شعار قسم ميدان

بديل المجزرة.. هل كرة القدم هي معادل أخلاقي للحروب البشرية؟

حين سقط "كريستيان بوليسيتش"، نجم منتخب أميركا لكرة القدم، داخل مرمى المنتخب الإيراني، بعد إحرازه هدف التقدم لفريقه خلال المباراة التي جمعت الفريقين ضمن الجولة الثالثة والأخيرة من دور المجموعات في بطولة كأس العالم المقامة حاليا في دولة قطر؛ بدا على "بوليسيتش" الألم نتيجة الاصطدام القوي مع حارس مرمى منتخب إيران "رضا بيرانوند"، وهو ما عبر عنه اللاعب فيما بعد بقوله: "كانت صدمة مؤلمة بالفعل، هذه العظْمة موجودة لسبب ما، لحمايتك على ما أعتقد، وقد تلقت ضربة مبرحة".

غير أن سقوط اللاعب وألمه لم يمنعا المدرجات من الفرحة بالهدف الذي يؤهل الفريق إلى الدور التالي. وبالرغم من أن اللاعب ظل لدقائق ملقى وسط شباك الإيرانيين، محاطا بزميلين أو ثلاثة يستطلعون مدى الضرر الذي لحق به ويشيرون في طلب مسعفي الفريق، كانت المدرجات صاخبة بالاحتفال، ممتلئة بألوان العلم الأميركي، غير منتبهة قط لأنين اللاعب، وكأنه أضحية أو معبر ضروري إلى النصر.

لم تبدأ أي مخاوف في الظهور إلا عقب انتهاء المباراة وضمان الفريق الأميركي تذكرة التأهل لدور الـ16، وبعدما اتضحت شدة الإصابة التي يمكن أن تمنع "بوليسيتش" -نجم الفريق- من خوض المباراة التالية ضد المنتخب الهولندي؛ ما يعني إضعاف موقف الفريق الأميركي ولو بدرجة ما، وحرمان المتفرجين من عرض ممتع آخر.

من هذا الوجه، تشبه كرة القدم كولوسيوم الرومان القديم، المدرج الفلافي، حلبة الهلاك، حيث القتال حتى الموت في مقابل الحرية والأمجاد والبطولة، شريطة تقديم العرض الذي يسلب عقول المتفرجين ويثير الحماس، ودون اعتبار لأي ألم أو دماء تسيل في الساحة. وفي الكولوسيوم -كما في الكرة- ساحة لعب ومصاطب (مدرجات)، ترتج بزئير الجماهير، الجماهير المؤتلفة من كل لون وسن، مدفوعة برغبة واحدة، وهي دعم لاعبها (أو فريقها) المفضّل وإيقاع الرعب في قلب المنافس.

كان هدف بوليسيتش وسقوطه في الآن ذاته كفيلين بكشط قشرة التمدن للحظة عن اللعبة، والسماح برؤية الجماهير المنساقة وراء شهوة الانتصار، وراء الحماس المختلط بشيء من العدوانية، النابعة من إحساس بالظفر والسيادة وتحقق الذات. وللمفارقة، فإن هذه هي أهم أسباب شعبية اللعبة، التي تخاطب غرائز مطمورة فينا بحكم المدنية والحضارة، أو كما عبّر عن ذلك الفيلسوف الإنجليزي "برتراند راسل" في كتابه "الفرد والسلطة": "لقد أودعت فينا كل الغرائز العدوانية جنبا إلى جنب مع غرائز الابتكار والبناء، ولكن المجتمع يحول بيننا وبين إشباع هذه الغرائز، ثم يتقدم إلينا بألوان أخرى من النشاط فيها إعلاء لها، ككرة القدم"(1).

بديل للحرب

يرى "وليام جيمس" في الحرب ما يربط الناس معا وينبت شعور التماسك بين أفراد المجتمع للتصرف بشرف وعدم أنانية في خدمة خير أكبر. (مواقع التواصل الاجتماعي)

ربما نجد شيئا من المعنى ذاته في كتابات عالم النفس الأميركي "وليام جيمس" الذي حاول فهم تعلق البشر بالعراك والحروب، مشيرا إلى آثار نفسية إيجابية لخوض الناس للحرب، حيث تجعلهم يشعرون بمستوى أعلى من اليقظة والحيوية. يرى "جيمس" في الحرب ما يربط الناس معا وينبت شعور التماسك بين أفراد المجتمع للتصرف بشرف وعدم أنانية في خدمة خير أكبر. ورغم تلك النظرة الرومانتيكية التي ترى الأمر من أعلى كطائر مُرفّه محلق، دون الخوض في التفاصيل اليومية المرعبة للحروب، فإن "جيمس" يذكر أن البشر في حاجة ماسة لإيجاد نشاط يحتوي على نفس التأثيرات النفسية والاجتماعية الإيجابية للحرب، لكن لا ينطوي على الدمار ذاته، وهذا ما قصده بعبارته: "المكافئ الأخلاقي للحرب"(2).

يحدث كثيرا في كرة القدم أن يرتطم لاعبان، ويحدث أحيانا أن تسيل الدماء بشدة من رأس أحدهما، ويحدث أن يُضمَّد الرأس بقطعة شاش تبدو عبرها بقعة الدم التي تتسع وربما تنزّ مع الركض، ويحدث -رغم ذلك- أن يتجلّد اللاعب مستكملا المباراة "بشرف"، ويحدث في المقابل أن تتلقى الجماهير ما يبديه من قوة تحمّل بنشوة وبتقدير، كما فعلت في السابق جماهير الكولوسيوم  مع بطل مثخن بجروح يأبى تَرْك سيفه والاستسلام أمام الخصوم ببساطة.

لعله من السهل في حالة كتلك أن نفهم السبب وراء تقدير الجماهير للاعب، أن نعزوه إلى الشجاعة والجلد والمضي رغم الألم نحو أداء الواجب، بينما يصعب تفسير ما يرافق التقدير من سرور وانتشاء، ربما سببه أننا نرى في هذا الجَلَد إلهاما بشريا، أي أن شخصا مثلنا بمقدوره أن يجابه الألم والعوائق حتى النهاية، وإن كان هذا في نموذج مُصغّر داخل الملعب وفي إطار زمني محدد بتسعين دقيقة، لكنه كفيل بأن يدفع الكثيرين لمحاولة التصرف بالمثل في الحياة بدءا من اليوم التالي. وربما نرى منعطفات درامية مثيرة في إصابة اللاعب وإصراره على استكمال المباراة ونصره في الأخير أو انهزامه بشرف، كأننا أمام حبكة مثالية في حكاية خلابة. وربما كان صموده يعزز شعور الانتماء إلى الفريق، والانتماء عدوى بإمكانها الانتشار بين المشجعين كذلك، تماما كأن مدينتين في حالة حرب، وإقدام جندي في أحدهما على المغامرة بحياته يحفز أفراد بلدته على القيام بالمثل وشد الروابط تجاه بعضهم بعضا والغرق الأعمى في حب المدينة.

ديفيد لويز لاعب أرسنال بعد اصطدامه مع راؤول خيمينيز لاعب ولفرهامبتون واندرارز خلال مباراة الدوري الإنجليزي الممتاز بين أرسنال وولفرهامبتون واندررز 2020 (غيتي)

تستعير كرة القدم كذلك العديد من اصطلاحات الحرب في محاولة لمداعبة هذه المشاعر واستقطاب البشر بعيدا عن الحرب في وقت نفسه، كما في مفردات: قلب الدفاع، قلب الهجوم، الهجمة المرتدة، محور الارتكاز، شارة القيادة، الانضباط التكتيكي، استخدام الأطراف، الروح القتالية؛ ومعتاد أن يصيح فينا المعلق: "لقد قتلهم!"، في إشارة إلى لعبة بارعة تلحق الخسارة بالفريق المنافس.

منذ البداية

ارتبط هذه المشاعر بكرة القدم منذ نشأتها الأولى تقريبا كما يقول "إدوارد غاليانو" في كتاب "كرة القدم في الشمس والظل"، مضيفا: "كان الصينيون هم الأوائل…، ومن المعروف أن المصريين واليابانيين كانوا يتسلون بركل الكرة…، ويقال إن الإمبراطور يوليوس قيصر كان يتقن استخدام كلتا ساقيه في لعب الكرة، وإن نيرون لم يكن ماهرا في اللعب. وعلى أقدام الرومان القدماء وصلت البدعة إلى الجزر البريطانية. وبعد قرون، وتحديدا في عام 1314، مهر الملك إدوارد الثاني وثيقة ملكية تدين هذه اللعبة الرعاعية والصاخبة…، وهناك مراسيم ضد كرة القدم ممهورة بتوقيع هنري الرابع وهنري السادس، ولكنهم كلما كانوا يمنعونها يزداد اللعب"(3).

من جانبهم، كان الصينيون يقدمون الولائم للفريق الفائز ويجلدون المنهزم. وفي القرن السابع عشر لعب الإسكيمو على الجليد باستخدام كرات محشوة بالعشب وشعر الوعل، وذات مرة تبارت قريتان كاملتان فوق ملعب من 10 أميال، وأثناء ذلك سقط رقم محترم من الضحايا. أما في إنجلترا، فقد احتفل الإنجليز بجلاء الدنماركيين عن بلادهم بركل الرؤوس المقطوعة.

وفي أميركا الشمالية لعب الهنود الحمر فوق ملعب شاطئي عرضه نصف ميل مع أكثر من 1,000 لاعب يتبارون في الوقت ذاته، وقبل استحداث القوانين ووجود ركلة الجزاء والبطاقة الحمراء، "كانت المنطقة عند فم المرمى مسرحا لمجازر دامية، وكانت مجلة ويستمنستر غازيت قد نشرت قائمة بأسماء اللاعبين الذين قضوا نحبهم أو تكسّرت عظامهم هناك"(4).

(مواقع التواصل الاجتماعي)

هكذا كانت اللعبة في البدايات، اشتباك فوق ساحة واسعة وتقبل وجود ضحايا مثل معركة أو حرب. ويجوز أن ذلك ما جعلها مغوية للاستخدام كمكافئ للنزعة العدوانية بعد تشذيبها بالقوانين. يبدو أن الكولوسيوم كان أيضا كذلك، مدرجا لتفريغ الانفعال والاحتقان عن أهل روما المتمدنين، وإن كان المقابل دماء بعض العبيد أو الحيوانات، قبل أن يجد البشر في الكرة المطاطية سبيلا أفضل من إزهاق الأرواح.

إلى الكولوسيوم

في كرة القدم وأسفل المدرجات توجد حجرات الملابس، هناك يصل فتات من هدير الجماهير المتعطشة للعرض، قبل أن تُكتشف وسائل لعزل الأصوات بالتكنولوجيا. وفي الكولوسيوم كانت هناك أيضا حجرة أقل قدرا لكن شبيهة. يتراص اللاعبون فوق الأرض أو على المقاعد، سيّان، الرؤوس منكسة في أقصى درجة تركيز، انتظارا لدقائق تفصلهم عن تجاوز نفق اللاعبين نحو أقصى الوهج، نحو شيء مجهول، والمشاعر تتراوح بين القلق والثقة، بين التردد والحسم، بين الذعر والرغبة في المجد، بين الحياة والموت، غير أن الحياة والموت يتخذان في كرة القدم شكلا آخر، الحياة هنا تعني الخلود فوق ألسنة المناصرين، فيما الموت هو النسيان بعد وصلة توبيخ للخاسر.

بعد قليل سوف يتجاور الخصوم داخل النفق، والنظرات المتبادلة بين اللاعبين تعكس الكثير، عبرها قد ندرك من البداية مَن سوف ينتصر ومن سوف ينكص ونراهن. ندرك من صياح قائدي الفريقين أيهما تحفيزي حقا وأيهما ليس كذلك. في الكولوسيوم وفي الكرة، يسمع اللاعبون صوت المذيع الداخلي يردد الأسماء في جنون، يعلن تشكيل المعركة، اذهبوا للعيش بكرامة أو موتوا بشرف، إن المصائر مرهونة بتسعين دقيقة مقبلة، المجد والخلود، كذلك الحرية، وإن كان الكولوسيوم يقدم الحرية من إسار الرقّ، فلقد سخت كرة القدم بالمثل على من أتوا من الأحياء الفقيرة، بعدما غرقت أسرهم طويلا في عبودية العوز.

(مواقع التواصل الاجتماعي)

وحين تنطلق الصافرة نراقب الدقائق الأولى المحملة بالتوتر والاستكشاف المتبادل، أو بالاندفاع الطوفاني من فريق مشحون نفسيا، مثل أي معركة تُستهل. قد ننزع إلى الاستهزاء باللاعب الضعيف، أو نوبخه إن كان واحدا من جنودنا، فيما يحاول بعض المشجعين تغليف غضبه بادعاء حالة من اللامبالاة متظاهرا بالعقلانية؛ لقد توقع مسبقا أن تسوء حالة الفريق منذ أتوا بالمدرب الفلاني وأهملوا التعاقد مع اللاعب فلان.

لكن المثير هو ما يحدث إذا تحول الفريق مرتعش السيقان إلى ثبات تدريجي خلال أطوار اللعب، حينذاك تجد من ادّعى اللامبالاة أكثر الجماهير جنونا وانتماء. هل يشبه هذا الفصيل من المشجعين مجموعة من المخلصين تشبثوا ببقايا أمل في وطن تتراكم فوقه أسباب الهزائم؟!

وربما نشهد من وقت لآخر فريقا بلا حظوظ، يقلب الطاولة على الكلّ، معوّضا نقص الخبرة والأسماء بالإصرار والتفاني، أو ربما يحوي لاعبا واحدا فذّا بإمكانه صناعة المعجزات واستحقاق الخلود، في دراما تحبس الأنفاس. وسوف يتذكر من رأى فيلم "Gladiator" -للمخرج "ريدلي سكوت"- ماكسيموس (راسل كرو) وهو يواجه العجلات الحربية في الكولوسيوم خلال عرض سقوط قرطاجة، كان رفاق ماكسيموس وحدهم بلا حظوظ، وبوجوده أتى التنظيم والاستبسال والثقة وصولا إلى النجاة والنصر، فاستحق الرجل الخلود.

قتلهم بجمال

"روح مارادونا تخيم على منتخب الأرجنتين كلما لعب. أنت خالد يا دييجو"، أسمع العبارة من عصام الشوالي معلق قنوات بي إن سبورت، ويرد متفرج في المقهى: "كان جميل جمال"، في إشارة إلى أغنية الراحل "فريد الأطرش" وإلى أن مارادونا "ملوش مثال".

كانت كرة القدم بالأساس لعبة خشنة، لم تعرف صيغة الجمال إلا بعدما داعبها اللاتينيون، أبناء الواقعية السحرية، لكن رغم ذلك تظل للقوة البدنية السيادة، بينما ندرك بحسرة أن الجمال في الكرة مثله مثل الجمال في أي شيء: لن يكفل النصر بشكل دائم، وفي برازيل 82 أشهر الأمثلة.

(غيتي إيميجز)

يقول الروائي جون ماكسويل كوتزي: "ما يتجاهله النهج الجمالي هو الاحتياج إلى الأبطال، ذلك الاحتياج الذي تشبعه الرياضة، والذي يكون أمسّ ما يكون لدى الصبية الصغار، فيُنشئ فيهم حياة فانتازية منتعشة، وإنني أشك في أن تكون بقايا هذه الفانتازيا الطفولية هي التي تضرم في الكبار ارتباطهم بالرياضة"(5).

يرفض "كوتزي" ربط شعبية اللعبة بالأداء الجمالي، يقصره فقط على الرغبة في البطولة، لكن من السهل على أبناء القارة الجنوبية وضع رؤيته محل شكوك، من السهل فعل ذلك على "بيليه" و"ودي ستيفانو" و"رونالدينيو" و"هيجيتا"، وحتى على التشيلي "مارتشيلو سالاس"، التي تبدو قفزاته معتمدة كليا على اللياقة البدنية، لكنها في نظر العين العاشقة للعبة لن تخلو من جمال. لم يكن أسر قلوب المتفرجين قديما في الكولوسيوم معتمدا على كون البطل آلة قتل فقط، بل كذلك عبر تقديم أفضل عرض ممكن، القتل بجمال، ويبدو أن كرة القدم لا تزال تحتفظ أيضا بتلك اللمحة من حلبة الموت القديمة، ويمكن للمعلق في تلك الحالة أن يصرخ فينا: "يا الله! لقد قتلهم بجمال".

_______________________________________

المصادر:

  1. برتراند راسل – كتاب الفرد والسلطة – ترجمة: فؤاد كامل.
  2. وليام جيمس – كتاب المكافئ الأخلاقي للحرب – سنة النشر 1910.
  3. إدوارد غاليانو – كتاب كرة القدم في الشمس والظل – ترجمة صالح علماني.
  4. إدوارد غاليانو – كرة القدم في الشمس والظل – ترجمة صالح علماني.
  5. جون ماكسويل كوتزي – هنا والآن – مراسلات مع بول أوستر – ترجمة أحمد شافعي.
المصدر : الجزيرة