شعار قسم ميدان

عصر المشجعين الجدد..كيف اختلف جمهور كرة القدم بعد مواقع التواصل؟

هناك عدة حقائق صادمة لكنها ضرورية الذكر، الحقيقة الأولى أن أغلب جمهور كرة القدم لا يفهمها بشكل صحيح ولا يحاول فعل ذلك أصلا، الحقيقة الثانية أنه لا أحد يعلم ذلك، وكل مشجع يظن أنه أكثر شخص يفهمها في الكون، ولسوء الحظ فإن الذكاء المطلوب للإيمان بعدم فهم موضوع ما هو ذاته المطلوب لفهم هذا الموضوع. يبدو كلاما بلا معنى بالطبع، لكن دعنا نكمل، الحقيقة الثالثة أن هذه الحقائق ليست جديدة ولكنها منذ اختراع كرة القدم وهي كذلك، لكن الاعتراف بها الآن بات صعبا للغاية، لماذا؟ لأننا في عصر مواقع التواصل الاجتماعي.

 

يقول حكيم ما -لا نذكر اسمه الآن- إن "أسوأ شيء قد تفعله للعالم أن تعطي أحد الحمقى مكبر صوت، والأسوأ أن يعتقد هذا الأحمق بسبب صوته العالي الذي يسمعه الكثيرون أنه حكيم". لا نعلم هل أدرك هذا عصر مواقع التواصل أم لا؟ لكن دعنا منه الآن، نحن هنا لأجل حكيم آخر كان يقول إن "أندية كرة القدم لا يمكن أن تُدار من قِبل المشجعين". ربما كان تصريحه حقيقيا حين أطلقه، لكنه حينها لم يكن قد شاهد بعد أندية كرة القدم هذه الأيام، ولم يكن قد رأى بالطبع الجيل الحالي من المشجعين.

عصر المشجعين الجدد

مشجعو عصر مواقع التواصل

هذا هو المصطلح الذي صكّه جيمس كيركهام محرر موقع "copa 90" في ملفه الذي قام فيه بدراسة سلوك مشجعي كرة القدم الحاليين وبيان اختلاف سلوكياتهم وطرق تفاعلهم مع اللعبة، ومدى تأثير مواقع التواصل على أفكارهم وتصوراتهم، وطبقا لجيمس فالمصطلح يسري على الجميع، سواء كانوا المشجعين القدماء الذين أدركوا كرة القدم قبل دخول هذه المواقع وانتقلوا معها عندما ظهرت، أو المشجعين الذين بدؤوا تشجيع اللعبة عبر هذه المواقع، صحيح أن التأثير متفاوت ويظهر بشكل أكبر على النوع الثاني، لكن كلا الفريقين الآن صار يجلس في الغرفة ذاتها مع الآخر، ولم يعد من السهل التمييز بينهم داخل فضاء هذه المواقع.(1)

 

ما الذي تغيّر إذن؟ ما تغير هو أنه بدخول مواقع التواصل تحوّلت كرة القدم من مجرد منتج يُستَهلك لبضع ساعات أسبوعيا إلى منتج يُستَهلك على مدار الساعة، وهو ما تطلّب قدرا أكبر من المحتوى ليستهلكه الجميع، وبالتالي تحوّل المشجع من مجرد مستهلك سلبي للمحتوى إلى مُنتِج له، أو على الأقل عنصر فاعل في عملية الإنتاج، ولم يعد الأستوديو التحليلي هو محور عملية الإنتاج والمصدر الوحيد لها في كرة القدم، بل تم تجاوزه تماما حتى كاد يندثر، وانتهى بذلك عصر "احتكار الإنتاج" وانتقلنا إلى عصر "ديمقراطية المحتوى".

 

كذلك دخول الأندية واللاعبين إلى هذه المواقع ساهم في سهولة وصول الآراء إليهم، الإيجابية منها أو السلبية، وتسبّب استخدام الأندية واللاعبين هذه المواقع لغرض التسويق في إشعار المشجعين بأهمية أكبر من اللازم باعتبارهم العنصر الذي تقوم عليه صفحات هذه الأندية واللاعبين، والتي تُعَدُّ مصدرا أساسيا للأموال بالنسبة للجميع -يمكنك قراءة تفاصيل أكبر عن كيفية جَنْي هذه الأرباح عبر هذا التقرير-، وبسبب هذا الحرص على اكتساب المشجعين وإرضائهم؛ شعر المشجعون بأهميتهم ودورهم في العملية، وانتقلت بذلك مركزية اللعبة إلى الجمهور، وباتت الكثير من خيوط اللعبة في أيديهم بالفعل.

لأنهم يستحقون ذلك

مشجع كرة القدم بالملعب

يتقاضى اللاعبون الملايين سنويا، والمدرب كذلك، وبات هناك قناعة عند المشجع أنه هو مَن يدفع هذه الملايين، أو على الأقل يساهم في دفعها، وبالتالي فإنهم يعملون لخدمته، ودورهم الوحيد هو إرضاؤه، ومن البديهي أن يسبّهم عند التقصير، وقد يتجاوز ذلك ويسبّ عائلاتهم، والأكثر بداهة أن يتحملوا هذه الشتائم، لماذا؟ لأنهم يتقاضون الملايين التي يدفعها لهم المشجع، هذه قناعة متأصّلة لدى أغلب المشجعين الآن.

 

هكذا نشأ وضع مواقع التواصل الاجتماعي، الملايين من المشجعين المتحمسين يجلسون في مكان واحد لعدة ساعات يوميا، ويمتلكون وسيلة مباشرة للتواصل مع اللاعب أو المدرب أو النادي، وكذلك لا يخشى أحدهم أي ملاحقة أو تعقب، ويمتلك رغبة دفينة في إظهار مدى ولائه للنادي الذي يشجعه مهما كلّفه ذلك، لأنه طبقا لـ "سِد لو" محرر الغارديان فإن مشجع مواقع التواصل يبدو أكثر ولاء، أو يتظاهر بأنه كذلك، من المشجع الذي يحضر المباريات ويتشارك مع النادي مكانيا، كما في حالة المشجعين العرب للأندية الأوروبية على سبيل المثال.(2)

 

وكذلك لأن مواقع التواصل الاجتماعي أتاحت أن يكون مفهوم التضامن والانتماء مفهوما دراميا ومسرحيا يتم دون عناء عن طريق التفاعل الكلامي أو الصور بدون أي نتائج أو عواقب حقيقية، ضغطة زر هي كل العناء الذي تتكبّده لأجل أن تشعر بالانتماء هذه الأيام، والشخص نفسه لو تعرَّض للموقف على أرض الواقع فلن يتصرّف أو يفعل ما يفعله هناك، لكن إحساسه بأن هذه المواقع تتجاوز الحقيقة والواقع وليست جزءا منه هو ما يدفعه لذلك.(3)

 

ماذا أنتج هذا الوضع؟ أنتج مئات التعليقات على صفحة غرانيت تشاكا تتمنى وفاة ابنته الرضيعة لأنه ليس لاعبا جيدا، ومئات التعليقات على صفحة أحمد حجازي تتمنى مرض ابنه ووفاته لأنه ترك الأهلي وذهب إلى إنجلترا، وآلاف التعليقات العنصرية على بالوتيلي لأنه تجرأ وسخر من مانشستر يونايتد، ومئات التهديدات بالقتل لديان لوفرين لتسبُّبه بخسارة ليفربول في إحدى المباريات، ومثل ذلك ملايين التعليقات في كل أنحاء العالم تتراوح من مجرد انتقاد عادي أو آراء فنية وتكتيكية إلى حدِّ العنصرية وتمنّي الموت، والمشجع يفعل ذلك بفخر لأنه انتصر لناديه الذي يعشقه.(4)

وطبقا لقوانين المشجعين، فلا يحق للاعب الشكوى من ذلك أو انتقاد الوضع على هذه المواقع، لأنهم مَن صنعوا هؤلاء اللاعبين، وما داموا يشجعونهم عند الفوز ويمدحونهم عند الإجادة فلا بد أن يتحمّلوا السباب والعنصرية عند الهزيمة، وعدم تقبُّلهم ذلك يعني أنهم أصحاب شخصية ضعيفة ولا يتحمّلون الضغوط التي تتطلّبها كرة القدم، ومناقشة ذلك مع المشجع لا تُجدي نفعا، لأن ما يفعله ما دام يلقى صدى لدى الإدارات فلن يتوقف عن ذلك.

حتى لا يتكرّر أوريغي

على جانب آخر، نحن صرنا نستهلك كرة القدم على مدار الساعة، وما ندوّنه عبر هذه المواقع يبقى للأبد، وبما أن جزءا كبيرا من شعور الانتماء لدى البشر يكمن في اتخاذ عدو لتوجيه كراهيتهم نحوه، فلذلك كان من البديهي أن تنتقل المشاحنات بين جماهير الأندية المختلفة لتأخذ موقعها على رأس نقاشات مواقع التواصل، بل زادت حدّتها بشكل غريب حتى باتت حفلات مواقع التواصل مناسبة يخشاها الجميع عند خسارة فريقه، وربما صار الخوف منها أكبر من الحزن على خسارة الفريق من الأصل.

 

خسارة فريقك الآن لم تَعُد خسارة لفريق كرة قدم تحبه فحسب، بل باتت تعني أنك ستقضي فترة طويلة في تلقّي السخرية والإهانة وحفلات الكوميكس من مشجعي الفِرَق الأخرى، ويستمر ذلك حتى إشعار آخر من ناديك يُمكِّنك من قلب الطاولة ونقل الحفلة إلى الجهة المقابلة، وكلما زادت مرات خسارة فريقك أو تأخرت عودته للفوز قلّت أسهمك في هذا الصراع، وصرت الطرف الأضعف في هذه المعركة.

 

هذا هو ما جعل المشجعين الجدد أكثر تطلُّبا، وأقل تقبُّلا لحتمية الفوز والخسارة، ولم يَعُد من السهل إرضاؤهم، لأن الخسارة لم تَعُد تتوقف على وقت المباراة فقط، بل تمتد لساعات وأيام وربما سنوات، ولا يكاد المشجع ينساها حتى يُذكِّره بها الآخرون ويحيلون حياته إلى جحيم. هل تعتقد أن بإمكان أي مشجع للريال أن ينسى خماسية الكلاسيكو؟ أو أن مشجع برشلونة يمكن أن ينسى ليلة ليفربول مهما طال الوقت؟ مستحيل. مواقع التواصل قد حرمت الجميع من نعمة النسيان، لذلك لم تَعُد خسارة الفريق احتمالا واردا عند المشجعين حتى لا يُضطروا لمثل هذا، وحتى لا يظل أحدهم خائفا من فتح أي فيديو لعدة أشهر خوفا من أن يكتشف -للمرة المليون- أن الرابع سجّله أوريغي.

صعوبة الإرضاء كذلك تمتد إلى مستوى اللاعبين، هذه أكثر فترات كرة القدم ضغطا على اللاعبين والحكام، كل لعبة وكل تمريرة وكل تسديدة وكل صافرة تخضع لساعات من التحليل والتفصيل، كما يقول "شون إينغل" محرر غارديان فإن البعض يجلس ليتابع المباريات الودية ويحلّلها وينتقد اللاعبين على أدائهم خلالها، هذا مستوى جنوني من الاهتمام لم يتعرّض له أي جيل من الأجيال السابقة، ناهيك بأن تقييم المشجعين نفسه بات أكثر إجحافا نتيجة اختلاف فهم الجيل الحالي للكرة، وامتلاكهم تصورات مثالية وتوقعات عالية للغاية، وذلك لعدة أسباب أهمها تأثُّر نسبة كبيرة من المتابعين بالألعاب الإلكترونية وفيديوهات يوتيوب التي يتخطى أثرها أكثر مما يتوقّع البعض.(5)

 

ذلك أن الأجيال الأكثر فاعلية على مواقع التواصل حاليا، وهي الفئة من ١٦-٢٥ عاما، قد تلقّوا معرفتهم بكرة القدم وكان أول احتكاكهم بها عبر ألعاب الفيديو لا عبر ممارستها في الشوارع مثل الأجيال السابقة، ومشكلة ذلك أن ألعاب الفيديو تزرع في وعي المتابع أن كرة القدم أسهل مما يجب، يمكن تعبئة خمسة مهاجمين في خطة واحدة، ويمكن لأي لاعب أن يلعب في أي مركز وأن يلعب بالكفاءة نفسها، مَن منّا لم يضع روبرتو كارلوس مهاجما في لعبة فيفا؟ والنقطة الأهم هي إهمال جانب التكنيك في كرة القدم، في "pes" و"fifa" حين تُقرِّر التسديد في أعلى المرمى فإن الكرة تذهب إلى هناك دون عناء، حين تُفكِّر في التمرير لزميلك خلف الدفاع أو عمل بينية مقوسة عالية فإن الكرة تذهب في الموضع الذي تريده بالضبط وفي وضعية مناسبة تماما للمهاجم، ما الأزمة إذن؟ الأزمة أنك أصبحت تُطالب لاعبي الواقع بأن يفعلوا ذلك، ولو أخفقوا فلأنهم لا يُجيدون كرة القدم، مع أن المشكلة في معاييرك وتقييمك.(6)

 

الأمر نفسه تساهم فيه فيديوهات يوتيوب، مقاطع اللاعبين الموجودة تعتمد بشكل أساسي على إبراز أفضل ما يُقدِّمه اللاعب، اللاعب يلعب طوال الموسم نحو 50 مباراة يُقدِّم في كل مباراة نحو 5 دقائق ما يعني 250 دقيقة إجمالا طول الموسم، وفي النهاية المحصلة تكون فيديو 10 دقائق يُقدِّم ملخصا للقطات اللاعب المميزة خلال الموسم، المميزة فقط، لن تجد أحدا يصنع فيديو ليضع فيه اللاعب وهو يُمرِّر تمريرة عادية أو يُسدِّد تسديدة سيئة، والنتيجة أنك تشاهد دائما أفضل لقطات اللاعب وبالتالي يرتفع معيارك في التقييم وتطالب اللاعب بأن يُقدِّم تلك اللقطات في كل مباراة أو مستواه نفسه في لعبة "pes" بالرغم من أن هذا ليس ممكنا أبدا، وبذلك تعتقد أن اللاعب مقصر أو أن مستواه انخفض، لكن الأزمة ليست في مستواه بقدر ما تكمن في رؤيتك وتقييمك.

جزر منعزلة

تقوم فكرة مواقع التواصل في الأساس على تجميع الأشخاص في مكان واحد، وبقصد أو بدون قصد، فإن البشر ينجذبون لأشباههم، ويميلون للاجتماع معهم، لأنه لا أحد يحب أن يعيش في مجتمع لا يشاركه آراءه واهتماماته، وفيسبوك على سبيل المثال يعلم ذلك ويفعل الأمر نفسه، هو يرغب في إبقائك على موقعه أطول مدة ممكنة، ولذلك يسعى لأن يتوافق كل ما تراه مع آرائك وأن يوافق هواك حتى يضمن بقاءك، يتم ذلك عبر خوارزميات معقدة تراقب سلوكك وإعجاباتك دائما، وتحاول أن تُظهِر لك دائما المنشورات التي تتوافق معك في الغالب، وربما يُعَدُّ هذا من أفضل مزايا مواقع التواصل الاجتماعي من الأصل.

 

المهم أنه مع مرور الزمن ومع طول الوقت الذي تقضيه هناك، تتجه مواقع التواصل لأن تصبح مكانا يتفق فيه الجميع مع آرائك، تتحرك يمينا ويسارا فتجد الجميع يوافقون آراءك ومعتقداتك، وبالطبع يُكسِبك هذا يقينا مضاعفا في صحتها؛ أنت تتبنّى رأيا ما، ثم تتجوّل في مواقع التواصل فتكتشف أن كثيرين يتبنّون الرأي نفسه، فتزداد ثقتك بهذا الرأي معتقدا أنه لا يوجد رأي مخالف، لكن الحقيقة أنك اخترت أن تشاهد ما يدعم وجهة نظرك فقط.

 

هذا ليس غريبا بالطبع، فنحن جميعا نعاني مما يُعرف بـ "الانحياز التأكيدي" (confirmation bias)، وهو الميل إلى متابعة وتصديق الأخبار التي نرغب في تصديقها، وتبنّي الآراء التي نعتقد صحتها سلفا، نحن نُشكِّك دائما في المعلومات التي تُخالفنا وتُعاكس معتقداتنا، لكن لا نُشكِّك أبدا في المعلومات والإحصائيات التي تدعم آراءنا، ونحن نفعل ذلك طوعا في الغالب أو كرها في بعض الأحيان. هل تعلم النصيحة الدائمة بألّا تقع في حب آرائك وأفكارك؟ نحن نتجاوزها تماما ونعبد هذه الآراء.(7)

الأزمة أنه طبقا لـ "ثي نجوين" أستاذ الفلسفة فإن مواقع التواصل مع اتساع نشاطنا عليها تتحوّل مع الوقت إلى ما يُعرف بـ "غرفة الصدى" (echo chamber)، وهي تعبير مجازي يُطلق على المكان الذي تزداد فيه ثقة الشخص بأفكاره ومعتقداته نتيجة تكرارها الدائم. والميل للوجود في هذه الغرف هو ميل فطري طبيعي طبقا لعلماء علم النفس، لكن طبقا لـ "ديفيد روبرت" محرر الغارديان فبالرغم من كون الوجود في هذه الغرف مريحا فإنه يؤثر بشكل مباشر في طريقة تعاملنا مع أفكارنا وآرائنا وعلى طريقتنا في تكوين الآراء نفسها، وكذلك يؤثر على قدرتنا على تقبُّل الآخر وآرائه، وتزيد مما سمّاه "روبرت" بالقبلية والميل إلى مهاجمة المختلفين.(8)

 

والأدهى أن كل هذا يحدث وأنت لم تسعَ إليه؛ فما بالك إذا قرّرت أنت طوعا أن تنضم إلى مجموعة لا تضم سوى مشجعي فريقك المفضل أو محبي لاعبك المفضل؟ ماذا تعتقد أن يحدث إذا كان كل ما تراه طوال الوقت يُعزِّز ما تؤمن أنت به سلفا، ما الذي يمكن أن تتخيله إذا كان الجميع من حولك يؤمن أن فريقك يتعرّض لمؤامرة تحكيمية؟ هذه فرضية أنت تحب تصديقها أصلا، فما بالك إذا كنت محاطا بالكثيرين الذين يدعمون الفرضية ذاتها؟ أنت ستعتنقها لا محالة، وسيصبح إثناؤك عنها مستحيلا.

والواقع أن أغلب الأفكار الخاطئة والضلالات المنتشرة ونظريات المؤامرة الغريبة الموجودة عبر هذه المواقع كلها وجدت طريقها من خلال هذه المجموعات أو عبر الصفحات الجماهيرية المماثلة، والنتيجة أن الوضع صار عبارة عن جزر منعزلة، وجمهور كل فريق مقتنع بعدة أفكار لا يُغيّرها أبدا، ولا يخرج أهل هذه الجزر إلا لمهاجمة أهل الجزر الأخرى ثم العودة إلى القواعد لإخبار الآخرين كيف يبدو الناس في الخارج أغبياء لا يفقهون شيئا، ليؤكد الباقون ذلك أيضا، وهكذا الجميع.

الأكيد أن مواقع التواصل التي كان يُعتقد في البداية أنها ستجلب قدرا أكبر من التنوّع والانفتاح على الأفكار الأخرى لم تَعُد كذلك أبدا، وإنما صارت العكس تماما، ونحن هنا لم نتحدث عن الكوارث التي تحدث في بعض المجموعات حين يصل الأمر إلى تجييش المشجعين لمهاجمة لاعب ما أو لممارسة العنصرية على حكم ما، هذه مرحلة أكبر من نقاشها الآن.

عقل القرد

هذه هي إحدى متلازمات المشجعين الجدد كذلك، أو إنسان مواقع التواصل عموما بالأحرى، ثقافة الـ "snacks" أو ثقافة الأسطر الثلاثة كما يسميها البعض، نحن نعيش أزهى عصور السرعة، والمحتوى يتجدّد بسرعة مهولة، والإنسان في نهم لاستهلاك المحتوى الطازج دائما. تأمَّل نفسك وأنت تُحدِّث صفحتك كل دقيقتين دون أن تنتظر شيئا بعينه وستُدرك ما نعنيه. المهم أن تنوُّع هذا المحتوى وتجدُّده بات يمنع الجميع من التركيز على شيء بعينه لفترة طويلة، لأن عقولنا باتت سريعة الملل وترغب في التجديد كل لحظة، وتَشكَّل عندنا ما يسميه علماء النفس بعقل القرد الذي يرغب في الحركة دائما.

مشجع يستخدم الهاتف

نتيجة لذلك نشأ عصر الأسطر الثلاثة الذي بات يحكم كل شيء، أي منشور يزيد على ثلاثة أسطر لا يقرؤه أحد، وبالتالي لا أحد يكتب أكثر من ثلاثة أسطر إذا أراد أن يتابعه الناس، والمشكلة أن ثلاثة أسطر لا تكفي لبيان الأفكار المركّبة أو الآراء المفصّلة، وإنما يضطر الجميع إلى اللجوء إلى التعميمات والعبارات المطلقة التي تناسب رغبة الجميع وتكفيها الأسطر الثلاثة.

 

وبسبب ذلك فإن الكثير من الأفكار السطحية تسود عالم كرة القدم، والعديد من الصراعات تقوم بسبب أنه لا أحد يرغب في قراءة وجهة نظر الطرف الآخر كاملة، والكثير من التفاصيل الدقيقة المهمة تضيع في أوساط النقاشات لأنه لا يمكن تعبئتها في ثلاثة أسطر، بينما يولي الجميع أهمية كبرى للجُمل الحرّاقة المختصرة فحسب، لأن الكثيرين لا يهتمون بمعرفة التفاصيل أصلا، لأنهم "مش هيقرؤوا كل ده".

 

هذا هو الوضع السائد في كل مكان حاليا، كل شيء بات من الممكن تعبئته في فيديو لا يتجاوز ثلاث دقائق، وكل فكرة معقّدة بات من الممكن إيجازها في عدة جمل، وليس الاختصار عيبا في ذاته بالطبع، لكن وجوده في غير موضعه هو المشكلة، وإن كنت وصلت إلى هذا الموضع، فتهانينا لأنك ما زلت تقرأ أكثر من ثلاثة أسطر وبإمكانك أن تتحكّم في عقل القرد الذي بداخلك.

رحلة البحث عن "الإيفيه"

بالتأكيد لا يمكن أن نتناول تاُثير مواقع التواصل دون أن نتحدث عن أهم عناصر هذه المواقع وأيقونتها المميزة، أو لغة هذا العصر الجديدة كما يسميها "جيمس كيرنكهام"، وهو المحتوى صاحب الأهمية الأكبر في أوساط المشجعين بعد الملخصات والأهداف طبقا لعدة إحصائيات، الميمز أو الكوميكس، أيًّا كانت التسمية، باتت هي العنصر الأبرز في هذه الأيام بلا جدال، منذ اللحظة الأولى لأي حدث وبينما يُفكِّر البعض في تحليله ومعرفة أسبابه ونتائجه، فإن الأغلب يتجهون في رحلة للبحث عن أفضل "إيفيه" يليق بهذا الحدث.(9)

 

أصبح لهذه الميمز جمهور وتأثير ضخم بلا شك، لأنه طبقا لـ "إيملي ريد" باحثة علم النفس فإن الميمز تمتلك قدرة جبارة على توصيل الأفكار، قدرة تفوق الكلام والتحليلات وتتجاوزهم تماما، بل ويمكنها طبقا لـ "إيملي" أن تُشكِّل قناعات وانحيازات بداخلك دون أن تدري، كذلك لأن الميم قادر على جذب انتباهك أكثر بكثير مما يمكن لتحليل تكتيكي أن يفعل، ولأن متعة الميم اللحظية المتمثّلة في الضحك أو السعادة تُغريك أكثر من شعور المعرفة المؤجّل عند قراءة مقال، وهكذا.(10)

 

المشكلة أن الميم أو السخرية عموما قادرة على هدم أي شيء والتسفيه منه بسهولة وبصرف النظر عن حقيقته ومحتواه، وهي بذلك تنزع القيمة عن أي شيء، ويمكنها أن تُزيّف الواقع بكل سهولة، ذلك أنه لا تحكمها قواعد المنطق، وإنما تعتمد على المبالغة والنزوع إلى أقصى الحافتين كعنصر أساسي لتتمكّن من تحقيق غرضها المطلوب وإيجاد المفارقة الباعثة على الضحك، لأن الكلام الموضوعي والآراء المعتدلة لن تصنع كوميكا جيدا ولن تُضحِك أحدا.

https://twitter.com/LittleLadyCook/status/488414762339139584

والمشكلة ليست في السخرية أو الميم في ذاته، بل إن هذا من ضروريات التواصل الإنساني من الأصل، لكن الأزمة أن الميم يتخطّى مكانته كمادة للهزل، ويتحوّل من إحدى طرق التعبير إلى الطريقة الوحيدة للتعبير، ويصبح مع الوقت هو عُملة التواصل الإنساني الأساسية، ويتحوّل إلى غاية في ذاته، ويستمد البعض منه أفكارهم وآراءهم دون وعي غالبا، ويصبح كذلك جزءا متأصّلا من تناول الموضوعات والنقاشات والتي يمكن أن يُنهيها أحدهم تماما ويجعلها تبدو تافهة بمجرد وضع صورة كوميك جيدة تحسم النقاش لصالحه، وحين يتحوّل كل شي إلى ذلك فإن صحة الأفكار تنبع في قدرة صاحبها على تعبئتها على هيئة ميم مضحك لا بقدرته على سَوْق الأدلة العقلية والبراهين المنطقية.

 

وربما أفكار عديدة في كرة القدم يقتنع بها ملايين الناس بدايتها كانت مجرد السخرية، الكثيرون يمتلكون قناعات مختلفة حول لاعبين مثل بنزيما وهيغواين وجيرود من الكوميكس، وهم واثقون تماما من كونهم عالات تسبّبوا في خسارة فِرَقهم، مع أن أغلبهم لم يشاهد هؤلاء اللاعبين فترة كافية للحكم أصلا، لكنه يمتلك يقينا راسخا بقناعته حولهم بسبب كثرة الكوميكس التي شاهدها عنهم، وقد يكون الرأي صحيحا ويكونون عالات بالفعل، لكن الأزمة أن الأفكار كان منشؤها مجرد كوميك.

لا أحد لا يعلم

رغم كل ذلك فإن أهم ما فعلته مواقع التواصل وأفادت به العالم أنها سمحت للجميع بالتعبير عن آرائهم وأفكارهم، وهو ما سمح للكثير من الآراء والأفكار العظيمة بالظهور والوصول للجمهور وللمسؤولين عن اللعبة كذلك، بإمكانك الآن أن تكتب تحليلا رائعا يقرؤه الجميع ويصل إلى غوارديولا شخصيا، وهو ما لم يكن متاحا من قبل إلا للاعبي الكرة السابقين وبعض الصحفيين الأكاديميين.

مشجع يحمل الهاتف

انعكس ذلك بالطبع على معرفتنا بأشياء كنا نجهلها في السابق. اليوم صار التكتيك وطرق التدريب والتغذية وكل ما يخص اللعبة متاحا للجمهور العادي، وطبقا لـ "سِد لو" محرر الغارديان فإن ديمقراطية المحتوى الحالية سمحت ببروز العديد من المحللين الذين يفهمون اللعبة بشكل أفضل من أغلب رواد الأستوديوهات التحليلية، محللين مثل جوناثان ويلسون ومايكل كوكس قد أتاحوا للجمهور نظرة أفضل على كرة القدم.

"للجماهير حق الغضب، ونحترم ذلك، لكن عليهم أن يدركوا حقيقة أنهم لا يفقهون شيئا في كرة القدم. أنا أحب التنس وكرة السلة وأمارسهما منذ الصغر، وأغضب عندما يخسر فريقي، لكنني لا أُقدِّم نصائح تكتيكية لأنني لا أفقه فيها شيئا. على جماهير كل فريق أن تفهم ذلك".

(ألكساندر كولاروف) (11)

لكن الجانب المظلم لهذة الديمقراطية كان السماح لكل مَن يمتلك هاتفا وشبكة إنترنت أن يُدلي برأيه، وصار كل المتابعين محللين يمتلكون وجهات نظر يرغبون في فَرْضها على الكل، وهو ما سمح طبقا للتوزيع الإحصائي الطبيعي للبشر بوجود الملايين من الآراء الغبية وغير المبنية على أي منطق سوى مجرد الرغبة في الإدلاء بأي رأي لمجاراة الجميع والإحساس بالوجود، وهو ما أغرق العالم في سيل من الغباء والحماقة.

حين ترى هذا الوضع ستكتشف أن الحكيم الأول كان يقصد مواقع التواصل تحديدا، وأن إمبرتو إيكو كان محقا حين قال إن "أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممّن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسبّبوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورا. أما الآن فلهم الحق في الكلام مثلهم مثل مَن يحمل جائزة نوبل، إنه غزو البلهاء".(12)

المصادر:

  1. ملف copa 90 لدراسة أحوال المشجعين الجدد
  2. كيف غيّر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي كرة القدم؟
  3. كيف ننتمي؟ المتعة كبديل للملحمة – ميدان
  4. ديان لوفرين يتلقى تهديدات بالقتل من بعض المشجعين – الغارديان
  5. مشجعو كرة القدم هم مجموعة من الحمقى – الغارديان
  6. تدمير الرياضة، كيف ستُنهي لعبة فيفا كرة القدم الواقعية؟ – ميدان
  7. تعريف الـ confirmation bias
  8. خطورة غرف الصدى، يجب أن نتحرر من الفقاعات الإلكترونية – الغارديان
  9. المصدر الأول.
  10. دراسة حول تأثير الميمز على الأفكار والآراء
  11. تصريحات ألكساندر كولاروف لاعب روما – goal
  12. مواقع التواصل تمنح حق الكلام لفيالق الحمقى – good reads