكس حركة المدافعين لطلب الكرة من مولينا.

بسبب إقصاء برغفاين بعد تمريرة ممفيس، وبطء ارتداد جاكبو وممفيس للحفاظ على التكتل اللازم لهيكل الفريق، أتاح ذلك الفرصة لميسي لطلب الكرة في مساحة أكبر بعد تفضيل فرينكي للبقاء وعدم الضغط عليه قبل خروج الكرة من قدم مولينا، وهنا تحديدا كان واحدا من أبرز أحداث المباراة، لأن تلك المرة ميسي يستلم الكرة بدون ضغط، بوضعية جسدية تدعم التقدم ضد هيكل يحاول إعادة تنظيم نفسه بعد فقدان الكرة.

بعد خروج الكرة من قدم مولينا، قفز فرينكي للضغط على ميسي، لكن الأخير امتص الضغط بلمسة أولى خادعة عكس اتجاه الهولندي، وهي كل ما احتاج إليه لتخطي فرينكي وتعديل زوايا اللعب من الخارج إلى الداخل ليُسرع من خطواته بعدها مباشرة ويتقدم قُطريا باتجاه المرمى، والبقية تعرفونها.

قدَّم فان غال نموذجا إضافيا في صندوق المقترحات الخاص بكيفية إيقاف ميسي، ذلك الذي يحتوي على مئات وربما آلاف المُجلدات، لكن كالعادة ميسي ما زال يملك أسرار حل المباريات، ورغم تقدُّم عمره وتدني حالته البدنية فإن عقل الأرجنتيني لا يزال قادرا على إنتاج أفضل الحلول على الإطلاق ضد مختلف النماذج والمخططات.

نسينا أن نُخبرك أن جون مولر كان قد طمس تحليله قبل أن يبدأ، حيث رأى أن ذلك التحليل غير مُهم على الإطلاق، لسبب بسيط جدا؛ ستدرس الفِرَق هذه التكتيكات وتحاول تطبيقها، وبعد ذلك يذهبون للملعب بأذهان فارغة، كالطالب الذي يُذاكر للاختبار النهائي، وبمُجرد دخول الامتحان ينسى كل شيء، وهذا بالضبط ما يفعله اللعب ضد ليونيل ميسي.

كيف رآه؟

بالنسبة للمشاهد المحايد، ربما لم تكن تلك التفاصيل هي محور اهتمامه بقدر اهتمامه بالتمريرة التي صنع بها ميسي الهدف لمولينا، كان السؤال الأبرز لعدة أيام؛ كيف رأى ميسي مولينا قبل التمرير؟ رغم أن إعادات الهدف التي عُرضت من مختلف الزوايا لم يرفع بها ميسي رأسه لمعرفة مكان مولينا، فكيف مرر له؟

(رويترز)

تنشأ العلاقات داخل الملعب بالتواصل، والسبب الرئيسي في ضعف مستوى كرة قدم المنتخبات مقارنة بكرة الأندية هو قلة مستوى التواصل بين اللاعبين نتيجة محدودية الوقت الذي يقضيه اللاعبون معا في المنتخب مقارنة بالأندية، تُعَدُّ تلك مقدمة ضرورية للتأكيد أن "أسيست" ميسي من المفترض أن يكون لأشرف حكيمي هناك في حديقة الأمراء حيث يتدرب الاثنان لشهور معا، وليس لمولينا الذي للتو رآه ليو قبل البطولة بأسبوع، لذا لم يعكس المشهد تفاهم الاثنين، ولكنه عبَّر أكثر عن قدرات ميسي الاستثنائية. (6)

يجب أن يكون اللاعب على دراية بالمعلومات المهمة حوله، لأنه إذا كان قادرا على إدراكها، فمن المرجح أن تؤخذ في الاعتبار في عملية صنع القرار، يجب أن ينتبه اللاعبون لأكبر قدر من المعلومات، والأهم الانتباه لكيفية تغيُّر هذه المعلومات طوال الوقت، لذلك زادت أهمية وجودة السلوكيات الاستكشافية للاعبين، بالفعل ذلك المقطع الذي تبادر إلى ذهنك لتشافي هيرنانديز وهو يتفقد محيطه آلاف المرات هو ما نقصده، لكن الأبحاث الحديثة تُثبت أن تحريك الرأس قد لا يكون دائما الإستراتيجية الأفضل! (7)

تنقسم رؤية الإنسان إلى قسمين رئيسيين: الإبصار المركزي أو الرؤية المركزية (Central vision)، والإبصار المحيطي أو الرؤية المحيطية (Peripheral Vision)، يرى كريستيان فاتر، الباحث في علوم الرياضة بجامعة برن السويسرية، أنه في ملعب كرة القدم، لن تستطيع الحصول على أكبر قدر من المعلومات فقط بالإبصار المركزي ولكن يجب استخدام الإبصار المُحيطي، وكُلما كان الإبصار المحيطي للاعب حادا، كانت لديه قدرة أكبر على الانتباه لمستوى أكبر من التفاصيل ومن ثم إنتاج قرارات أفضل داخل الملعب. (8)

وفقا لفاتر أيضا، فإن هناك 3 إستراتيجيات بصرية مختلفة يستخدمها الرياضيون باختلاف نوع الرياضة، الإستراتيجية الأولى يعرفها الجميع وهي "Visual Pivot" أو محور البصر بالترجمة الحرفية، وتُستخدم عندما تزيد المسافة بين مصادر المعلومات المُهمة التي يريد اللاعب استكشافها، فيحرك اللاعب رأسه باتجاهات مختلفة لالتقاط تلك المعلومات ببصره المركزي، تشافي هيرنانديز قد يكون أفضل مروج لتلك الإستراتيجية، إذ إن رأسه ربما لم تكف عن التوقف حتى الآن.

الإستراتيجية الثانية يُطلق عليها "Foveal Spot" أو محل التثبيت، تُستخدم عند الحاجة إلى جمع معلومات ذات حِدَّة بصرية عالية، من خلال تثبيت النظر على المكان الأكثر أهمية (المصدر) حتى نتمكن من التقاط هذه المعلومات، على سبيل المثال، في موقف 1 على 1، يحتاج المدافع إلى التركيز على فخذ الخصم، لأن فخذه يُخبرنا بمعلومات أساسية حول الاتجاه الذي سيسلكه. في الواقع، إذا قام بتوجيه فخذه إلى اليمين، فمن المرجح أن يتجه إلى اليمين، وهنا يجب التركيز على تلك المنطقة للحصول على المعلومة والتعامل مع الموقف.

الإستراتيجية الثالثة هي تعليق النظر "Gaze Anchor"، وتُستخدم في المواقف التي يوجد بها ضغط زمني قوي، حيث يجب اتخاذ القرارات في فترة زمنية قصيرة جدا، يُعلق اللاعب بصره في المنتصف بين عدة متغيرات للإحاطة بها جميعا، وتُعَدُّ تلك الإستراتيجية شهيرة جدا في كرة اليد الشاطئية، حيث وجد الباحثون أن المدافعين لا ينظرون إلى الكرة أو المهاجم المنافس، لكنهم يركزون نظرهم بين المصدرين لحظة ركل الكرة، للإلمام بهما معا لاتخاذ القرار الأنسب بالذهاب إلى اليمين أو اليسار أو البقاء في مكانهم لصد الكرة.

على الأغلب نفد صبرك الآن وتتساءل ما علاقة ذلك بميسي؟ الحقيقة أن ميسي قد رأى مولينا باستخدام إحدى تلك الإستراتيجيات، إذ إنه لم يستطع النظر له بوضوح بسبب سرعة تقدمه بالكرة مع ضغط ناثان أكي، ولم يجد الوقت لإبعاد عينه عن الكرة وتحريك رأسه للجهة الأخرى لأن ذلك سيفقده الاتصال بالكرة، وبالتالي تصبح هناك احتمالية لخسارتها أو فقدان تتبعها.

لذا حاول ميسي التأقلم مع تلك المعطيات باستخدام الإستراتيجية الثالثة أي تعليق النظر، وتوضح الصور من تلك الزاوية أن البرغوث لم يمحور بصره على الكرة كما لم يستطع رفع رأسه لرؤية مولينا، لكن بدلا من ذلك "علق" نظره بين الكرة وأكي ومولينا وربما فان دايك لثوانٍ حتى يستطيع الحفاظ على اتصاله البصري بالجميع في وقت واحد بطرف عينه، قبل أن يمرر كرة مستحيلة من بين أقدام أكي، أمام مولينا، عكس حركة فان دايك!

لا تقع في الفخ وتدع ذلك ينسيك أن التمريرة نفسه كانت تُحفة أخرى، أو كما يقول فالدانو؛ ميسي هو مارادونا كل يوم! حتى مولينا لا يعرف كيف وصلته الكرة، لكنه سجَّل على أي حال، وبفضل ذلك ذهبت الأرجنتين نصف النهائي بعد مباراة ماراثونية، وبعدها وصلت إلى النهائي، ولا يزال حلم الفوز بالبطولة يداعب خيال ميسي في مغامرته الأخيرة في كأس العالم.

________________________________

المصادر:

المصدر : الجزيرة