عندما جسَّد عادل إمام شخصية "فارس" في فيلم "الحريف"، وهي مقتبسة من قصة حقيقية لنجم الكرة الشراب "سعيد الحافي"، قدَّم النموذج المثالي للاعب كرة قدم الشوارع، الذي يمتلك من المهارة ما يبهر العقول ويجعل الأيادي تضرب على الرؤوس، ويفتح الأفواه من الدهشة، تجسيدا للمتعة الخام للعبة الشعبية الأولى. (1)

 

وحين جسَّد يوسف الشريف شخصية "مالك" في فيلم "العالمي"، قدَّم النموذج المثالي للاعب المحلي المحترف الذي غزا أوروبا من بوابة فالنسيا، وأعاد مصر إلى كأس العالم بعد غياب طويل، وأصبح بطل الشعب في نهاية حكايته التي تحدى فيها كل شيء، وانتصر في كل تحدياته. (2)

 

وحين ظهر محمد صلاح، ووصل عُمْر مسيرته في ملاعب أوروبا إلى 10 سنوات، بدا أنه الحل المثالي لمعادلة كابتن مالك وسعيد الحافي، المزيج الذي جمع بين نقيضين لفترة طويلة، حتى اتضح في نهاية المطاف أنهما لم يكونا نقيضين من الأساس.

 

أنا هلعب مع الخسران

سعيد الحافي كان أشهر لاعبي دورة "الفلكي" في مصر، التي اتخذت شهرة واسعة في ثمانينيات القرن الماضي، ولكنه فشل في كل الاختبارات التي خاضها للانضمام إلى النادي الأهلي، لأنه اعتاد اللعب دون حذاء، وترويض "الكرة الشراب" فوق أسفلت الشوارع، وحين أجرى تجربة اللعب مرتديا الحذاء وبكرة احترافية فوق عشب أخضر، لم يظهر بالسحر ذاته، بل لم يُقدِّم ما يشفع له للانضمام إلى أي نادٍ من الأساس. (3)

 

كلما شاهد مجاذيب كرة القدم أمثال سعيد الحافي، اعتقدوا أنهم لو حصلوا فقط على الفرصة فسيجتازون جميع المحترفين، وهي وجهة نظر بها شيء من الوجاهة، نظرا لأنهم يمتلكون مهارات يعجز العقل عن تفسيرها، ولكنها في حقيقة الأمر سلاح ذو حدين، حيث تعجز أنظمة اللعب والتكتيكات عن وضع قالب يحتويها حين تمارس اللعبة بشكل احترافي.

 

رغم ذلك، تظل لمسات الشارع هي ضالّة المشجع الكلاسيكي إن جاز التعبير، وأكثر ما يستمتع به في كرة القدم، وحين يشاهد تجسيدا لها فوق العشب، يتحول الفنان الذي يُجيد ذلك إلى معشوق الجماهير، حتى وإن لم يقدم مسيرة تكافئ إمكانياته، نظرا لأن السحر مرتبط أصلا بتلك اللا مبالاة والعشوائية في أغلب الحالات.

 

ومع ظهور فئة جديدة من مشجعي كرة القدم المهتمين بالأرقام والإحصائيات والمقارنات أكثر من أي شيء آخر، بات هناك نموذج مغاير تماما، ولكنه استطاع أن يحصد شعبية كبرى عند المشجع المعاصر، وهو نموذج اللاعب الآلي الذي يسجل العديد من الأهداف ويحسم المباريات ويُتوَّج بأكبر عدد ممكن من البطولات والجوائز الفردية.

 

ظاهرة محمد صلاح كانت مزيجا بين كل ذلك، إضافة إلى كونها رحلة لاعب مصري إلى قمة الأمجاد التي لم يتخيل أبناء بلدته إمكانية أن يحلم بها أحدهم حتى، فضلا عن تحقيقها والاستمرار في تخطي حدودها لسنوات دون توقف أو شبع. إن كنت تشعر أنه تعريف مبالغ فيه بعض الشيء، فأنت في حاجة إلى الإبحار داخل التفاصيل، لعلها تمنحك الشيء الذي يربط تلك الخيوط غير المتشابكة ببعضها.

 

ابن الشارع

منذ صغره، وضع محمد صلاح نصْب عينيه حلما وهو أن يصبح لاعب كرة قدم محترفا، واعتاد أنه كلما وصل إلى الخطوة التي تُمثِّل الهدف بالنسبة له، بحث عن التي تليها، ثم التي تليها، وهي العقلية التي جعلته لا يتوقف بمجرد تقديم موسم استثنائي في بداية رحلته مع ليفربول، ولا يكتفي بتحقيق الدوري الإنجليزي أو دوري أبطال أوروبا لمرة واحدة، بل يحتفل ثم ينهض سريعا ويبدأ في التفكير فيما هو قادم. (4)

 

ورغم رحلته الشاقة مع التدريبات بوصفه ناشئ نادي مقاولون طنطا، قبل الانتقال إلى المقاولون العرب ورحلة السفر اليومية من وإلى التدريبات، والحياة الشاقة بين دراسته وكونه لاعبا ناشئا في أحد الأندية، لم يتخلَّ صلاح عن كرة قدم الشارع، وكان عضوا لفريق خماسي في قريته نجريج بمحافظة الغربية، يخوض رفقة أقرانه منافسات شعبية يعرفها الجميع في مصر، وهي منافسات تفوق في احتدامها ربما البطولات الرسمية أحيانا. (5)

 

هذه التجربة أثَّرت في تكوين صلاح، وأبرزت أن نموذج الحاوي الذي يفعل كل شيء بالكرة هو نموذج محبب له، حيث إنه حين تحدث عن رحلته مع المنتخب الأوليمبي، أشار إلى محمد إبراهيم بصفته أفضل لاعبي الجيل، واصفا إياه بأنه "حريف أوي، وممكن يكلّم الكورة"، وهو وصف مشابه لشريف العراقي، الذي زامله في ملاعب الخماسي، وكان أمهر لاعبي فريق صلاح بشهادته هو نفسه وباقي أعضاء الفريق، حيث قال عنه: "كان بيكلّم بلاط الملعب"، كناية عن قدراته الفائقة في التحكم بالكرة. (6)

 

حين سجَّل محمد صلاح هدفه الشهير في مرمى مانشستر سيتي موسم 2022، بعد مراوغة استثنائية لبيرناردو سيلفا وإيمريك لابورت، أكَّد محمد أبو تريكة أن "مو" مازحه بعد المباراة في محادثة هاتفية، حيث قال عن بيرناردو سيلفا الذي لم يترجم مراوغة صلاح وسقط أرضا إنه على الأرجح لم يلعب "خماسي" من قبل. (7)(8)

 

الحديث المتكرر عن كرة الشارع طوال مسيرة صلاح، منذ بزوغ نجمه في مصر مع المقاولون العرب وحتى أصبح مرشحا للفوز بالكرة الذهبية يُبرِز حجم تأثره بها، وكيف منحته العديد من لحظات الارتجال والفوضى غير المفهومة ليتفوق على أفضل المدافعين، وكيف جعلت نقطة قوته في أحيان كثيرة أنه غير متوقع، ولا يستخدم نمطا متعارفا عليه حين يوجد في مساحة ضيقة. كل ذلك إضافة إلى باقي إمكانياته بالطبع، ولكنها نقطة محورية منحته العديد من اللحظات الاستثنائية في مسيرته، ربما لم تكن تتحقق لو حلَّت إحدى الأكاديميات محل كرة الحواري والأزقة في طفولته.

 

"مينتاليتي"

في الحقيقة، لم يكن انفجار محمد صلاح في ليفربول وليد المصادفة، وأيضا لا يمكن أن يُفسَّر فقط بأن يورغن كلوب طوَّره فأصبح خارقا، لأنه ببساطة قدَّم مستويات خارقة بمجرد انضمامه إلى الريدز، إضافة إلى أن الكنز الحقيقي لم يكن بتلك السطحية، بل كان في الرحلة منذ بدأت، ووصولا إلى المرحلة الأهم التي شكَّلت نقطة التحول الأبرز في مسيرة الفرعون المصري؛ تلك التي كانت في روما.

 

عن تلك المرحلة قال صلاح نفسه في حوار سابق مع موقع "sport illustrated" إنه ممتن لثلاثة أشخاص في روما، أولهم المدرب لوتشيانو سباليتي الذي جعله يفهم اللعبة أكثر، وجعله لاعبا أفيد للفريق تكتيكيا في مختلف مراحل اللعب، ولكن بالإضافة إليه، كانت هناك أسماء أخرى تعمل مع الفرعون المصري خلف الكواليس، وتمنحه كل ما كان ينقصه ليقف على منصة واحدة بين اللاعبين الأفضل في العالم. (9)

 

هنا لا بد أن نتحدث أولا عن الثنائي إد ليبي محلل الأداء، وداسي نورمان مراقب الأداء لذئاب العاصمة، الأخير آمن بموهبة صلاح، وقرر إكمال القطع الناقصة له، ومن وجهة نظره، كان الفرعون المصري ينقصه شيئان فقط؛ أولهما أن يهدأ قليلا لكي يستطيع تغيير اتجاهه بسرعة أثناء ركضه، وقد تطور ذلك بالفعل من خلال جلسات اليوغا التي واظب عليها معه، فضلا عن ممارسة السباحة، وبعض التدريبات التي تساعده للحفاظ على توازنه وثباته على الأرض، وتحسين كفاءة قدمه اليمنى التي لم يكن يستخدمها من قبل، من خلال تمارين الارتكاز على قدم واحدة. (10)

 

أيضا كان هناك اللاعب الكولومبي السابق خيم بابون، الذي أجرى تحليلا مبدئيا لنقاط قوة صلاح، وتلك التي يحتاج إلى التحسن فيها، لينتقل للعيش في روما لكي يُشرف على ذلك بنفسه، ويؤسس له "مو" ملعبا صغيرا في منزله ليبدأ العمل رفقته. بابون رأى أن صلاح يحتاج إلى الركض بالكرة أقل، وكذلك هندسة الطريقة التي يدخل بها منطقة الجزاء، حتى لا يدخلها في وضعيات خاطئة لا تسمح له بصناعة الخطورة على المرمى، فأقام له تدريبات خاصة تساعده على دخول المنطقة بالعرض، أو بزاوية مائلة تفتح له زوايا تسديد أكثر خطورة. (11)

 

فضلا عن ذلك، امتلك صلاح نهم المعرفة، الذي بدأ معه رحلته حسب كل مَن رافقوه فيها. يحكي الجميع عنه، وأيضا هو عن نفسه، أنه كثير السؤال، يسأل مَن سبقوه خبرة في كل شيء، يسأل حراس المرمى كيف يتعاملون مع المهاجمين ومع ضربات الجزاء، يريد أن يعرف كيف يفكر الجميع حتى يستطيع التفوق عليهم ذهنيا قبل أي شيء. شخص قرر مراكمة أكبر كمٍّ ممكن من الخبرات، ليصنع بها مزيجا مع التدريبات والتطور الفردي والجماعي، ويُنتج في نهاية المطاف نموذجا متكاملا ومتعدد نقاط القوة، وقادرا على التكيف في أي بيئة عمل كانت. (12)

 

هكذا قدَّم صلاح نسخته المرعبة، التي ظلت تزداد بريقا كلما مر موسم، وكلما حقق رقما أو إنجازا جديدا ظن مَن حوله أنه سيكون نهاية الرحلة، والكنز الذي بحث عنه الفرعون المصري منذ بداية رحلته، لكنه كان يفاجئهم بأنها خطوة بداية نحو إنجاز جديد، وتطلُّع جديد للأمام، حتى بعد تخطيه الثلاثين من عمره، ما زال يمتلك الحلم الطفولي نفسه الذي كان يدفعه للاستيقاظ فجرا للسفر 5 ساعات نحو القاهرة لحضور التدريبات، وكأن الحكاية تبدأ للتو.

 

الحياة بعد الثلاثين

بعد الثلاثين، لا يصبح الجسد كما كان عليه في العشرينيات. وعليه، يبحث الرياضي عن الخبرات التي راكمها لكي تساعده على تعويض ذلك. وفي حالة صلاح، يبدو ما راكمه غزيرا جدا، وهو ما يجعل الحياة بعد الثلاثين ببريق ما قبلها نفسه، وربما تساعده الخبرة على زيادة البريق، وبدء فصل جديد من الحكاية في الوقت الذي يراهن فيه البعض على نهايتها.

 

لم يصبح "مو" في حاجة إلى الركض كثيرا، أصبح أقوى بدنيا لدرجة تجعل بيرناردو سيلفا يتعلّق به بكامل جسده من أجل إيقافه، فيسقط البرتغالي أرضا قبل أن يسقط الفرعون، بات أذكى وأكثر قدرة على المكر والخداع، ذهنه صار حاضرا بصورة أفضل، لكي يستحضر مراوغات الشارع وما تعلَّمه في تشيلسي وفيورنتينا وروما وجلسات اليوغا والكتب التي قرأها، يتصرف بالطريقة الأمثل لأنه يتخيّل في رأسه كل المواقف التي من الممكن أن يمر بها، يعيشها في خياله بالأحرى قبل أن يعيشها في الملعب فيما يُعرف بالـ "meditation"، لذلك يستحضر عقله الحلول الأفضل في أقل من ثانية، ليسبق مَن حوله ذهنيا، وتصبح سرعة البديهة أهم في بعض الحالات من سرعة الركض. (13)

 

الحياة بعد الثلاثين لن تختلف كثيرا، لأن بطل الحكاية لم يشبع بعد من الركض والأحلام، يطير أمامنا، وكلما رأيناه يُحلِّق، تذكَّرنا أن خيط أحلامنا معقود بأقدامه، وشاهدنا كيف يعقد العزم على كتابة فصول جديدة من قصته التي تمتلك بين سطورها ما هو أبعد من الخيال، منشغلا بالبحث عن الحلم، لكي يخيط طرفَهُ في أطراف أصابعه ويُحلِّق بلا مدى، وبلا توقُّف، وبلا رغبة في كتابة نهاية منطقية لرحلته.

———————————————————-

المصادر

1 – فيلم الحريف – إنتاج 1983 

2 – فيلم العالمي – إنتاج 2009 

3 – قصة سعيد الحافي أشهر لاعب كرة شراب في مصر 

4 – صلاح يتمنى الفوز بدوري أبطال أوروبا مرة ثانية 

5 – حديث والد محمد صلاح عن دور نادي مقاولون طنطا في مسيرة نجله 

6 – صلاح يتحدث عن فريق "الخماسي" في طفولته 

7 – هدف صلاح في مرمى مانشستر سيتي موسم 2022 

8 – أبو تريكة يكشف سر هدف صلاح التاريخي في مانشستر سيتي 

9 – صلاح يتحدث عن دور حقبة روما في صناعة نسخته المتطورة 

10 – المصدر السابق

11 – المصدر السابق

12 – كيف أصبح محمد صلاح مميزا في تنفيذ ركلات الجزاء؟ 

13 – صلاح يتحدث عن دور الـ "meditation" في حياته