شعار قسم ميدان

لم يعد له فائدة.. هل يتسبب فيروس كورونا في إجلاء جمهور المدرجات إلى الأبد؟

ميدان - لم يعد له فائدة.. هل يتسبب فيروس كورونا في إجلاء جمهور المدرجات إلى الأبد؟

كانت ليلتك مليئة بالترقب والشغف، لم تنم خلالها إلا قليلا، قضيتها كلها تفكر في اليوم القادم، اليوم الذي تنتظره منذ زمن، اليوم الذي سيلعب فيه فريقك المفضل نهائي دوري الأبطال. تنتظر أنت هذا اللقاء بشغف، تتخيل فرحتك حين يسجل فريقك، حين يطلق الحكم صافرته، شعورك حين يرفع قائد فريقك الكأس ذات الأذنين، ستكون لحظة مؤثرة بلا شك، وما يضاعف حماسك هذه المرة أنك ستعيش هذه الأجواء من أرض الملعب، الحلم الذي تمنيت تحقيقه على مدار أعوام، أن ترى فريقك المفضل من المدرجات وأن تزور ملاعب أوروبا، وتضيف ذكريات أخرى لتلك التي صنعتها في برج العرب والدفاع الجوي وملعب المكس.

  

اليوم التالي، ولم يبقَ على موعد المباراة سوى ساعات، تمسك هاتفك وتراسل صديقك الذي سيشاركك الرحلة هذا اليوم، يخبرك أنه على وشك الوصول، تترك الهاتف وتتجه لتجهيز بعض ما يستلزمه اليوم؛ المسليات والعصائر ستكون ضرورية. يصل صديقك، تفتح له الباب، ويدخل. يخبرك أنه لم ينم ليلة أمس من شدة ترقبه لهذا اليوم، للمباراة عموما، ولمشاهدتها من أرض الملعب خصوصا، فتخبره أنك تشاركه الإحساس ذاته، يمضي الوقت وتقترب المباراة، يطالبك بالإسراع حتى لا يفوتكم شيء منها، تُنهي عملك ثم تصحبه وتنطلقان، وبعد ثوانٍ يجلس كل منكما في مقعده، حسنا، رحلتكم كانت إلى صالة منزلك ليس أكثر.

  

بادرة أمل
بدأت عده دول بتخفيف حِدّة إجراءتها، وأحد القطاعات التي بدأت تستعد للعودة هي كرة القدم، والتي تتخذ خطوات جدية في طريق إنهاء نحو شهرين من التوقف
بدأت عده دول بتخفيف حِدّة إجراءتها، وأحد القطاعات التي بدأت تستعد للعودة هي كرة القدم، والتي تتخذ خطوات جدية في طريق إنهاء نحو شهرين من التوقف
   

في البدء كان الكون، ثم الإنسان، ثم الرياضة في كل مكان والجمهور على بُعد خطوات منها، ثم رحلة طويلة لتطور البشر والرياضة، حتى وصلنا إلى ملاعب مخصصة لإقامة المباريات، والجمهور في مدرجات تلك الملاعب، لا أحد يتابع ما يحدث إلا هم، ثم كان البث التلفزيوني، فصار بإمكان الجميع مشاهدة ما يحدث، لكن ليس بإمكان أحد الإدلاء برأيه أو التأثير في اللعبة إلا جمهور المدرجات، ثم كانت مواقع التواصل الاجتماعي، فصار من حق الجميع أن يشاهد المباريات وأن يُدلي بآرائه ويؤثر في اللعبة، ثم كان تطور هذا وذاك، تضاعفت أموال البث وتغوّل تأثير مواقع التواصل، ثم كان ماذا؟ كان فيروس كورونا وجلس الجميع في المنزل.

  

حسنا، لِنَعُد إلى مركز ما يدور الآن، فيروس كورونا، والذي يخبرنا العلماء أن أمامنا فترة طويلة من الصراع معه، ولا يتوقع أكثر المتفائلين أن ينتهي الأمر قبل عام على الأقل، وهي المدة التي من المفترض أن يخرج فيها اللقاح أو نتمكّن من إيجاد بروتوكول علاجي يمكننا من رفع نسبة التعافي، وحتى نصل إلى أحدهما فإننا سنقضي هذه الفترة في مناوشات مع الفيروس؛ سكون مؤقت أحيانا وموجة شرسة أحيانا أخرى، ولذلك لن نتمكن بأي حال من العودة إلى حياتنا الطبيعية طوال هذه الفترة. لكن مع ذلك هناك بعض الأخبار السعيدة أخيرا، أغلب الدول بدأت تخفيف حِدّة إجراءتها وإعادة تشغيل أغلب القطاعات المتوقفة، لم ينتهِ الفيروس من هذه الدول، لكنها تعتقد أنها تخطت مرحلة الذروة وباتت في مأمن من الخطر، ولذلك ستعمد إلى تخفيف الإجراءات المشددة والالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي ومنع التجمعات غير الضرورية مع الحفاظ على عمليات النظافة والتعقيم.(1)

  

وأحد هذه القطاعات التي بدأت تستعد للعودة هي كرة القدم، والتي تتخذ خطوات جدية في طريق إنهاء نحو شهرين من التوقف، الدوري الألماني حصل على موافقة السلطات للعودة، عدة فِرَق بدأت في استدعاء لاعبيها للعودة للتدريبات، وبعض الأندية قد بدأت التدريب بالفعل، ويبحث المسؤولون عن كرة القدم حاليا الطرق المتاحة لإتمام البطولات بأفضل طريقة، وكذلك الآليات الممكنة لضمان أكبر قدر من السلامة لجميع الأفراد، ومحاولة إقامة المباريات بأقل عدد ممكن من الحضور، مع الكشف عليهم بشكل دوري وحصر تعاملهم الخارجي قدر الإمكان. (2)

     

  

مغلق إلى حين

النقطة الوحيدة التي لم يسأل عنها أحد هي مصير الجمهور، باعتبار أن إجابة السؤال بديهية أكثر من اللازم، لأننا إذا سلّمنا أن عودة كرة القدم حتمية لأنها لن تستطيع تحمل خسائر التوقف لفترة أطول، فإن الجمهور ليس كذلك، وآلاف الجالسين في مكان واحد كالمدرجات ولمدة زمنية طويلة بيئة مثالية لتفشي الفيروس من جديد وينافي أبسط قواعد التباعد الاجتماعي، ولذلك ما دام العالم لم يجد اللقاح فإن الجمهور لن يعود للمدرجات مهما طالت المدة، وربما هذا هو الواقع الجديد الذي ينبغي أن نتكيّف معه؛ كرة قدم بمدرجات فارغة.

     

  

بالطبع سيكون تخيل الملاعب خالية طوال الوقت صعبا، ولا أحد يحب أن يظل يستمع إلى صراخ اللاعبين والمدربين طوال المباراة، وسيكون من المحزن مشاهدة ملعب بروسيا دورتموند دون صخب المدرج الجنوبي المعتاد، ولن يحب أحد أن يلعب ليفربول ولا نسمع نشيد جمهوره الخالد "you will never walk alone". نعم، كرة القدم بدون جمهور ليست الخيار الأفضل، وربما لا يكون لها داعٍ على الإطلاق كما يقول بيب غوارديولا، لكن مع ذلك ربما تكون حاليا هي أقصى ما يمكننا تحقيقه، لأننا لو انتظرنا حتى يكون بإمكان الجمهور الحضور، حينها قد تكون الخسائر الاقتصادية قضت على كرة القدم تماما، ولا يكون هناك شيء لنشاهده من الأصل، لا من الملعب ولا من المنزل على حد تعبير روي سميث محرر نيويورك تايمز.(3)

    

  

لكن مع ذلك، ورغم أن القرار سيكون رغما عن الجميع، فإنه لن يكون قاسيا للغاية، والإنسان كائن متكيّف بطبعه، وسنألف الأمر عاجلا أم آجلا، لكن ربما هناك بعض المؤشرات والأسباب التي قد تجعل من فترة الغياب هذه فرصة للتفكير في فكرة حضور الجمهور للمباريات من الأصل، وتدفعنا للتفكير في الأمر بصورة أشمل حتى بعد العودة وانتهاء كورونا، والتي لن تكون مرهونة فقط باكتشاف اللقاح وآراء العلماء، رغم أنها ستُشكِّل عنصرا فارقا بالفعل في موعد العودة، لكن العنصر الآخر الذي لا يقل أهمية هو الجمهور نفسه ومدى رغبته في العودة للمدرجات من جديد. 

  

في مقاله المنشور بصحيفة التليغراف طرح أوليفر براون تساؤلا مهما حول تقبل الجمهور لفكرة الذهاب للمدرجات مرة أخرى بعد أزمة كورونا، وهل من الممكن أن تعود الملاعب لتمتلئ بالمشجعين مرة أخرى، هو يرى أنه حتى لو أُتيحت العودة فإن الجمهور لن يعود بالكثافة نفسها مطلقا، وربما يعزف الكثيرون نهائيا عن الأمر.(4)

   

ذلك أن أثر كورونا علينا سيصل إلى كل شيء، في حوارها مع "ميدان" تقول الدكتورة مروة حمدان المتخصصة في بحوث الطب النفسي بجامعة "كينجز لندن" (King’s College London) إن الوضع الذي نعيشه حاليا وضع لم نشهده من قبل، ورغما عنا سيُشكِّل سلوكياتنا وأفكارنا من جديد، والهلع والرعب الذي نعيشه حاليا سيخلق عندنا ما يمكن تسميته برهاب التجمعات وهوس النظافة، ولن نكون قادرين على العودة للانخراط في التجمعات الكبيرة بسهولة، لذلك سيكون الوجود وسط خمسين ألف شخص لمشاهدة مباراة ضربا من الجنون، كما أن رغبتنا نفسها في ممارسة الأفعال نفسها التي كنا نفعلها ستتغير، العزلة في المنزل أجبرت الجميع على تجربة أشياء لم يعهدوها وقد يعجبهم الأمر، ربما جلوسنا في المنازل حاليا يُعيد تشكيل أولوياتنا، مَن يدري؟ ربما تكتشف أنك لا تفتقد كرة القدم كما كنت تظن، أو أن جلوسك على المقهى لم يكن الخيار الأفضل دائما، كما أسلفنا، هذه الأزمة ستُعيد تشكيل كل شيء في العالم.(5)

    

مباراة بدون جمهور والمدرجات فارغة بسبب الإجراءات الاحترازية لمنع تفشي فيروس كورونا (رويترز)
مباراة بدون جمهور والمدرجات فارغة بسبب الإجراءات الاحترازية لمنع تفشي فيروس كورونا (رويترز)

    

كذلك لن ينسى أحد الدور السيئ الذي لعبته كرة القدم خلال الأزمة، سواء على مستوى تصرفات العاملين في المجال وتجاهلهم للمشجعين حين احتاجوا إليهم، وعلى الرغم من دخولهم العملاقة التي يحققونها من وراء هؤلاء المشجعين، فقد تنصّلوا من دورهم الاجتماعي ولم يقوموا به على الوجه المطلوب، وموقف هؤلاء اللاعبين والمدربين المخزي قد يدفع البعض لمراجعة مشاركته المالية في هذه الصناعة.

  

"أنا أشجع توتنهام وأشتري تذكرة موسمية كل عام منذ كنت صغيرا رفقة جدي، ولم أنقطع عن ذلك أبدا، لكن اليوم أنا أشعر بالإحباط والخذلان من النادي، الامتناع عن دفع رواتب الموظفين كان صادما لي، وبدا لي أن هذا ليس النادي الذي أحب أن أشجعه، خصوصا عندما علمت بثروة دانيال ليفي مالك النادي، ولذلك قررت أن أتوقف عن ذلك، لن أقطع تذكرة موسمية للمرة الأولى منذ سنوات ولن أحضر مباريات توتنهام التي كانت جزءا أساسيا من حياتي طوال 20 سنة، وسأذهب إلى مباريات فريق المدينة التي أعيش بها والذي يلعب في الدرجة الثالثة، على الأقل سأضمن أن أموالي تذهب إلى من يحتاجون إليها فعليا، وليس إلى أولئك الذين يراكمون المليارات عن طريقي"

(كريس مامون، مشجع لنادي توتنهام ومدون رياضي)

  

"لقد سمعت الكثير من النظريات حول سبب انتشار الفيروس بشدة في الإقليم، سأقول نظريتي؛ في 19 فبراير/شباط، ذهب أكثر من 40 ألف بيرغاماسكي -سُكان بيرغامو- إلى سان سيرو لحضور مباراة أتالانتا وفالنسيا، ذهبوا في الحافلات والسيارات والقطارات. لسوء الحظ كان ذلك الحدث بمنزلة قنبلة بيولوجية". 

(فابيانو دي ماركو، كبير أطباء أمراض الرئة في أكبر مستشفى في بيرغامو). (6)

    

الجزء الآخر الذي لن ينساه الجميع أيضا هو النصيب الذي شاركت به كرة القدم في انتشار الفيروس حين تأخرت في الإغلاق، وربما ساهمت بذلك في مأساة كورونا الأكبر في العالم؛ إقليم لومبارديا الذي سجل وحده نحو 5400 وفاة طبقا لصحيفة "ليكو دي بيرغامو"، والبداية كانت مباراة كرة قدم، حضرها ثلث سكان مدينة بيرغامو تقريبا في ملعب سان سيرو، ثم عادوا إلى بلدتهم لتنفجر قنبلة الفيروس التي لم تنتهِ حتى الآن، ولم يتوقف الأثر عند إيطاليا فقط، بل ساهمت كذلك في نقل الفيروس إلى إسبانيا عبر بعثة فالنسيا التي رافقت الفريق، وبعد أيام من اللقاء أعلن فالنسيا إصابة الصحفي كيكي ماتيو بالفيروس والذي نقله بدوره إلى زملائه، وخلال أيام أُعلن إصابة نحو 35% من البعثة المرافقة، بما في ذلك غايا ومانغالا وغاراي، وبعد أسبوع كانت إسبانيا تتهيأ لتكون إيطاليا جديدة وسجلت مدينة فالنسيا وحدها 10 آلاف حالة.(7)

      

   

تخيل شعور هؤلاء الآن نحو كرة القدم ونحو المدرجات، الكثيرون فقدوا أحبابهم أو أصابهم الفيروس وتأثروا به بشكل ما، ولن ينتهي هذا الأثر قريبا، ولذلك قد يكون هذا فارقا في علاقتهم مع كرة القدم، أو على الأقل في قرارهم بالذهاب إلى الملاعب مجددا، وعلى كل حال فإن هذه المباراة ستظل ذكرى أليمة للأبد، ليس لمَن حضرها فقط ولكن لكل مَن شاهد تعامل كرة القدم البغيض الذي فضّلت فيه الأرباح على الأرواح، وكانت الخسائر في الطرفين عملاقة للأسف.(8)

   

من خلف الهاتف

في الحقيقة، الحديث عن عزوف الجمهور عن مدرجات كرة القدم ليس وليد اللحظة، منذ مدة وهناك جدل كبير يدور في أوساط المشجعين حول جدوى الذهاب للمدرجات وحول أسعار التذاكر التي باتت تُمثِّل عائقا أمام الكثيرين، والذي قد يزداد مع الأزمة المالية المتوقعة، أضف إلى ذلك عدم حماس الأجيال الجديدة للذهاب للمدرجات كما في السابق، ويظهر ذلك بوضوح في نسبة حاملي التذاكر من فئة الشباب الأقل بكثير من مثيلتها في الفئات الأكبر سنا على عكس التوزيع الطبيعي المفترض، وهو ما يقودنا إلى التفكير في كيفية تعاطي هذا الجيل الجديد مع كرة القدم، وطريقته في استهلاكها.

  

الأجيال الجديدة أكثر رغبة في العزلة الاجتماعية من أقرانها، وأغلبهم اكتشفوا العالم عبر الشاشات ومن على أريكة منزلهم، وبديلهم عن النمط الاجتماعي والطرق القديمة في التفاعل هو مواقع التواصل الاجتماعي، والتي يُفضِّل أغلبهم الانخراط فيها والاندماج مع شبكتهم التي بنوها من خلالها عن ممارسة ذلك على أرض الواقع، ولذلك حين يفكر أغلبهم في الطريقة الملائمة للتعامل مع شيء ما، فإن الطريقة الأقرب إليه هي تلك التي لن تتجاوز شاشة هاتفه، ولن تجعله يترك أريكته.

  

هذا هو ما يجعل الأجيال الجديدة حاليا تُفضِّل المشاهدة عبر الإنترنت على كثير من الوسائل الأخرى، وهو ما فتح بابا عملاقا للاستثمار تطرقه أمازون ونتفليكس حاليا لمجاراة متطلبات هذه الأجيال، والذي لم يعد مقتصرا عليهم، بل بدأ هذا النمط يتسرب إلى الأجيال الأكبر ولم يعد غريبا أن تجد والدك يشاهد مباراة عبر الإنترنت. وما يجعلهم يُفضِّلون هذا النوع من المشاهدة هو أنه يُشبع رغبتهم في مشاركة التشجيع مع أقرانهم أثناء المبارة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فيما يُعرف بـ "second screening"، واستبدل أغلبهم صرخة "جووووول" التي كان يصرخها مع زملائه في المدرج بصرخة أخرى مكتوبة ويشاركه زملاؤه الصرخات في اللحظة نفسها عبر التعليقات والردود، وبذلك يحصل على جزء كبير من تجربة المدرجات والمتعلق بمشاركة المشاعر والإحساس بأنك تنتمي إلى جماعة كبرى، ولا ينقصهم لامتلاك تجربة المدرجات نفسها بالضبط سوى شيء واحد وهو المنظور والزاوية التي يشاهدون منها المباراة، وإن وُجدت فقد لا يذهب هؤلاء إلى المدرجات مجددا.

    

  

أقل مما تتصور

تحدثنا عن القرارات الحكومية التي ستمنع الجمهور وعن رغبة الجمهور نفسه في الذهاب مجددا، لكن ماذا عن الأندية والتي تعتبر الطرف الأضعف في العملية، والخاسر الأكبر من وراء هذا الغياب؟ الأندية متضررة ماديا بالفعل، ودخل التذاكر كان يُمثِّل قيمة مهمة لهذه الأندية، وغياب الجمهور يعني خسارة كاملة لدخل يوم المباراة، وهو ما قد يتسبّب في خسائر أكبر، ما يجعل خيار اللعب بدون جمهور ليس مفضلا عند أغلبهم.

  

ورغم أن الأمر يبدو من بعيد وكأنها خسائر فادحة للأندية بالفعل، فإنها ليست كذلك تماما، لأنه رغم القيمة التي تُمثِّلها التذاكر في دخول الأندية، فإنها تُعَدُّ هامشية إذا قورنت بمصدر الدخل الأكبر المتمثّل في العقود التجارية والبث التليفزيوني، والذي تسعى الأندية لاستكمال الموسم بأي طريقة للحفاظ عليه. وفي تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" (bbc) في عام 2018 تحدث عن كون 11 ناديا من أصل 20 في موسم 2016-2017 كانوا سيحققون ربحا في حالة لم يحضر مبارياتهم أحد، وهو ما يوضح الفجوة الشاسعة التي تصنعها أموال البث حاليا بعد وصولها إلى أرقام غير مسبوقة، ما يعني أن فقدان دخل التذاكر بالنسبة لهؤلاء لن يكون كارثة كبرى، مع الوضع في الاعتبار أن عدد الأندية لا بد أنه قد ازداد حاليا بالطبع.(9)

  

أضف إلى ذلك أن الأندية ستوفر مبالغ كبرى في حالة غياب الجمهور، متمثّلة في أجور الموظفين والعمال وتجهيز المدرجات ومصاريف التأمين وكذلك صيانة الملعب والمرفقات وعدة بنود أخرى يتكبدها النادي لحضور الجمهور، هذا على المستوى القريب، على المستوى البعيد فإن فكرة غياب الجمهور عن الملاعب لفترة طويلة ربما يغير تفكير الإدارات في التعامل مع اللعبة عموما، ما الذي يدفع النادي لإنفاق مئات الملايين لبناء ملعب ذي سعة أكبر في حين أن دخل التذاكر لم يَعُد هو الدخل الأساسي كما كان في السابق، وهو ما قد يوفر عليهم أموالا طائلة إذا استمر وضع غياب الجمهور.

    

يعتقد البعض أن الأجواء التي يصنعها الجماهير هى جزء أصيل من تجربة مشاهدة كرة القدم لا تنفصل عن المنتج الموجود على أرض الملعب
يعتقد البعض أن الأجواء التي يصنعها الجماهير هى جزء أصيل من تجربة مشاهدة كرة القدم لا تنفصل عن المنتج الموجود على أرض الملعب

     

كذلك لأنه مع انتشار مواقع التواصل وفتح النادي لأسواق جديدة في أماكن بعيدة، بات جمهور هذه المواقع هو الأهم في عملية الربح، ولذلك أخذ دوره في إبداء آرائه وعرض مطالبه، وباتت إدارات الأندية ترغب في إرضائه لأنه مصدر دخلها الأهم، وكلنا شاهد كيف تسبّب ضغط هذه المواقع في تراجع ليفربول وتوتنهام عن قراراتهم الأخيرة بشأن التوقف عن دفع رواتب الموظفين، وكان هذا دليلا جديدا على مدى قوة جمهور هذه المواقع حاليا. فإذا كان الأمر كذلك، وأغلب الأموال تأتي من البث وجمهور المنازل هو المتحكم الأكبر وصاحب الرأي الأهم في القرارات، ماذا تبقى إذن يجعل جمهور الملعب موجودا حتى الآن؟

  

في الحقيقة الشيء الوحيد المتبقي الذي تحرص عليه الأندية هو الأجواء التي تصنعها الجماهير، التهليل والصراخ والاعتراض على قرارات الحكم والأغاني والأهازيج، يعتقد البعض أن هذا جزء أصيل من تجربة مشاهدة كرة القدم لا ينفصل عن المنتج الموجود على أرض الملعب، هذا عن الأندية، أما الجمهور فما يدفعه للذهاب هي فكرة مشاركة التشجيع مع آخرين والمنظور الذي يشاهد منه المباراة من مقعده في المدرجات على عكس شاشة التلفاز التي تُجبره على زاوية معينة يختارها مخرج المباراة، لكن ماذا لو كان هناك ما يمكنه تقديم كل ذلك، حل يفيد كل الأطراف؟ يمنح المشجع الزاوية التي يريدها وأجواء الملعب بينما يجلس على أريكته المفضلة، وفي الوقت نفسه يجلب الأرباح للنادي ويُقلِّل من تكاليف إنشاء الملاعب وزيادة سعتها، هل يمكن حينها أن يكون غياب الجمهور خيارا مناسبا للجميع؟

  

عصر الواقع الافتراضي

في الغالب هذه هي إحدى أهم الإجابات عن السؤال السابق، وهي ثورة كرة القدم القادمة بلا شك، الثورة الذي ستمنحك مقعدا في أنفيلد بينما تجلس في منزلك، ثورة الواقع الافتراضي الذي يغزو كل شيء حاليا وبدأ يوجد له عدة تطبيقات في مجال الرياضة، وبعض الأندية تستخدمه في التدريبات حاليا، لكن ما يعنينا وهو الأهم تقنية "true view" المصممة من قِبل شركة "إنتل" (intel) الشهيرة، والتي تهدف بشكل أساسي إلى نقل المشاهد إلى داخل الحدث، ومنحه النظرة نفسها التي يشاهد منها جمهور الملعب.(10)

  

تعتمد التقنية في عملها على 30 كاميرا مثبتة بطريقة معينة في أنحاء الملعب كما في الفيديو التالي، ونظام متطور لجمع اللقطات الخارجة من هذه الكاميرات، ومن ثم بثها إلى الهواتف ونظارات الواقع الافتراضي للمشتركين في الخدمة، وكل ذلك يتم في فترة زمنية لا تُذكر، وتتيح التقنية عدة خيارات أخرى منها قدرتك على اختيار المقعد الذي تود مشاهدة المباراة منه، واختيار زاوية التصوير المناسبة والتبديل بينها أثناء المباراة.

    

  

كذلك تحاول هذه التقنيات حاليا تطوير أنظمتها في محاولة للوصول إلى خيارات أكثر تمنح المشاهد تجربة فريدة، أهمها هو السماح لك بالتجول داخل الملعب وسماع الأهازيج والأناشيد وكأنك داخل الملعب فعليا، والخطوة التالية هي محاولة منحك رؤية مختلفة تماما للمباريات، رؤية المباراة من وجهة نظر نجمك المفضل، ستشاهد المباراة كما يشاهدها ميسي، ستتحرك معه في الملعب، وتراوغ معه وتُسجّل، وربما تشعر بكل تدخل على قدم ميسي، سيكون هذا مريبا بالطبع، تخيل أنك تقفز لإمساك الكرة مع نوير، وتتخطى الضغط رفقة مودريتش في وسط الملعب، وتُمرّر الكرة مع دي بروين، وتُطرد مع راموس، لا بد أن ذلك سيكون تجربة فريدة سيحب كلٌّ منا أن يجربها.

     

  

لاحظ أننا لا نتحدث عن خيال أو عن تقنيات من المتوقع تنفيذها قريبا، نحن نتحدث عن تقنيات موجودة بالفعل ويعمل بها البعض من الآن؛ ليفربول قد تعاون مع "إنتل" (intel) لتفعيل التقنية في أنفيلد، عدة أندية في الليغا، وكذلك بعض الرياضات الأخرى ككرة القدم الأميركية والبيسبول، وكان من المتوقع أن توجد التقنية بشكل مكثف في أولمبياد طوكيو التي أُجِّلت.

  

كل ذلك يعني أننا وصلنا بالفعل إلى الحل الذي سيجعلنا نجمع أغلب المزايا، سيحظى المشجع بتجربة المشاهدة من المدرجات دون أن يتحرك من منزله، وفي الوقت نفسه سيحقق النادي دخلا من وراء ذلك، في الواقع هو سيظل يبيع التذاكر لكن ليس لمَن يذهب إلى أرض الملعب فقط، ولكن لأي شخص يمتلك جهاز "vr"، ويمكنه أن يبيع المقعد ذاته لأكثر من فرد ويحقق أرباحا أكثر.

  

ما يتبقى فعليا هو أن تجد الأندية بديلا للأجواء التي يصنعها الجمهور، الأصوات والاحتفالات جزء لا ينفصل عن تجربتنا في مشاهدة كرة القدم حتى عبر التلفاز، وهناك عدة تجارب سابقة في هذا الشأن بالفعل مثل نادي دينامو بريست الذي وضع الدمى في المدرجات بدلا من الجمهور الحقيقي، وباعوا التذاكر في مقابل أن يضع الشخص صورته في المدرج، ونادي ميدلزبره الإنجليزي الذي سجّل أناشيد المشجعين وأذاعها أثناء المباراة عبر مكبر صوت، وعدة محاولات أخرى لم تحقق نجاحا كبيرا في حينها، قد نفكر حاليا في إضافة ميكروفون لمستخدمي أجهزة الواقع الافتراضي، يمكّن كل مجموعة من التواصل فيما بينها، وكذلك توصيل الأصوات إلى أجهزة البث، ويشجع كل شخص من منزله كما لو كان في المدرج تماما ونجمع هذه الأصوات لتُشكِّل الصخب المطلوب، وهناك عدة أفكار أخرى قد تُمكّننا في النهاية من إيجاد حل فعال، وحديث كبير يدور الآن في ألمانيا حول ابتكار شركة لنظام سيُبقي الملاعب صاخبة كما لو كان الجمهور حاضرا تماما، وتنتظر فقط الموافقات الحكومية للإعلان عن فكرته، وربما يتحقق ذلك بالفعل قريبا.(11)

   

نشر حساب نادي دينامو بريست صورا توضح استخدامه لبعض تماثيل العرض في مدرجات مباراة فريقه أمام شاختار سوليجورسك والتي انتهت…

تم النشر بواسطة ‏Stadium360 – ستاديوم ٣٦٠‏ في الجمعة، ١٠ أبريل ٢٠٢٠

        

بالنظر إلى كل هذه الأسباب التي تدفعنا في اتجاه رغبة الجميع في ترك المدرج، ومع قدرتنا على تطوير هذه التقنيات والأساليب الجديدة، قد نكتشف أننا لم نعد بحاجة إلى جمهور المدرجات، ولعل فترة الغياب الإجبارية بسبب كورونا فرصة لتجريب الأمر واكتشاف مزاياه وعيوبه، وهو ما قد يسرع فقط من عملية انتقال محتومة إلى مدرجات خالية دائما إن سار الأمر على ما يرام، ونكون حينها قد أنهينا رحلة طويلة لكرة القدم من تمحور كامل حول جمهور الملعب ورغبة الجميع في إرضائه، إلى منطقة لم يعد دوره فيها سوى إحداث الصخب والأجواء، وانتقلت السلطة بالكامل إلى مواقع التواصل الاجتماعي وجمهور المنازل، وبشكل ما فنحن قد تحوّلنا من مركزية المدرج إلى مركزية الأريكة إن جازت التسمية.

  

في النهاية، كل ذلك يظل محل شك، وهناك عدة أشياء فقط مؤكدة، أولها أن كرة القدم بدون جمهور هي الحل الوحيد المتاح الآن، والثاني أن الأمر يستحق التفكير، وجدوى جمهور المدرجات فعليا باتت محل شك، والثالث أن رحلتك أنت وصديقك نحو ملاعب أوروبا وحضور نهائي دوري الأبطال باتت قريبة للغاية، ورحلتكم لصالة منزلك باتت الآن منطقية للغاية، بل ربما ستصير طبيعية في الفترة القادمة، والرابع أن أريكة منزلك ترتفع قيمتها شيئا فشيئا وباتت هي المركز الذي يدور حوله كل شيء الآن، وغالبا أنت تقرأ هذه الكلمات وأنت جالس عليها، خالص تحياتنا لك ولها ولصديقك.

المصدر : الجزيرة