شعار قسم ميدان

السر خلف رونالدو.. جورجي مينديش وصناعة الهروب الكبير

MADRID, SPAIN - OCTOBER 02: Cristiano Ronaldo (2ndL) poses for a picture with his trophy as all-time top scorer of of Real Madrid CF with his son Cristiano Ronald JR, mother Maria Dolores dos Santos and his manager Jorge Mendes (L) at Honour box-seat of Santiago Bernabeu Stadium on October 2, 2015 in Madrid, Spain. Portuguese palyer Cristiano Ronaldo overtook on his last UEFA Champions League match against Malmo FF Raul's record as Real Madrid all-time top scorer. (Photo by Gonzalo Arroyo Moreno/Getty Images)

يقول "فولتير" إن "الصدفة ليست ولا يمكن أن تكون أكثر من قضية منسية نجمت عن تأثير مجهول". يبدو أن محققي وزارة المالية الإسبانية طبقوا نصيحة الفيلسوف الفرنسي الشهير المبطنة بضرورة البحث عن التأثير المجهول الذي قد يكشف النقاب- إن ثبت الأمر فعلًا- عن منظومة يديرها رجل واحد بحرفية وحنكة عالية لمساعدة موكليه من اللاعبين والمدربين في تفادي دفع الضرائب المستحقة عليهم داخل شبه الجزيرة الإيبيرية. اسم هذا الرجل هو "جورجي مينديش".

ظهر مؤخرًا تورط واحد من لاعبيه- ربما هو الأهم بينهم- في هذا الشأن. هو البرتغالي "كريستيانو رونالدو" الذي يفترض أنه تهرب من ضرائب تتخطى قيمتها 14 مليون يورو(1) لكن بعدها بدأت تتواتر الأنباء عن فحص دقيق الذي يجريه خبراء الوزارة حول أسماء تلعب أو كانت تلعب في الليجا ويجمعها قاسم مشترك وحيد هو "جورجي مينديش".

 بداية منذ هذه اللحظة اقتنع المحققون بنظرية "فولتير" حول أن كل صدفة ليست صدفة، فالشبهات التي تدور حول "رجال مينديش" مثل "بيبي" و"جوزيه مورينيو" و"دييغو كوستا" و"خاميس رودريغز" و"جاكسون مارتينيز" و"فيليبي لويس"، أكسبت هذه الفرضية بُعدًا منطقيًا، وبدأت الصحافة الإسبانية تتحدث عن وكيل اللاعبين البرتغالي كالعقل المدبر الرئيسي لعمليات تهرب ضريبية موسعة(2) تجري أو كانت تجري على الأراضي الإسبانية، لكن قبل الوصول إلى شرح الآلية التي يفترض أنه اتبعها لتحقيق مراده، لا بد من التعرف عن قرب على الرجل الذي تدخّل في مصائر كثيرة على المستطيل الأخضر دون أن تطأه قدماه لتتخطى قيمه الصفقات التي أبرمها مليار يورو، والنظر بتفحص لطريقه تفكيره عبر الإبحار في ماضيه.

 

الهروب الصغير
مينديش يمتلك مهارة فائقة في الإقناع وسلك الطرق الملتوية لتحقيق أغراضه دون أدنى حرج
مينديش يمتلك مهارة فائقة في الإقناع وسلك الطرق الملتوية لتحقيق أغراضه دون أدنى حرج
 

يقولون إن "التجارة شطارة" والبرتغالي هو خير تجسيد لهذه العبارة. يحكي كتاب (كلمة السر مينديش)(3) للصحفيين "ميغيل كويستا" و"جوناثان سانشيث" بالتفصيل قصة صعوده من الصفر عبر سرد سلس تتخلله مقابلات مع عدد كبير من أبرز النجوم الذين يمثلهم ورؤساء الأندية الذي تعامل معهم وكواليس أهم الصفقات التي أبرمها.

من أهم النقاط التي يكشف عنها مهارته الفائقة في الإقناع وسلك الطرق الملتوية لتحقيق أغراضه دون أدنى حرج، فالرجل الذي بدأ حياته كعامل في مصنع للمثلجات، ثم شريكًا لمحل لتأجير أشرطة الفيديو، فمالك لملهى ليلي، لم يتوان عن "إخفاء" لاعب عن ناديه قرابة ثلاثة أشهر للضغط على الإدارة لتسهيل رحيله.

فعل "مينديش" هذا مع أول موكليه "نونو اسبيريتو سانتو" بعد أن وطد علاقته معه في ملهاه الليلي، حيث كان رئيس فيتوريا غيمارايش "بيمينتا ماتشادو" يتعنت في مسألة إبرام صفقة انتقاله لديبورتيبو لاكورونيا، فما كان من الرجل الذي لا يزال يحبو داخل المجال إلا أن أقدم على إخفاء الحارس الشاب حينها في منزله الشاطئي تاركًا الصحافة تتساءل باستغراب "أين نونو؟" قبل أن تنتهي الأمور بانتصار "مينديش" ورضوخ الرئيس وقبوله بصفقة انتقال اللاعب للنادي الإسباني.

يقول "نونو اسبيرتو سانتو" بنفسه عن ما حدث في تصريحاته داخل الكتاب "في الوقت الحالي يمكن الكشف عن حقيقة الأمر، كنت في منزل جورجي وعائلته. الجميع كان يبحث عني وشعرت بالقلق من على مسيرتي وقلت أنني لن أتمكن من اللعب مجددًا بسبب كل ما كتب في الصحافة، كان يتبقى لدي ثلاث سنوات أخرى في تعاقدي مع فيتوريا وماتشادو قال إنني إذا لم أظهر فلن ألمس الكرة ثانية".

 

الغاية والوسيلة
"مينديش" هو أحد ملوك اللعبة من خارج حدود عشبها الأخضر وغايته دائمًا هي الحصول على عمولاته وتحقيق مصلحة لاعبيه المادية وتوفير الحماية الإدارية والقانونية لهم (غيتي إيميجز)

كرة القدم هي لعبة احتمالات تتداخل فيها الكثير من العناصر من لاعبين ومدربين وحكام وصفعات القدر وخدعة من هذا وحيلة من ذاك لأجل تحقيق هدف واحد هو الفوز، تلك الغاية التي قد تجعل البعض ينسون أهم أعمدتها وهي المتعة في خير تطبيق للمبدأ الميكافيلي: الغاية تبرر الوسيلة.

"مينديش" هو أحد ملوك اللعبة من خارج حدود عشبها الأخضر وغايته دائمًا هي الحصول على عمولاته وتحقيق مصلحة لاعبيه المادية وتوفير الحماية الإدارية والقانونية لهم ولمصالحهم أيا كانت الوسيلة عبر إمبراطوريته الصغيرة الممثلة في شركة (جيستيفوتي) لتمثيل اللاعبين والتي تمكن عبرها من الحصول على عمولات تتخطى 62 مليون استرليني في عام 2015 وحده وفقا لمجلة (فوربس)(4)، رغما عن أنه بدأها بشقة صغيرة بالدور الرابع في بناية بلا مصعد.

تعد كواليس صفقة انتقال "رفائيل ماركيز" من موناكو إلى برشلونة خير دليل على هذا، كما يكشف كتاب (كلمة السر: مينديش). كان "جوان لابورتا" قد تولى رئاسة النادي ويبحث عن الأسماء المحتملة لتدعيم صفوف الفريق حينما طرق البرتغالي بابه وحدثه عن المدافع المكسيكي.

 

يقول "لابورتا" "كنت أظن أنه سيقول سعرًا ما. 13 مليون يورو مثلًا لأن ماركيز كان لاعبًا من موناكو، وليس أن يسألني هكذا: كم ستدفع مقابل الحصول عليه؟ قلت له سأدفع خمسة ملايين، فسألني (أتمنحني كلمة شرف؟)، فأجبته (بكل تأكيد)".

 

كانت الغاية هي أن يحط "ماركيز" الرحال داخل جدران النادي الكتالوني، لكن مسئولو نادي موناكو غالوا في مطالبهم، التي كانت لتفسد الأمر على "مينديش"، لكنه علم بأن رئيس النادي "جان لويس كامبورا" سيترك منصبه وعقب مجموعة من الاتصالات علم البرتغالي أن أن "بيير سفارفا" سيصبح الرئيس الجديد فاجتمع معه وحصل على وثيقة تعهد بأنه سيوافق على انتقال "ماركيز" إلى برشلونة مقابل خمسة ملايين يورو، مقابل تسهيل صفقات مستقبلية له.

 

آلية الهروب الكبير
"مينديش" لا يتوقف عن تكرار عملية معقدة منذ 2004 لإخفاء أرباح موكليه وضمان أرباحه هو الآخر
 

كثيرة هي الأمثلة التي يسردها (كلمة السر: مينديش) والتي مع قراءة- حتى ولو كانت غير متأنية- تعكس الكثير عن شخصية هذا الرجل. تعزز هذه الأمثلة بشكل كبير فرضية إدارته لمنظومة وآلية- ظلت محكمة لعدة سنوات- للتهرب من الضرائب لذا فإن استخدام بعض هذه الأمثلة قبل الوصول لهذه النقطة كان أمرًا ضروريًا.

 لم يظهر كل ما يتعلق بخصوص قضية "مينديش" وموكليه هذا الشهر فجأة ومن العدم، بل إن المسألة بدأت تطفو على السطح منذ العام الماضي وتحديدًا حينما نشرت صحيفة (الموندو) الإسبانية بالتعاون مع (فوتبول ليكس) مقالًا في ديسمبر 2016 بعنوان "جورجى مينديش.. مهندس خطة التهرب من وزارة المالية" وفصلت فيه الآلية التي استخدمها (5).

يكشف هذا المقال عن أن "مينديش" لا يتوقف عن تكرار عملية معقدة منذ 2004 لإخفاء أرباح موكليه وضمان أرباحه هو الآخر، بل وأن هذا التقرير جزم بصورة مؤكد حينها بأن "كريستيانو رونالدو" و"مورينيو" استخدما هذا النهج، وأن كل من "ريكاردو كارفاليو" و"فابيو كوينتراو" و"بيبي" و"خاميس رودريغز" يديرون حقوق صورتهم بنفس الطريقة، عبر منظومة ترتكز على ثلاث خطوات.

الوثائق التي نشرتها (فوتبول ليكس) تظهر على سبيل المثال كيف ارتبطت أرباح إحدى الشركات الوهمية في هذا الملاذ الضريبي بصندوق ائتماني باسم "جوزيه مورينيو" في نيوزيلندا

تتعلق الخطوة الأولى بشركتين يمتلكهما "مينديش" في أيرلندا وهما (مالتيسبورتس أند ايمدج ماندجمينت) و(بولاريس سبورتس). تحصل الشركتان على إدارة 60% من حقوق صورة اللاعب، أما النادي فيحصل على الحصة الأصغر المتبقية وهي 40%. يضمن مينديش بهذه الطريقة، عبر حماية محاميه الأيرلندي "أندي كوين" الذي يدير العشرات من شركاته هناك، العمل داخل الاتحاد الأوروبي لعدم مخالفة اللوائح العامة، لكنه في نفس الوقت يتمتع بتخفيض ضريبي على أرباحه، لا أن ضريبة الشركات الأيرلندية هي 12.5%، والتي تقل كثيرًا عن إسبانيا.

تتم الخطوة الثانية في الكاريبي، وفيها يُعاد إرسال الأرباح التي يتحصل عليها اللاعبين من الدعايا وبعد استقطاع العمولات إلى شركات مُؤسسة في إحدى الملاذات الضريبية وأغلبها في جزر العذراء البريطانية، بل وأن الكثير منها في  بناية فارغة في العاصمة رود تاون، بمعنى أخرى وبشكل أكثر بساطة ترسل الأرباح إلى شركات وهمية موجودة على الورق فقط وليس لها نشاط حقيقي أو فعلي لكنها تأسست في دول تمنح اعفاءات ضريبية كبرى.

 يصعب غالبًا تحديد ملكية هذا الشركات، لكن الوثائق التي نشرتها (فوتبول ليكس) تظهر على سبيل المثال كيف ارتبطت أرباح إحدى الشركات الوهمية في هذا الملاذ الضريبي بصندوق ائتماني باسم "جوزيه مورينيو" في نيوزيلندا.

أما الخطوة الثالثة فمقرها سويسرا، حيث تعمل الشركات الوهمية التي أُنشأت حول موكلي "مينديش" مع عدة حسابات في بنوك متنوعة هناك مثل (ميرابود) و(هايبوسويس)، وهي المصارف التي يوجد فيها حسابات للاعبين أنفسهم. بهذه الطريقة تكتسب الحركة بين كل هذه الحسابات طبقة من الضبابية والغموض التي تعرقل عمل السلطات الضريبية في البحث عن الأصول الفعلية لهذه الأموال.

 

على باب المحكمة
يرى كروثادو أن أوجه الشبه بين الأساليب المستخدمة في قضايا كل اللاعبين الذين يمثلهم
يرى كروثادو أن أوجه الشبه بين الأساليب المستخدمة في قضايا كل اللاعبين الذين يمثلهم "مينديش" يجب أن تدفع نحو "التحقيق معه (غيتي)

يواجه "مينديش" في الوقت الحالي أزمة حقيقية، فالأمر لا يتعلق فقط باتهام سبعة من موكليه بالتهرب من الضرائب في إسبانيا، بل إنه إضطر للمثول أمام القضاء الإسباني للإدلاء بأقواله بصفته مستشارًا للكولومبي "راداميل فالكاو" المتهم بالتهرب من سداد ضرائب تتخطى قيمتها خمسة ملايين يورو في الفترة بين عامي 2012 و2013 حينما كان لاعبًا في صفوف أتلتيكو مدريد(6).

 

يقول رئيس نقابة خبراء وزارة المالية الإسبانية (غيستا) كارلوس كروثادو في تصريحات لجريدة (لابانغوارديا) الإسبانية "فالكاو أشار نحوه كالمستشار الذي ساعده على إعداد هذه المنظومة التي زور عبرها تقاريره الضريبية"، لكنه ينتقد في نفس الوقت عدم إقدام أي من موكلي "مينديش" الآخرين على القيام بالمثل(7).

 

ويرى كروثادو أن أوجه الشبه بين الأساليب المستخدمة في قضايا كل اللاعبين الذين يمثلهم "مينديش" يجب أن تدفع نحو "التحقيق معه، بل وأنه قد يعاقب كشريك تضامني في عملية التزوير. وبهذه الطريقة يجب أن يواجه نفس التهم والتبعات الجنائية التي قد يتعرض لها المتهم الرئيسي".

 

وأدلى مينديش بأقواله بخصوص قضية فالكاو في 27 يونيو الماضي حيث نفى بصورة قاطعة تقديم أي استشارات ضريبية لأي من لاعبيه، وفقا لما جاء في بيان أصدرته شركته عقب الإدلاء بأقواله، حيث شدد على أن عمله يقتصر فقط على مفاوضات لاعبيه المتعلقة برواتبهم مع الأندية التي يلعبون لها أو تلك الجديدة.

وبالنسبة لشركة (بولاريس) أشار مينديش إلى أنه أحد المساهمين فيها لكنها ليس مسؤولا إداريا عنها بأي صورة من الصور، بل وقال إن عملها "يقتصر فقط على البحث عن معلنين لعملائه، نافيًا ما قالته تسريبات موقع (فوتبول ليكس) بخصوص أنها مسؤولة عن "ادارة حقوق صورتهم".(8)

 

ستكون العملية طويلة ومعقدة بكل تأكيد، ربما بنفس الطريقة التي طالت بها محاكمة الأرجنتيني "ليونيل ميسي" ووالده لنفس السبب، لكن الفارق هنا هو أن الأمر يتعلق بآلية معممة اتبعها أكثر من لاعب بناء على تخطيط رجل واحد يدُعى "جورجى مينديش" ووحدها الأيام ستكشف ما قد يحدث فعلًا.

المصدر : الجزيرة