شعار قسم ميدان

من احتفال ميسي الغريب إلى رقصة ملوك السامبا.. إلى أي مدى تؤثر لغة الجسد في كرة القدم؟

Soccer Football - FIFA World Cup Qatar 2022 - Quarter Final - Netherlands v Argentina - Lusail Stadium, Lusail, Qatar - December 9, 2022 Argentina's Lionel Messi celebrates scoring their second goal REUTERS/Kai Pfaffenbach
احتفال الأرجنتيني "ليونيل ميسي" بعد تسجيله هدفه الثاني بمباراة هولندا ضد الأرجنتين. (رويترز)

في مدينة فلورنسا، يقف تمثال برونزي لرجل يمسك بسارية علم ويصرخ، هذا واحد من أهم التماثيل الحديثة في إيطاليا، وهو للاعب كرة القدم الأرجنتيني غابرييل عمر باتيستوتا الذي لمع نجمه مع نادي فيورنتينا الإيطالي، استوحى معجبوه وضعية التمثال من لحظة احتفاله بإحراز هدف أثناء لعبه لصالح فريق فيورنتينا. (1)

 

حركات وإشارات الجسد هي جسر تواصل لاعب كرة القدم مع الجماهير. وهناك العديد من الأسباب التي تدفع لاعب كرة القدم إلى استخدام جسده أداةً للتواصل مع زملائه أو الجمهور، فصوت اللاعب وكلماته لا يسعفونه لتوصيل الرسالة التي يريد أن يقولها للجمهور أثناء وجوده في الملعب، سواء التعبير عن فرحته أو حتى استيائه وغضبه، أو حتى طلب شيء من الجمهور.

 

ولا يمكن هنا أن نفوت أحد أشهر الأمثلة في كأس العالم على الرسائل من هذا النوع، حينما قام ميسي بالوقوف في مواجهة دكة بدلاء الفريق المنافس (هولندا) بعد نجاحه في إحراز ضربة الجزاء في مباراة ربع النهائي، التي انتهت بفوز الأرجنتين، وضع ميسي يديه خلف أذنيه على طريقة لاعب أرجنتيني آخر هو خوان رومان ريكيلمي، وقد أشارت تقارير صحافية إلى أن ميسي احتفل بهذه الطريقة بسبب تعامل مدرب منتخب هولندا، لويس فان غال، بشكل سيئ مع ريكيلمي عندما كان مدربا له في برشلونة.

 

على مدار تاريخ كرة القدم، استخدم اللاعبون أجسادهم وإشاراتها بوصفها لغة بديلة مؤقتة للتواصل مع الجمهور، خاصة في لحظة الاحتفال بإحراز هدف، وعموما نلاحظ أن لاعبي كرة القدم خارج الملعب وبعد المبارة لهم لغة جسد متشابهة، مثل وضع اللاعب يده على خصره أثناء الحوار الذي يتبع المباراة مباشرة، أو النظر بالعين بعيدا عن الكاميرا.

 

تلك الإشارات الجسدية يستخدمها الكثير من الممثلين أداةً للتعبير أثناء قيامهم بدور لاعب كرة القدم، وأحيانا تظل مسيطرة عليهم حتى بعد الانتهاء من التصوير، وقد ظهر هذا على سبيل المثال في حوار قصير مع الممثل المصري هشام ماجد في إطار فعاليات مهرجان مالمو للسينما العربية في دورته الأخيرة، الذي كان يعرض في ختامه فيلم "حامل اللقب" الذي لعب فيه هشام ماجد دور لاعب كرة، ونلاحظ أنه في اللقاء يقف بالطريقة نفسها التي يقف بها لاعبو كرة القدم في اللقاءات التي تتبع المباريات. (2)

هل إشارات الجسد مهمة حقا؟

يحاول الجمهور والمعلقون الرياضيون بلا وعي التنبؤ بأداء اللاعب في المباراة عن طريق إشارات جسده، فقد تجد معلقا رياضيا يقول: "يبدو أن هذا اللاعب قد انتهت طاقته أو استسلم"، ولذلك لاعب كرة القدم لا يكون مطالبا بأداء جيد في المباراة فقط، بل إن إشاراته الجسدية قد يكون لها مردود على جماهير فريقه سواء في الملعب أو مَن يشاهدون المباراة على شاشات التلفاز.

في دراسة نُشرت عام 2012 في "جورنال أوف سبورت آند إكسارسايز سايكولوجي" (journal of sport and exercise psychology) تحت عنوان "السلوك غير اللفظي في كرة القدم: تأثير لغة الجسد في تكوين الانطباع وتوقع نجاح لاعبي كرة القدم" (3)، اعتمد المؤلفون على سلسلة سابقة من الدراسات المهمة التي توضح أهمية السلوكيات غير اللفظية في أداء اللاعبين، وأن لها بالفعل تأثيرا كبيرا على تشكيل انطباع الرياضيين والجماهير، التي بدورها تؤثر على نتائج أدائهم المتوقعة.

 

على سبيل المثال، وضحت الدراسة أن إشارات الجسد التي يقوم بها اللاعب الذي سيلعب ركلة الجزاء لها تأثير نفسي على حارس المرمى، ومدى قدرته على صد الكرة، وأشار مؤلفو الدراسة إلى أن 90% من الحالات التي تم ملاحظتها للاعبي كرة القدم أثناء تسديد ركلة الجزاء، الذين يتعمَّدون النظر مباشرة إلى حارس المرمى ومحاصرته بنظرات الأعين، كانوا قادرين على تسديد الكرة بنجاح، وكان ذلك دليلا على فوز اللاعب في الحرب النفسية -بالأعين- مع حارس المرمى قبل تسديد الركلة.

الجسد هو الأنا الأخرى للإنسان؟

حسنا، الأمر لا يتعلق بالكرة وحدها بالطبع، فهناك العديد من الدراسات التي تناولت الجسد من أكثر من ناحية علمية مثل علم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا، وهذا لأن الجسم وإشاراته لهما دلالات مهمة ومعبرة وأساسية في التعبير والتواصل غير اللفظي مع الآخرين، ويندرج تحت هذا البند الإشارات والإيماءات وحتى الوشوم المرسومة على الجسم، ما يكون له آثاره النفسية والثقافية والاجتماعية المختلفة.

 

في دراسة نفسية واجتماعية نُشرت في مجلة "إنترناشونال جورنال أوف إنوفيشن إديوكيشن آند ريسيرش" (international journal for innovation education and research) ، والصادرة عن جامعة عجمان بالإمارات العربية المتحدة (4)، أشار المؤلفون إلى أن الجسد يُمثِّل الأنا الأخرى للفرد الذي يعبر من خلاله عن مكوناته الفردية والمجتمعية، ولأن لعبة كرة القدم هي واحدة من أكثر الألعاب الشعبية في العالم، فمن الطبيعي أن تأخذ لغة الجسد مكانها المهم في كرة القدم، وقد ثبت أن المشجعين يتابعون عن كثب الإشارات الجسدية للاعبين وعواطفهم ويتأثرون بها.

المخطط الذهني: لماذا وقف رمضان صبحي على الكرة؟

في عام 2014، وأثناء مباراة للأهلي والزمالك، الناديين المصريين الكبيرين، تسببت إشارة جسدية قد تبدو بسيطة للبعض في تشابك بين لاعبي الأهلي والزمالك، وهذا حين وقف لاعب الأهلي رمضان صبحي على الكرة بقدميه، وكرر الإشارة الجسدية نفسها بعدها بعام في مباراة مع الزمالك أيضا. تلك الإشارة التي وُصفت بـ"الاستعراضية" وأثارت غضب جمهور الزمالك ولاعبيه بداية من قائدهم حازم إمام الذي اندفع من الخارج نحو أرضية الملعب بنية الهجوم على رمضان صبحي وتعنيفه. (5)

 

من المؤكد أن الإشارات الجسدية الاستعراضية ليست جديدة في عالم كرة القدم، وحتى فريق الزمالك الذي استشاط لاعبوه غضبا من وقوف رمضان صبحي على الكرة أثناء المباراة، بسبب شعورهم بالإهانة أو التقليل من جانبه، احتفوا بلقطة رقص شيكابالا مع الكرة في مواجهة أمام فريق آخر هو طلائع الجيش. (6)

 

لتفسير ذلك، ربما نحتاج للإشارة إلى نظرية في علم النفس نظرية تُعرف باسم "schema" أو المخطط الذهني، (7) وهو إطار أو مفهوم معرفي يساعد في تنظيم المعلومات وتفسيرها، ونحن نستخدم المخططات الذهنية لأنها تتيح لنا طرقا مختصرة في تفسير الكمية الهائلة من المعلومات المتوفرة في بيئتنا، فعندما يقف رمضان صبحي على الكرة أثناء المباراة، ويغضب فريق ومشجعو الزمالك من تلك الإشارة الجسدية؛ فهذا لأن رمضان صبحي اختصر الكثير من السخرية والرغبة في الاستعراض في تلك الحركة التي لم تستغرق منه ثانية واحدة. تلك العملية (المخطط الذهني) يمارسها البشر بتلقائية بوصفها طريقة طوروها عبر سنوات من البحث الفطري على طرق سهلة وسريعة للتعبير عن النفس.

 

الاحتفال على طريقة كلينسمان

لتأتي إلى مثال آخر مهم. في عام 1994 لعب الألماني يورغن كلينسمان في الدوري الإنجليزي الممتاز، حينها ابتكر كلينسمان طريقة جديدة للاحتفال بإحراز هدف، وكان الغرض منها ليس الاحتفال فقط، بل السخرية من بعض الاتهامات الموجهة له، وبحركة واحدة من جسده بعد إحراز الهدف يرسل كلينسمان رسائل كثيرة لجماهيره وجماهير الفرق الأخرى.

 

بعد إحراز الهدف، تزحلق كلينسمان على أرض الملعب وهو على بطنه وكأنه يغوص في البحر، تلك الطريقة في الاحتفال سُميت على اسمه بعد ذلك، وكان الهدف منها هو السخرية من اتهام يراه غير عادل، بعد أن وُجِّهت إليه تهمة بأنه يمارس "الغوص" للحصول على ركلات الجزاء.

 

اعتماد لاعبي كرة القدم على تلك الطريقة في التعبير عن النفس ترجع إلى أن وقت المباراة لا يسمح بأحاديث وتعبيرات لفظية، كما أنه ليس هناك وسيلة صوتية للتواصل مع الجمهور، وهنا يأتي دور الجسد الذي يمكنه بإشارة واحدة أن يختصر الكثير من الكلام ويترك أثرا قويا على آلاف من الجماهير.

ولكن أيضا هذه الطريقة في التعبير غير اللفظي لها مشكلاتها، فهي تجعلنا نستبعد بعض المعلومات المهمة بغرض التركيز فقط على الأشياء التي تؤكد معتقداتنا وأفكارنا الموجودة مسبقا، ولذلك يمكن أن تساهم المخططات في الصور النمطية وتجعل من الصعب الاحتفاظ بالمعلومات الجديدة التي لا تتوافق مع أفكارنا الراسخة عن العالم.

 

ميسي: "سأفعل ما تريده.. ولكني غير راضٍ عنه"

من الأمثلة الجديرة بالذكر والتوضيح، التي حللها مؤلفو الدراسة(4) السابق ذكرها، هي حركة أخرى تخص ميسي، وهي إشارة غير لفظية يقوم بها بشفتيه عندما يتعرض لحكم سلبي في المباراة، وتُعرف بالإنجليزية باسم "Lateral Lip Purse"، تلك الحركة قد تُفهم من البعض بأنها اعتراض ورفض تام، ولكن ما وضحته الدراسة أن تلك الإشارة تندرج تحت بند الانفتاح على القرارات المأخوذة من جانب الحكم، فعلى الرغم من عدم موافقته على هذا القرار وعدم اقتناعه به، فإنه سينفذه على أي حال.

 

بذلك تكون الإشارة الجسدية موقفا عاطفيا صريحا ومنفتحا وغير سري، فهو بهذا التعبير غير اللفظي -من شفتيه وحاجبيه- تحدَّث مع جماهيره ومع الحكم ومع الفريق الآخر بأنه غير راضٍ عن القرار، ولكنه ما زال منفتحا على قرار الحكم، وأشارت الدراسة إلى أن فهم تلك الحركة مهم للغاية، لأنه لا يعني الاعتراض التام، كما يظهر للوهلة الأولى.

 

الرقص في كرة القدم

خلال فعاليات كأس العالم المُقام في قطر الآن؛ فاز منتخب إنجلترا على منتخب إيران بنتيجة 6-2 ضمن الجولة الأولى من دور المجموعات بكأس العالم، واحتفل لاعب كرة القدم الإنجليزي جاك غريليش بتسديد الهدف السادس في المباراة برقصة غريبة بعض الشيء، وكانت سببا لتساؤل بعض الجماهير، ولكنه وضَّح سبب الرقصة فيما بعد. (8)

 

قبل فعاليات كأس العالم، قابل غريليش "فينلي"، وهو طفل إنجليزي مصاب بمرض الشلل الدماغي، ومشجع متحمس لكرة القدم ومحب لها، وطلب منه هذا الطفل في حال تسجيله هدفا في كأس العالم أن يرقص تلك الرقصة بالذات، وقال غريليش عقب المباراة: "كان عليّ أن أفعل ذلك، وأعتقد أن فينلي كان سعيدا في منزله".

 

بتلك الحركة الجسدية البسيطة، التي لم ينطق فيها جريليش كلمة واحدة، حوَّل نصره واحتفاله بهدف فريقه إلى نصر عاطفي يمكن لكل الجماهير من أي بلد أن تتعاطف معه، ووضع فوزه بتلك الرقصة في إطار إنساني يصعب على الكثير ألا يتأثروا بسببه، وكانت إشارة جسدية واحدة غير لفظية في ملعب كرة القدم قادرة على خلق لحظة عاطفية وإنسانية ستُسجَّل في تاريخ كرة القدم.

 

والرقص للتعبير عن الفرح بالفوز أو لتقديم عرض افتتاحي من الفريق قبل المباراة ليس بالأمر الجديد على ملاعب كرة القدم، فالرقص جزء مهم من الإشارات الجسدية المستخدمة في تلك اللعبة. وهنا لا شك نذكر رقصة أشرف حكيمي بعد هدف أحرزه في مرمى إسبانيا أثناء ضربات المعاناة الترجيحية، كان إحراز الهدف يعني صعود المغرب لأول مرة في تاريخها وتاريخ العالم العربي إلى دور ربع النهائي، فيما كانت الرقصة أيقونة للاحتفال بالانتصار.

 

أما منتخب البرازيل، الذي خرج بالفعل من البطولة بعد هزيمة من كرواتيا بضربات الترجيح، فقد كان لاعبوه دائما ما يرقصون بعد إحراز الأهداف، هذا في الحقيقة نمط ثابت لدى البرازيليين نعرفه منذ عقود في كأس العالم، الغريب في الأمر أن الصحافة الأوروبية تنتقد حاليا الرقص بهذا الشكل لأنه "يقلل من شأن المنافسين" ولا يعبر عن الروح الرياضية، لكن الرقص بالنسبة للبرازيليين -على الجانب الآخر- هو جزء من التعبير عن الفرحة، لو أنك من مواليد الثمانينيات فربما تذكر رقصة بيبيتو الشهيرة في كأس العالم 1994.

بعض الفِرَق الرياضية للعبة الركبي استخدمت رقصات شعبية من بلادها مثل فرق نيوزيلندا التي ترقص رقصة الهاكا قبل المباراة، و"الهاكا" عبارة عن صيحة قتالية ورقصة تقليدية من تراث سكان نيوزيلندا الأصليين الذين كانوا يقومون بتلك الرقصة قبل المعارك والحروب.

 

وتعتمد الهاكا في حركاتها على تنفيذ الأوضاع الجسدية للرقصة بشكل جماعي، مع حركات عنيفة وضرب الأرض بالأقدام مصحوبة بصيحات وصرخات متناغمة مع الحركة، والهدف الأساسي منها هو إظهار الشجاعة والقوة للخصم، ولذلك عادة ما نرى الفريق المنافس واقفا يشاهد هذا العرض الحماسي.

 

الرقص -من وجهة نظر أنثروبولوجية- يمكن تعريفه بأنه ممارسة ثقافية وطقس اجتماعي، ويُنظر إليه على أنه وسيلة للمتعة الجمالية ووسيلة لخلق روابط وبنية محددة في المجتمع، واستخدام الرقص بوصفه لغة جسدية في ملاعب كرة القدم أو الركبي أو حتى كرة السلة هو وسيلة للتعبير عن الهوية الثقافية، فعندما يرقص فريق منتخب نيوزيلندا رقصة كان يرقصها أجدادهم قبل الحروب والقتال؛ فهم يرسلون رسالة غير لفظية واضحة بأن تلك المباراة مسألة "حياة أو موت" بالنسبة لهم، ولكن دون قول تلك الجملة التي قد تكون محل نقد من جانب الكثير، وهنا يأتي دور الجسد الذي يقول الكثير دون أن نحتاج إلى قوله بألسنتنا حرفيا. (4)

————————————————————————————–

المصادر

(1) Gabriel Batistuta

(2) هشام ماجد في مهرجان مالمو: انتظر عرض تسليم أهالي آخر أعمال الراحلة
(3) Nonverbal Behavior in Soccer: The Influence of Dominant and Submissive Body Language on the Impression Formation and Expectancy of Success of Soccer Players
(4) " The nonverbal behavior of football players: A sociological and psychological study ستاد TeN –

(5) اشتباك بين لاعبي الزمالك والأهلي بسبب وقفة رمضان صبحي على الكرة .. كأس السوبر
(6) الرقص الكروي علي طريقة شيكابيكا شيكابالا
What Is a Schema in Psychology(7)?
(8) سر رقصة جريليش بعد أول أهدافه في كأس العالم
(9) Why 11 Germany Players Covered Their Mouths During World Cup Team Photo

المصدر : الجزيرة