شعار قسم ميدان

من مُدوِّن إلى رئيس نادٍ.. القصة المثيرة لرئيس مارسيليا صاحب الـ34 عاما

اضغط للاستماع

كم يبلغ عمرك؟ على الأرجح ستكون في العشرينيات أو الثلاثينيات. إذا كان هذا صحيحا، فلا بد أنك تنظر بعين الإعجاب لـ "يوليان ناغلزمان"، ذلك المدرب الذي سيتولّى المسؤولية الفنية لبايرن ميونخ قبل أن يتم عامه الـ34. هو شاب مثلك، لعله أصغر أو أكبر قليلا، سيُوجِّه "روبرت ليفاندوفسكي" و"توماس مولر" في التدريبات، ويقابل "غوارديولا" و"زيدان" في المؤتمرات الصحفية، ويستمع داخل الملعب لهتافات باسمه من جماهير أحد أكثر أندية أوروبا شعبية، ثم يجني، علاوة على كل ذلك، مقابلا ماليا بالملايين. (1)

بالتأكيد ستكون هذه تجربة رائدة على المستوى التدريبي، لكن هناك تجربة أخرى انطلقت بالفعل منذ فبراير/شباط الماضي في فرنسا لم تنل القدر المستحق من الانتباه. بطل تلك التجربة شاب لم يتجاوز عمره هو الآخر الـ34، ولكنه تولّى منصبا أكبر من المدرب والمدير التقني والمدير الرياضي، بل إنه صعد لقمة الهرم الإداري للنادي وتقلَّد رئاسته، بعدما أقنع المُلّاك بقدرته على قيادة مشروع يضع مارسيليا في الواجهة. (2) هذا الرجل اسمه: "بابلو لونغوريا"، وهو يمتلك قصة تستحق أن تُروى، بدأت وهو مراهق ينشر التدوينات عن اللاعبين والفِرَق، وانتهت به رئيسا لنادٍ أوروبي له اسم وتاريخ وشعبية.

مبدئيا، دعنا نخبرك أنك ستلاحظ تشابها بين نشأة بابلو وبين نشأتك، فهو مثلك بدأ اهتمامه بكرة القدم مبكرا، هذا الاهتمام هو ما دفع الولد الإسباني لمشاهدة أول مباراة وهو في عمر 12 عاما. ما لبث أن تحوَّل ذلك الاهتمام إلى شغف حقيقي، فكان يتنقل بين المحطات التلفزيونية بحثا عن المباريات والنشرات الرياضية، ويُسجِّل أسماء الفِرَق والمدربين واللاعبين في مذكراته. (3)

بابلو لونغوريا

طبعا لم تخلُ طفولته من ألعاب الفيديو، خصوصا مع انتشار الاختراع العبقري الذي يُسمى "Playstation". ذلك الصندوق السحري الذي يُوصَّل بالتلفاز، ويتيح الفرصة -عبر ذراع التحكم- للأطفال والمراهقين كي يكونوا مدربين لفِرَقهم المفضلة، فيمكنهم رسم الخطط واختيار اللاعبين وإجراء التبديلات. وهنا اكتشف جيل كامل ماذا يمكن أن يصنع "روبرتو كارلوس" إذا لعب مهاجما، وتفاجأ بقدرات منتخب نيجيريا الذي يستطيع مجابهة فِرَق أوروبا وأميركا الجنوبية، وابتسم لسماع اسم "مصطفى حجي" بصوت معلق ياباني.

كان لونغوريا قد أتم عامه الرابع عشر حين صدرت لعبة "Fifa 2000″، ليقع في حب تلك النسخة سريعا، والسبب يعود لخاصية "Football Manager" التي ظهرت لأول مرة آنذاك، ومنحته فرصة إدارة شؤون فريق داخل الملعب وخارجه بصورة افتراضية وعبر موسم كامل. كانت هذه المرة الأولى التي يُخطِّط فيها لونغوريا لانتداب اللاعبين، واختيار مَن يغادر قائمة فريقه الإلكتروني، مستغلا قاعدة البيانات التي أخذ يبنيها بسبب مشاهدة المباريات بصورة مستمرة. (4)

لم يتوقَّف شغف صاحبنا بكرة القدم عند محطة ألعاب الفيديو، بل إنه وصل إلى مستوى مختلف مع اختراع آخر يفوق الـ"Playstation" عبقرية، وهو الإنترنت. كان ذلك في أوائل الألفية أيضا حين بدأ استخدام الشبكة العنكبوتية يروج بين الشباب، حيث المنتديات التي يعرفها جيدا كل مَن تصفَّح الشبكة قبل فيسبوك وتويتر. وقد اشتهر آنذاك حساب إلكتروني باسم "Longo" على منتدى مختص بكرة القدم يُدعى "Soccer role"، ويمكنك طبعا تخمين مَن صاحب هذا الحساب. (5)

في الواقع لم يكن بابلو عضوا مميزا في المنتدى وحسب، بل أنشط الأعضاء وأكثرهم متابعة، إذ كان يُدوِّن باستمرار عن تلك المباريات التي يتابعها من الملعب، ويهتم بتفاصيل دقيقة عن قرارات المدربين وتحركات اللاعبين. كان لافتا للنظر مدى انغماس المراهق الإسباني في شؤون اللعبة، وبحثه عمن يشاركه الإجابة عن تساؤلاته التكتيكية، وهو ما أعجب السيد "أكسيل توريس" بشدة. (6)

أكسيل توريس

مَن هو أكسيل؟! صحفي وإعلامي كتالوني، امتلك من التواضع ما يكفي حتى يدعو بابلو صاحب الـ19 عاما لمقابلته، وتفاجأ حين عرف أن الشاب كان سيأتي على كل حال كي لا يُفوِّت مشاهدة مباراة إسبانيول وباليرمو من الملعب. انتهت المباراة، وشرع الثنائي في مناقشة ما دار خلالها من أحداث، وما إن فرغا حتى عرض توريس عليه العمل ضمن طاقم إعداد أحد برامج راديو ماركا. (7)

ربما ظن أكسيل أن هذا هو أول عرض عمل يستقبله لونغوريا، لكنه في الواقع لم يكن كذلك، لأنه لم يكن الوحيد الذي يلاحظ نهم الشاب الشديد لكرة القدم، بل سبقه إلى ذلك رجل آخر يُدعى "إيوغينيو بوتاس"، وهو وكيل لاعبين يتعاون مع عدة أندية، خصوصا في منطقة أشتورية حيث وُلد بابلو، وقد انبهر بسعة معرفة الأخير باللاعبين داخل إسبانيا وخارجها، وقدرته على تقييم مزاياهم وعيوبهم، لذلك لم يتردد في ضمه لفريق اكتشاف المواهب الخاص به، وهو لا يزال في عمر 18 عاما فقط. (8)

بالتأكيد أدهشت تلك المعلومة الصحفي الكتالوني، فليس من المعتاد أن يعتمد مسؤول رياضي على رؤية مراهق في مثل سن بابلو، وهو ما زاد الصحفي رغبة في التعاون معه، فاتفقا على المساهمة في برنامج الراديو كلما سمح وقته، ثم استأذن لونغوريا ليغادر، إذ كان عليه العودة سريعا لمشاهدة مباراة أخرى عبر التلفاز، فمهووس مثله لن يكتفي بمباراة واحدة في اليوم على كل حال.

نحن نعرف أن اسم إيوغينيو بوتاس ليس أسهل الأسماء، لكن حاوِل أن تتذكّره جيدا، لأنه لعب دورا مهما للغاية في مسيرة بطل قصتنا، فهو أول مَن راهن على نجاحه، بل قال إن الرهان على شخص بهذا الشغف، والقدرة على مراكمة المعرفة، والنشاط الدائم على الأرض والإنترنت، كان رهانا مضمونا. (9)

تأكَّدت نبوءة الوكيل الإسباني سريعا، وبدت التقارير التي يُقدِّمها صاحبنا عن المواهب الصاعدة مختلفة عما يُقدِّمه بقية أقرانه، حيث كانت أكثر دقة وتفصيلا، وهو ما ضاعف من رصيده داخل فريق اكتشاف اللاعبين، وجعل بوتاس يؤمن أن الولد الذي تجاوز بالكاد عامه العشرين سيذهب بعيدا إذا أُتيحت له الفرصة، وقد جاءت الفرصة الأولى عام 2007 حين طلب نادي نيوكاسل الإنجليزي انتداب كشّاف، فرشَّحه وهو ابن الـ21 ربيعا. (10)

"دينيس وايز"، كبير كشّافي نيوكاسل، الذي اطلع على عمل بابلو، ولاحظ قدرته على توسيع نطاق البحث عن اللاعبين

طبعا لم يمر الخبر مرور الكرام، على الأقل بالنسبة لجمهور نيوكاسل، وتساءلوا عن جدوى انتداب شاب إسباني، بلا خبرة تقريبا، وأهم مزاياه هي استخدام الإنترنت. (11) الإجابة كانت عند السيد "دينيس وايز"، كبير كشّافي نيوكاسل، الذي اطلع على عمل بابلو، ولاحظ قدرته على توسيع نطاق البحث عن اللاعبين، واختياره مواهب أثبتت كفاءة فنية وبدنية حين صعدت للفريق الأول، فتأكَّد أنه سيُمثِّل إضافة للنادي. أما اللغة فلم تُمثِّل أي عائق، ﻷن لونغوريا كان قد أضاف الإنجليزية بجانب الإسبانية، وشرع في تعلُّم لغة ثالثة.

أمضى الوافد الجديد بضعة أشهر داخل جدران نيوكاسل، انخرط خلال تلك الفترة في عملية اختيار النادي للاعبين؛ بداية من وضع المعايير الفنية لكل مركز، إلى جمع المعلومات عن اللاعبين، ومتابعتهم عن قرب من خلال 30 كشّافا حول العالم يتعاونون مع النادي، وصولا إلى إعداد تقارير بصورة احترافية عنهم، ثم تصفية أفضلهم وأكثرهم ملاءمة لميزانية النادي وحاجة المدرب، وحتى الاستقرار على اسم بعينه بعد موافقة المدير الرياضي والجهاز الفني. (12) كل ذلك صقل خبرته، وأضاف إلى دائرة معارفه أشخاصا يعملون في مواقع مختلفة، وأهَّله ليخطو خطوته القادمة التي كانت أكثر إثارة ومغامرة.

إنه يناير/كانون الثاني 2009، يرن هاتف لونغوريا، وعلى الخط السيد بوتاس. لم يتصل الوكيل الإسباني ليهنئه بعيد ميلاده الـ22، بل ليدعوه لاجتماع طارئ في بلدة بونتا أمبريا جنوب إسبانيا. اضطر بابلو للتوقف عن مشاهدة مباريات اليوم، ومنح الحاسب الآلي بعض الراحة، وانطلق إلى هناك، ليجد مسؤولي نادي ريكرياتيفو الذي كان يصارع بالليجا وقتئذ في انتظاره.

بصراحة نحن لا نعرف بالضبط بماذا شعر وهو يستمع لعرض المسؤولين، فبعدما تحدَّثوا عن الأهمية التي يوليها النادي لفريق اكتشاف المواهب، لتضييق الفوارق المالية والتسويقية مع الأندية الكبيرة، عرضوا عليه فكرة العمل معهم، لكن هذه المرة لم تكن الوظيفة المتاحة هي مجرد كشّاف، بل رئيس فريق الكشّافين في النادي. (13)

الأمر يشبه أن يستدعي رئيسُ مجلس إدارة شركة مهندسا حديث التخرج ليخبره بإعجابه بعمله، ثم يطلب منه رئاسة مجموعة من المهندسين، أغلبهم يكبره سِنًّا، لتنفيذ مشروع كبير. هو تحدٍّ صعب، ومخاطرة غير مأمونة العواقب، قد تدفع باسم بابلو عاليا إذا نجح، أو تُحوِّله إلى أضحوكة إن أخفق. الشيء الأكيد أن طموحه تغلَّب على مخاوفه، فوافق على العرض قبل أن ينتهي الاجتماع، وخرج منه ليُكرِّس حياته لكرة القدم، فعلا لا قولا.

مبدئيا، لم يكتفِ صاحبنا بمشاهدة المباريات المحلية، بل أراد أن يشاهد كل شيء. المشكلة هي أن مواعيد المباريات سوف تتعارض، واليوم لن يصبح 48 ساعة أبدا مع الأسف. وكي يتغلب على ذلك، استعان بأربعة أطباق أقمار صناعية مع أجهزة لتسجيل المباريات في منزله. وهكذا بات قادرا على متابعة البطولات المختلفة، بما في ذلك الدوريات المغمورة مثل الدوري النمساوي والدنماركي، كما بعض مباريات أميركا الجنوبية، وأخيرا بطولات الناشئين المجمعة كمونديال الشباب أو يورو تحت 19 سنة. (14)

وصل به الحال إلى درجة لا تُصدَّق، فكان يشاهد أحيانا سبع مباريات مسجلة في يوم واحد ليُدوِّن ملاحظاته عن بعض اللاعبين، ولم يكن هذا كل ما يفعل (15)، إذ احتاج إلى أن يكون له عيون تراقب الأكاديميات في الدول المختلفة، وهنا سعى لتكوين علاقات مع كشّافين يعملون بصفة حرة في أوطانهم، فكان يُجري معهم الاتصالات بصفة مستمرة، ويسافر أحيانا للقائهم لمتابعة الجديد.

أما فريق الكشّافين الذي يعمل تحت رئاسته بالنادي، فلا يبدو أنه عاش أكثر أوقاته راحة، حيث حدَّد لهم بابلو قائمة طويلة من المعلومات يريد جمعها عن كل لاعب، وبدا مهتما بالأرقام في وقت لم تكن فيه البيانات وشركات الإحصاء كما هي الآن، حتى إن "مارسيلينو غارسيا"، مدرب أتلتيك بلباو الحالي وزميل مسيرة لونغوريا، يقول إنه لا يذكر أن سأله مرة عن لاعب معين إلا وأخرج له قائمة من الخصائص، بعضها لم يخطر ببال مارسيلينو حين سأل أصلا. (16)

كما تتوقَّع الآن، صمد لونغوريا أمام تحدي ريكرياتيفو، بل وجدَّدت فيه الإدارة الثقة أكثر من مرة، ﻷنه نجح في انتداب لاعبين مميزين من مناطق مختلفة حول العالم، بداية من ألمانيا وحتى بوروندي، جاءوا بأثمان قليلة، وقدَّموا أداء متميزا على الملاعب الإسبانية، بعد ظهورهم على رادار بابلو، ثم رهانه عليهم. (17)

وبينما كان هؤلاء الشبان على رادار لونغوريا، كان هو على رادار إدارة أتالانتا. وحين يلفت كشّاف مواهب انتباه هذا النادي الإيطالي تحديدا، فهذا مؤشر على جودة عمله، لأن مشروع أتالانتا الذي انطلق في التسعينيات يقوم أساسا على تكوين قاعدة ناشئين قوية، وذلك بجذب أفضل المواهب، ثم العمل على تطويرهم في الفئات السنية المختلفة ضمن أسلوب لعب موحَّد، قبل تصعيدهم للفريق الأول. (18)

ولذلك اهتمت إدارة النادي بالتعاقد مع أمهر الكشّافين، ومنحتهم رواتب مرتفعة قياسا بالأندية الأخرى، ثم قدَّمت لهم الإمكانيات لتذليل الصعاب، ﻷن كل ذلك سيُمكِّن أتالانتا من مجابهة الفِرَق التي تفوقه في الإمكانيات المالية، كما يحدث الآن في الكالتشيو. بالتأكيد كان بابلو يعرف كل ذلك، وربما هذا ما دفعه لقبول عرض النادي الإيطالي حين وصله في نوفمبر/تشرين الثاني 2010. (19)

كان لا يزال رئيسا لفريق الكشّافين بنادي ريكرياتيفو، لكنه ضحى بمنصبه ليعمل كشّافا عاديا في أتالانتا. لماذا؟ لأنها تجربة ستُضيف الكثير إلى خبرته، فهناك انخرط داخل نظام ممنهج جدا، مكوّن من هيكل إداري ووحدات متخصصة، تقوم على تقييم اللاعب بأدوات إحصائية أكثر دقة، ويستخدم الكشّافون الفيديو بشكل مختلف لم يعتده لونغوريا، وتُحدَّث بيانات اللاعبين دائما على مختلف الأصعدة الفنية والبدنية والطبية. (20)

ربما كان الشاب الإسباني محظوظا بانضمامه لأتالانتا في هذا التوقيت تحديدا، إذ استهدفت الإدارة الصعود للدرجة الأولى، ثم الاستقرار هناك وعدم الهبوط كما كان يحدث سابقا، وهذا الهدف حوَّل وحدة الكشّافين إلى خلية نحل لا تكل ولا تهدأ. وحين تحقَّق الهدف فعلا بصعود الفريق عام 2011، ونجاحه في تثبيت أقدامه عبر سلسلة من العروض المشرفة، كان اسم بابلو لونغوريا قد ازداد بريقا بين الإدارات الرياضية.

من بعيد، كانت إدارة نادي ساسولو تراقب أشبال أتالانتا وهم يحققون النجاح تلو الآخر. يصعدون للدرجة الأولى، ثم يلعبون بجرأة أمام فِرَق عريقة، فينتزعون منها النقاط. وهكذا وجدت الإدارة أن عليها الاستفادة من هذا النموذج، ببساطة لأنها تريد تحقيق الهدف نفسه، لكنها تعاني من الظروف الاقتصادية المقيدة نفسها. هنا شرعوا في البحث وراء نقاط القوة في مشروع أتالانتا، ليجدوا أن عليهم إجراء تغيير جذري في وحدة اكتشاف اللاعبين. كانوا يبحثون عن شخص يمكنه قيادة هذا التحوُّل، فحصلوا على رقم هاتف أحد أفضل الكشّافين، واسمه بابلو لونغوريا.

كان ذلك في منتصف عام 2013، بعدما أكمل بابلو لتوّه عامه السابع والعشرين، وبات يحظى بتقدير كبير داخل أتالانتا، لكنه رحَّب بالتعرُّف على خطّة إدارة ساسولو حين طلبت الاجتماع معه، قبل أن يختار مرة أخرى القفز من المنطقة المريحة، ويوافق على تحمُّل مسؤولية وحدة الكشّافين في النادي الصاعد حديثا للكالتشيو، الذي لا يريد أن يكون فريسة سهلة لحيتان الدوري. (21)

الآن يبدو صاحبنا أكثر خبرة عما كان عليه حين تولى المنصب ذاته في ريكرياتيفو، لكنه أيضا بات أكثر ولعا بالتفاصيل وهوسا بدقّة العمل. إذ يحكي "خافي ألونسو"، الكشّاف الذي عمل تحت رئاسته بساسولو، عن صرامة لونغوريا التي ظهرت منذ اللحظة الأولى، بحيث طلب من كل فرد بالوحدة جهدا أكبر، وقدرة أفضل على التطور يوما بعد الآخر. (22) كان لا يترك أي شيء للمصادفة، بداية من طريقة تقييم اللاعبين، وحتى هيئة التقارير الكشفية.

حتى إنه لم يعتمد بصورة نهائية على تلك التقارير، بل كان يسافر بنفسه ليتابع اللاعب المستهدف في الفترات التحضيرية قبل بداية الموسم، وكذلك وقت تلاحم المباريات. كان يُسجِّل كل شيء، حتى سلوكيات اللاعب وطباعه، فيُقيم في الفندق نفسه الذي يوجد فيه الفريق، ويلاحظ تعامل اللاعب مع زملائه والتزامه بالمواعيد وحرصه على النظام الغذائي (23)، وكأنه جاسوس يجمع المعلومات في مهمة سرية.

يؤكد خافي أن رئيسه استهدف تقليل احتمالية الخطأ، ولذلك تعاقد مع شركة الإحصائيات المعروفة "driblab" لتمد فريقه بأدق البيانات الممكنة عن المواهب، ثم درَّب هذا الفريق على تحليل تلك البيانات بحيث تتحوَّل إلى صورة متكاملة عن اللاعبين، وبناء عليه يُحدَّد اللاعب الأنسب للفريق بحسب مركزه. (24)

ويبدو أن كل ذلك العمل قد آتى أُكله، ليس لأن ساسولو نجا من شبح الهبوط وحسب، بل لأنه فعل ذلك بميزانية لم تتخطَّ 35 مليون يورو، وقدَّم مجموعة متجانسة من الموهوبين أصحاب المستقبل المُبشِّر. حتى إن النسخة الإيطالية من موقع غول نشرت في صيف 2014، بعد عام من تعيين لونغوريا، تقريرا بعنوان: "على إيطاليا أن تشكر ساسولو" (25)، لأنه منح الفرصة للاعبين مثل دومينيكو بيراردي وسيموني زازا الذين قد يستعين بهم منتخب الأزوري قريبا، وهو ما كان.

إذا كانت هناك حقيقة واحدة أكَّدتها تجربة الشاب الإسباني مع ساسولو فهي أنه صار أفضل كشّاف لاعبين في إيطاليا. وليس أدل على ذلك من أن النادي الإيطالي الأكبر سعى نحو الاستفادة من خدماته، ليجلس بابلو على كرسي كبير كشّافي يوفنتوس عام 2015، وهو لم يتم عقده الثالث بعد. (26)

كان انطباع مسؤولي البيانكونيري عنه إيجابيا. حاول السيد "خافيير ريبالتا" كبير كشافي يوفنتوس آنذاك التعبير عن ذلك، فوصف لونغوريا بأشياء عديدة؛ تارة يصفه بالماكينة التي لا تتوقف عن العمل، وتارة بالمحلل الفذ الذي يمكنه قراءة سمات أي لاعب، وتارة ثالثة بالمدير الذي سيجد حلا لأي مشكلة تواجه فريقه، وتارة أخيرة بالمريض الذي أصابته كرة القدم بالهوس. (27)

كان صاحبنا مسؤولا عن متابعة اللاعبين خارج أوروبا، ولعل دوره في حسم صفقة "رودريغو بنتانكور" يمنحنا صورة عما كان يقوم به، إذ لم يكتفِ بأرقام وفيديوهات اللاعب الأوروغوياني مع بوكا جونيورز، وإنما سافر لبوينس آيرس ليقضي أسبوعا كاملا. شاهد رودريغو في التدريبات والمباريات، وتعرف عن قرب على عقلية اللاعب، قبل أن يمنح الضوء الأخضر لانتدابه، ويُثبت الوافد أن بابلو كان مُوفَّقا. (28)

بمرور الوقت، بدأت الإدارة إشراكه في مستوى أعلى من القرارات، يخص رؤية النادي وإستراتيجيته، حيث بدا أن المدير الرياضي "فابيو باراتيتشي" يثق فيه، ويمنحه مسؤوليات أكثر وسلطات أعلى، لدرجة أن ريبالتا يقول إنه كان يقوم بخمسة أدوار في الوقت نفسه، وفي كل مرة يؤكد لونغوريا جدارته.

ومن هنا جاء ترشيحه لمنصب المدير التقني بنادي فالنسيا مطلع 2018، ليُزامل من جديد المدرب مارسيلينو في قيادة دفّة الفريق الإسباني. رسم الثنائي ملامح مشروع يستهدف تحسين وضع الفريق، في حدود ميزانية النادي المتواضعة بسوق الانتقالات، وكانا يشتركان في الكثير من الأفكار حول كرة القدم، ويعملان بتناغم واجتهاد شديدين، ولذلك أحس كثيرون أن النجاح سيحالف هذه التجربة. (29)

البداية كانت مُبشِّرة للغاية، بالطبع أنت تعرف الآن نمط عمل بابلو لونغوريا جيدا، فقط أضف إلى معلوماتك قدرته على إقناع اللاعبين بتفضيل فالنسيا على العروض الأخرى. وهذا ما حدث وقت انضمام مختار دياخابي، ويوروش راتشيتش. وحتى بعد ضمّهما، كان حديث بابلو معهما دافعا للتطوّر دائما. (30)

ورغم كل تلك المؤشرات الإيجابية، فإن تلك التجربة لم تنتهِ نهاية سعيدة. كان ذلك بسبب الخلافات التي اشتعلت بين إدارة "بيتر ليم" من جانب، ومارسيلينو من جانب آخر، وانتهت مع تراجع نتائج الفريق مطلع موسم 2019-2020، ومن ثم إقالة المدرب. وهنا أخذ لونغوريا صف صديقه، وقدَّم استقالته. (31)

المثير أن الثنائي لم ينخرط سريعا في أي تجربة بمجرد نهاية علاقتهما بفالنسيا، بل تريَّث كلاهما قبل اتخاذ الخطوة القادمة، وكأنهما كانا يبحثان عن المشروع المناسب، تفاديا لتكرار ما وقع في قلعة الخفافيش. انتظر بطل قصتنا حتى صيف عام 2020 ليصل مارسيليا ويتولى منصب المدير الرياضي. (32)

 

لا يبدو أن بابلو كان مقتنعا بمشروع مارسيليا الجديد وحسب، بل مُتحمِّسا له بشدة، لدرجة التعبير عن رغبته في أن يكون النادي الفرنسي ضمن الأندية العشرين الأقوى في أوروبا، واستعداده للعمل لسنوات قادمة لتحقيق هذا الهدف. (33) في الواقع، كان المالك الأميركي للنادي "فرانك ماكورت" هو الآخر مُتحمِّسا للشاب الإسباني، والسبب هو أن اجتذاب اللاعبين المتميزين، كما الاهتمام بقاعدة الناشئين، كانا من المحاور الأربعة لمشروع السيد ماكورت حين استحوذ على النادي عام 2016، ويبدو أنه أُعجِب بنجاحات لونغوريا في هذا الشق.

تأكَّد انطباع رجل الأعمال الأميركي عن صاحبنا سريعا، إذ نجح في الأسابيع الأولى في انتداب 5 لاعبين متميزين، بعضهم يعرفه بابلو منذ سنوات بعيدة بسبب عمله الكشفي، كلاعب وسط الملعب الواعد "بابا جايي"، ومدافع بروسيا دورتموند "ليوناردو بيلاردي". (34) طبعا كان ذلك عملا جيدا من المدير الرياضي، نظرا لضيق الحيز الزمني بين وصوله فرنسا وغلق نافذة الانتقالات، لكنه لا يُقارن بما حقَّقه خلال انتقالات يناير/كانون الثاني التالي.

لماذا؟ لأنه حافظ على القوام الرئيسي للفريق متماسكا، وأقنع نجومه بالاستمرار حتى نهاية الموسم للمنافسة على حجز بطاقة أوروبية، فبقي مدافع مارسيليا الأبرز "كاليتا-كار"، والمهاجم "ديميتري باييه"، والجناح "فلوران توفان". في المقابل، احتاج إلى إنعاش خزينة النادي، فتخلَّص من بعض اللاعبين نظير ما يزيد على 24 مليون يورو (35)، وهو ما مَكَّنه من ضم المهاجم "أركاديوش ميليك" في صفقة مفاجئة، وكذلك صانع الألعاب الناشئ "فرانكو تونغايا"، ليسد بذلك أغلب ثغرات الفريق، ويخرج من هذا السوق بفائض مالي.

طبعا هذا لم يكن قمة الإثارة، فبعد أيام معدودة كان السيد ماكروت بصدد الإعلان عن قرار تاريخي، وهو إسناد منصب الرئيس لذلك الشاب صاحب الـ34 عاما، ليكون بذلك بابلو لونغوريا هو أصغر رئيس نادٍ في أوروبا. (36)

للوهلة الأولى، كان هذا القرار صاعقا، لأن الناس عادة تخلط بين الخبرة والسن، فكلما كانت سِن الشخص صغيرة كان ذلك مؤشرا على قلة خبرته، والعكس صحيح. والحقيقة أن مسيرة لونغوريا تُدمِّر هذا الزعم، لأنه على صغر سِنّه، يمتلك ما يزيد على 16 سنة من الخبرة، شغل خلالها مناصب إدارية متعددة، وترك من النجاحات ما جعل الكثيرين يحاولون انتدابه، فماذا ينقصه ليكون المسؤول التنفيذي الأول؟

بالتأكيد لم يُهدر صاحبنا وقته في الاحتفال، لأنه في صباح اليوم التالي، كان ينتظر وصول أحدهم من الأرجنتين. كان بابلو قد صرَّح أنه يريد مارسيليا أن يكون بوكا جونيورز الأوروبي، ولم يجد أفضل، وربما أكثر هوسا، من "خورخي سامباولي" ليكون مدربا. (37) قاد الأخير النادي الجنوبي لانتزاع بطاقة التأهل للدوري الأوروبي الموسم القادم، ليُحقِّق بذلك الخطوة الأولى في خطة الرئيس بابلو.

هذه المرة لا يمسك لونغوريا ذراع الـ"Playstation" ويُدير فريقا افتراضيا، ولا يكتب تدوينة عن تجارب الأندية والمدربين، ولا يحاول تحديد مزايا وعيوب لاعب معين، بل يُدير ناديا بحق، ويدفع البعض للكتابة عن قصته الفريدة، ويُلهم البعض الآخر حين يقرؤون عنه.

_________________________________________________________________

المصادر

1/ يوليان ناغلزمان يتولى تدريب بايرن ميونخ. 

2/ بابلو لونغوريا يتولى رئاسة نادي مارسيليا.

3/ نشأة بابلو لونغوريا. 

4/ اهتمام بابلو بلعبة "fifa 2000".

5/6/ نشاط لونغوريا على الإنترنت. 

7/ لقاء الصحفي أكسيل توريس ببابلو. 

8/10/12/ مسيرة لونغوريا في فِرَق الكشافين.

9/ إيوغينيو بوتاس عن بابلو لونغوريا. 

11/ تعجب جمهور نيوكاسل من انتداب بابلو. 

13/ بابلو يرأس فريق كشافي نادي ريكرياتيفو.

14/15/ لونغوريا يشاهد 7 مباريات في اليوم أحيانا. 

16/ مارسيلينو عن عمل بابلو. 

17/ تعاقد بابلو مع لاعبين من حول العالم. 

18/ مشروع نادي أتالانتا. 

19/20/ انضمام بابلو لونغوريا لأتالانتا.

21/22/23/ بابلو يتولى رئاسة كشافي ساسولو. 

24/ تعاون لونغوريا مع شركة "driblab".

25/ تقرير موقع غول عن ساسولو. 

26/ تعيين بابلو لونغوريا في يوفنتوس. 

27/28/32/ مسيرة بابلو في يوفنتوس.

29/30/31/ مسيرة لونغوريا في فالنسيا. 

33/34/36/37/ بابلو لونغوريا في مارسيليا. 

35/ سوق انتقالات مارسيليا. 

المصدر : الجزيرة