شعار قسم ميدان

جولة في عقل مشجع.. لماذا يحب الجميع مشاهدة المباريات الرياضية؟

Soccer Football - FIFA World Cup Qatar 2022 - Group C - Poland v Argentina - Stadium 974, Doha, Qatar - November 30, 2022 Argentina fans wearing t shirts depicting Argentina's Lionel Messi and Diego Maradona as another fan raises a cutout of Diego Maradona before the match REUTERS/Jennifer Lorenzini
مشجعو الأرجنتين يرتدون قمصانًا تصور الأرجنتيني ليونيل ميسي ودييجو مارادونا (رويترز)

سواء كنت تشاهد المباريات على شاشة التلفاز أو من خلال شاشة هاتفك المحمول عبر الإنترنت، أو في الملعب من مدرجات المشجعين جالسا بين المئات، وسواء كنت جالسا على أريكة صالة منزلك المريحة، أو على مقهى مزدحم بالمشاهدين، يتقافزون فرحا كلما سجَّل فريقهم هدفا، وتجلجل حناجرهم بصيحات التشجيع، وتتساقط دموعهم بلا خجل عند الهزيمة، فأنت حلقة في سلسلة طويلة من البشر الذين مارسوا تقليد "الفرجة" ذلك عبر العصور المختلفة.

 

قبل أكثر من 6 قرون قبل الميلاد، شعر اليونانيون القدماء الذين تحلَّقوا في المدرجات لمشاهدة الألعاب الأولمبية بالحماسة نفسها التي تشعر بها اليوم وأنت تشاهد مباريات كأس العالم، ومن جيل إلى جيل انتقلت المتعة والحماسة كأنها تسري في العروق، وفيما يستمتع البعض بممارسة الرياضة بأنفسهم، والاستفادة بكامل فوائدها الصحية، لا يزال الكثيرون منا يفضلون مشاهدة الرياضة على الانخراط في ممارستها، لتصبح الرياضة صناعة ترفيهية أكثر منها ممارسة بدنية. وقد لفت الأمر أنظار أديب نوبل الجنوب الأفريقي جون ماكسويل كوتزي فكتب إلى صديقه الروائي الأميركي الشهير بول أوستر متسائلا:

"ما الذي يجعلني إذن أضيع وقتي مرميّا أمام شاشة التلفزيون أشاهد الصغار يلعبون؟ إنني أُقِر بأنها مضيعة للوقت. صحيح أنني أجني خبرة (خبرة من الدرجة الثانية)، ولكنني لا أجد في هذه الخبرة نفعا من أي نوع كان. أنا لا أتعلم شيئا. لا أخرج بأي شيء.. هل أي من هذا مألوف لديك؟ هل يمس فيك وترا تعرفه؟ هل الرياضة ببساطة كالخطيئة: يستهجنها المرء لكنه يتوق إليها بدافع من ضعفه البشري؟".

ربما راودتك أسئلة كوتزي نفسها ذات يوم، إذ تبدو مشاهدة المباريات الرياضية بكل ما يكتنف عملية المشاهدة من الحماس للوهلة الأولى مضيعة للوقت لا طائل من ورائها، لكن نظرة متفحصة تكشف لنا عن الكثير.

 

الانتماء إلى المجموع

Canada v Morocco - Group F: FIFA World Cup Qatar 2022- - DOHA, QATAR - DECEMBER 01: Fans of Morocco show their support during the FIFA World Cup Qatar 2022 Group F match between Canada and Morocco at the Al Thumama Stadium in Doha, Qatar on December 01, 2022.
مشجعو المغرب خلال مباراة المجموعة السادسة في كأس العالم FIFA قطر 2022 (الأناضول)

مَن منا لا يحتاج إلى ذلك الشعور بالانتماء إلى كيان أكبر منه، قبيلة ضخمة وممتدة من المشجعين تمنح أعضاءها نوعا من الدعم الاجتماعي والروابط التي تخفف من الشعور بالتوتر وتساعد على زيادة الثقة بالذات؟ هذا هو ما نراه خاصة في روابط الألتراس (Ultras)، وهو لفظ مشتق عن اللاتينية ويعني الفائق أو ما بعد الطبيعي، ويقصد بها جماعات المشجعين المعروفين بولائهم الشديد للأندية الرياضية. ظهرت هذه الروابط بداية في البرازيل في أوائل أربعينيات القرن العشرين، ثم انتقلت إلى أوروبا ومختلف أنحاء العالم.

 

وفي ظل الشعور الطاغي بالاغتراب، قد يوفر الانتماء إلى فريق من المشجعين مساحة للحماسة والانتماء، ويمنحك فرصة لتبادل العديد من النقاشات والمحادثات التي تستمر لفترة طويلة حتى بعد انتهاء المباراة. وهذه المحادثات ومشاركة الآراء والتعبير عنها بحرية تساعدك على تعزيز مهاراتك الاجتماعية ومهارات التعبير والنقاش، وهو ما يعزز من صورة الذات ويرفع من معدلات الثقة بالنفس. كما تفتح متابعة الأحداث الرياضية بوابة للتفاعل الاجتماعي منخفض التكلفة بين أفراد العائلة والأصدقاء، وتوفر مساحة وفرصة للتواصل بين الأجيال المختلفة، ألا نمر بالمقهى أحيانا لنشاهد الجد مع حفيده يتابعان المباراة نفسها، ويشجعان الفريق نفسه أحيانا؟

 

في كتابه بعنوان "المشجعون: كيف تجعلنا مشاهدة الرياضة أكثر سعادة وصحة وتفهما"، يحاول الكاتب لاري أولمستد أن يفحص الفوائد الناجمة عن تشجيع الفرق الرياضية، وكيف يساعدنا الانتماء إلى قاعدة من المشجعين، حتى لو كنا نشجع الفريق الخاسر. ويصف أولمستد الارتباط بين المشجعين في الملاعب والساحات بأنه اتصال نقي مستمر دون وعي، وهذا ما يميز تشجيع الرياضة عن أنواع الفنون الأخرى.

 

يميز أولمستد هذا الانخراط في النقاش والتحليل الذي يحظى به متابعو الرياضة، الذي يجعل من مشاهدة المباريات متعة جماعية لا فردية، ويقارن ذلك بمشاهدة أفلام السينما على سبيل المثال، فالمشاهدون لا يمكنهم الصياح والمناقشة في صالة السينما، تظل لحظة المشاهدة متعة فردية مغلقة. وحتى عندما تشاهد المباراة في منزلك عبر التلفاز، فإن رؤية المشجعين الآخرين في المدرجات يرتدون قمصان فريقك المفضل، ويهتفون بصيحات التشجيع المألوفة لأذنيك تصبح بمنزلة تذكير وتأكيد لا شعوري لانتمائك إلى كيان أكبر، كيان يمتد إلى ما وراء أسوار الملاعب وما بعد انطلاق صافرة النهاية، يجمع بينك وبين آخرين من خلفيات ومعتقدات مختلفة يوحِّدهم تشجيع فريقهم. (1)

 

لا تقف الأمور عند هذا الحد، بل إن مشاهدة الرياضة ربما تجعل البعض أكثر ذكاء، وفق بعض المعايير على الأقل. قد يبدو المشجعون للوهلة الأولى مجموعة من الأشخاص الذين لا يتقنون شيئا سوى الصراخ، قد تظن أنهم مجانين أو مهووسون، لكن جرِّب أن تسأل أحدهم عن أهداف لاعبه المفضل، أو عن تنبؤاته بشأن نتائج المباريات، أو تحليله لخطط المدربين، وستُفاجأ بامتلاك فئة كبيرة من المشجعين القدرة على سرد إحصائيات مفصلة عن المباريات والأهداف، والقدرة التحليلية على قراءة ما يحدث على أرض المستطيل الأخضر الساحر، وقد يبدو بعضهم أذكى من المدربين.

 

واقع الأمر أن مشاهدة الرياضة بانتظام قد تجعلك أكثر ذكاء، فهي تُقدِّم لك فرصة مميزة للتمرين العقلي، وهو ما أثبتته دراسة أُجريت في جامعة شيكاغو وتوصلت إلى أن مشاهدة الألعاب الرياضية وتشجيعها يساعد على تحسين الاتصالات العصبية في الدماغ، خاصة تلك المتعلقة بالقدرة اللغوية والفهم، وهو ما يحدث نتيجة قيام الدماغ بتحليل ودراسة طرق اللعب وأداء الفرق واللاعبين ومقارنة الإحصائيات المختلفة وتحليل البيانات حتى دون أن تدرك بوعي أن دماغك يقوم بذلك. (2)

 

عزاء البطولة

Soccer Football - FIFA World Cup Qatar 2022 - Group C - Poland v Argentina - Stadium 974, Doha, Qatar - November 30, 2022 Argentina fans wearing t shirts depicting Argentina's Lionel Messi and Diego Maradona inside the stadium before the match REUTERS/Amanda Perobelli
مشجعو الأرجنتين يرتدون قمصانًا تصور الأرجنتينيين ليونيل ميسي ودييجو مارادونا داخل الملعب قبل المباراة (رويترز)

سامي مشجع كرة قدم في الأربعين من عمره، متعصب لفريقه، لا يفوت مشاهدة مباراة، يقول في حديث خاص لميدان: "في طفولتي تمنيت أن أصبح لاعب كرة قدم شهيرا، التحقت بأحد أندية كرة القدم لكن أبي وجدها مضيعة للوقت، ومنعني من اللعب بمجرد أن وصلت إلى المرحلة الثانوية. في طفولتي كان مارادونا بطلي المفضل، والآن ليونيل ميسي ومحمد صلاح، أحب أن أقرأ وأشاهد الكثير عن قصصهم، أحيانا أتخيل أني لو تابعت التدريب ربما أصبحت بمثل شهرتهم".

 

تُشبع الرياضة في مشاهديها هذا الاحتياج إلى البطولة، لمتابعة البطل أو الرمز أو المخلص والتعلق به، ولأن الرياضة باتت واحدة من أهم صناعات الترفيه في العصر الحالي، فهي لا تبخل علينا بالرموز والأبطال، ليس فقط على أرض الملعب، بل تتفنن في تتبع حكايات الأبطال ونشأتهم، وتقدمها لنا في أفلام ووثائقيات وبرامج حوارية ترسم صورة تغذي فينا هذه الحاجة.

 

كما تمنحنا مشاهدة الرياضة الشعور بالإنجاز دون بذل الجهد، إذا سألك أحدهم عن نتيجة المباراة التي انتصر فيها فريقك فمن المرجح أن ترد بحماس (لقد فزنا) مستخدما ضمير الجماعة، ذلك أن شعورك بالانتماء إلى الفريق يمنحك هذا الإحساس المجاني بالإنجاز بكل ما يصاحبه من ظفر ونشوة، وهكذا تقدم لك مشاهدة المباراة متعة لا تكلفك الكثير.

"إحساسك بالرهبة إذ ترى إنسانا مثلك يحقق مثل هذه الأشياء، إذ ترى أننا (كسلالة) لسنا مجرد هذه الديدان التي غالبا ما نبدو أننا لا نزيد عليها، بل نحن قادرون أيضا على تحقيق المعجزات -في التنس وفي الموسيقى، وفي الشعر، وفي العلم- وأن الحسد والإعجاب يذوبان في إحساس طاغٍ بالبهجة".

(هنا والآن، رسائل كوتزي وبول أوستر)

بجانب العزاء الذي تقدمه الرياضة لنا، ربما تجعلنا مشاهدة المباريات أقل توترا وتساعدنا على التعامل مع ضغوطات الحياة، ذلك أنك حين تنخرط في مشاهدة مباراة لفريقك المفضل يمنحك ذلك فرصة جيدة لتخفيف التوتر عبر تشتيت الانتباه عن المشكلات والضغوط اليومية.

 

في كتابه "ما لا يذكره الرجال للنساء حول العمل"، تناول كريستوفر فليت الطريقة التي يتربى بها الرجال في العديد من الثقافات المختلفة على قمع عواطفهم وانفعالاتهم وتجنب إظهار مشاعرهم أو التعبير عنها. توفر مشاهدة الرياضة هذه المساحة الآمنة لانفلات المشاعر دون خوف، البكاء فرحا على فوز فريقك ومعانقة المشجعين الآخرين، والقفز من السعادة والحماس، والصراخ بلا انقطاع، كلها أمور لن يلومك عليها أحد في الملعب. (3)

 

ماذا عن صحتك؟

رغم انخراط الكثيرين في مشاهدة المباريات دون ممارسة الرياضة، ففي بعض الأحيان قد تحفزك مشاهدة الرياضيين على البدء في ممارسة الرياضة لزيادة معدلات لياقتك البدنية.
رغم انخراط الكثيرين في مشاهدة المباريات دون ممارسة الرياضة، ففي بعض الأحيان قد تحفزك مشاهدة الرياضيين على البدء في ممارسة الرياضة لزيادة معدلات لياقتك البدنية. (بيكسلز)

حسنا، لنزيدك من الشعر بيتا. وجدت دراسة نُشرت عام 2017 أن مشاهدة مباريات هوكي الجليد ترفع من معدلات ضربات القلب بنسبة كبيرة تبلغ نحو 75% في حالة المشاهدة عبر التلفاز، و110% في حالة المشاهدة المباشرة في الملاعب، وهو ما يقارب معدل ارتفاع النبضات الناتج عن ممارسة التمرينات المتوسطة والقوية على الترتيب. لكن الدراسة نفسها أشارت بوضوح إلى أن مشاهدة المباريات ليست بديلة عن النشاط البدني، فهي ترفع من معدل ضربات القلب لكنها لا تحمل الفوائد نفسها لصحة القلب والأوعية الدموية، وباستثناء القفزات الحماسية حين يسجل فريقك المفضل هدفا فأنت لا تدرب عضلاتك على الإطلاق.

 

الخبر الجيد هنا أنه رغم انخراط الكثيرين في مشاهدة المباريات دون ممارسة الرياضة، ففي بعض الأحيان قد تحفزك مشاهدة الرياضيين على البدء في ممارسة الرياضة لزيادة معدلات لياقتك البدنية. (4) (5) لكن لا يسعنا تجاهل الإشارة إلى الجانب الآخر المثير للقلق وهو أن مشاهدة الرياضة من الممكن أن تسبب الإجهاد العاطفي والانفعال، وقد تؤدي إلى الإصابة بنوبة قلبية لدى الأشخاص الذين يعانون بالفعل من أمراض القلب الكامنة.

"في الرياضة فائزون وخاسرون، ولكن ما لا يُبالي أحد بقوله هو أن الخاسرين أكثر بكثير من الفائزين.. الرياضة تُعلِّمنا عن الخسارة أكثر بكثير مما تُعلِّمنا عن الفوز، وذلك ببساطة لأن كثيرين للغاية من بيننا لا يفوزون. وأهم ما تُعلِّمه أنه لا بأس بالهزيمة، الهزيمة ليست أسوأ ما في العالم، ففي الرياضة، خلافا للحرب، لا ينحر الفائزُ عنقَ المهزوم. ذلك هو درس الرياضة العظيم: أنك تخسر أغلب الوقت، لكن ما دمت في اللعبة فثمة دائما غد وفرصة جديدة لاسترداد نفسك".

(هنا والآن، من رسائل كوتزي وبول أوستر)

—————————————————————————————–

المصادر:

1-Toward an Understanding of the Very Real Health Benefits of Watching Sports

2- Benefits of Watching Football

3-The Surprising Health Benefits of Watching Sports

4-Is watching sport as good as playing it?

5-The Psychological Benefits of Watching Sports

المصدر : الجزيرة